لعلك مرةً أثناء وجودك في مصر سمعت أحد الباعة يُخاطب أحد الأجانب الغربيين قائلاً له: «إن هذا الأمر سوف يستغرق خمس دقائق، لكن بالتوقيت المصري». فما سر تلك المقولة؟ ولماذا يوجد توقيت مصري يُقرن بالبطء، وآخر يُقرن بالسرعة؟ إن للاستعمار البريطاني لمصر، ومن قبله وجود بريطانيا وفرنسا كقوى استعمارية عظمى تفرض سيطرةً، مباشرة أو غير مباشرة، على مصر هما أساس تلك التصورات. ولفهم ذلك فلنبدأ من حيث أتت أسس تلك التصورات مع الاستعمار؛ وسائل المواصلات!


السكك الحديدية

مثَّـل تحول الطريق الرسمي للإمبراطورية البريطانية من الطريق البري داخل مصر المعتمد على السكة الحديد، إلى الطريق المائي الجديد المعتمد على قناة السويس نقطة مفصلية تظهر فيها عدة سمات شكلت التصورات المصرية عن الزمن نتيجةً للتأثيرات الاستعمارية. فبتحول المواصلات الإمبراطورية نحو قناة السويس، هجرت الإمبراطورية الطريق البري داخل مصر ليقتصر دوره على حركة المواصلات الداخلية؛ بمعنى أن السكك الحديدية الآن لم تعد وسيلة لإيصال الجنود الإنجليز من بلدهم الأم إلى المستعمرة الهندية، بل أصبحت تلك السكك مجرد وسيلة لإيصال المصريين وغيرهم من منطقة لمنطقة داخل حدود مصر.[1]

وبدايةً من إنشاء الطريق البري في منتصف القرن التاسع عشر وحتى عام 1870م لم تعرف السكك الحديدية المصرية جداول زمنية ولا رحلات محددة بمواقيت ثابتة، وإنما كانت تابعة لأمرين: أولاً، تغيرات البيئة الجغرافية والمناخية وعثرات الطرق؛ فالقطار حين يخرج من محطته كان يمكن أن يتوقف عدة مرات بسبب عبور بعض الجمال للسكة أو بسبب عوامل جغرافية ومناخية أخرى.

أدت سيطرة الحاكم وتمتعه بامتياز التحكم في حركة القطار إلى إفساح المجال لوجود نفس الامتياز لمن يخصهم الحاكم به؛ وخاصة المسافرين الأجانب

وثانياً، رغبة الحاكم الذي رأى نفسه متعالياً عن وقت رعيته؛ فرحلات وسفر الحاكم (الخديو تحديداً) كانت توجه حركة القطار بحيث يمكن للحاكم آن ذاك أن يأمر بإيقاف جميع الرحلات إلا رحلته، أو أن يقرر التوقف أثناء الرحلة لكي يتمتع بالصيد أو ما شابه.[2]

أدى هذان العاملان لعدة نتائج: فقد سيطر على حركة المواصلات المصرية وقتها، والتي اعتمدت بشكل شبه حصري على السكك الحديدية، منطق «الصبر» وضرورته؛ فالمصريون من الطبقات الدنيا يجب عليهم أن يذهبوا للمحطة بغير معرفة لميعاد وصول القطر ولا تسلية لهم سوى الصبر. كما أدت سيطرة الحاكم وتمتعه بامتياز التحكم في حركة القطار إلى إفساح المجال لوجود نفس الامتياز لمن يخصهم الحاكم به؛ وهم بالطبع كانوا من المسافرين الأجانب.[3]

هؤلاء المسافرون اعتادوا على أن تكون المواعيد منضبطة وواضحة نظراً لخلفيتهم الغربية الناشئة على أسس الحداثة الرأسمالية، وبرؤيتهم لعدم الانضباط ولصورة الفلاح المصري الذي يذهب قبل القطار بساعات تأكدت صورة حكمت المنطق الاستعماري بأسره وهي: أن العالم غير الغربي هو مكان متأخر ولا يعرف للعقل سبيلاً، كما أنه مكان يخضع للاستبداد.[4]


النظام الجديد

بوصول الخديو إسماعيل للحكم، عُـيِّـنَ «علي مبارك» مسئولاً عن السكك الحديدية ونظام التعليم في مصر. وتلاقى الاثنان في تأثرهما بالنظام الغربي لأوروبا؛ الأمر الذي أدى إلى بداية تطبيق نظام عام لسكك الحديد المصرية يخضع لمواقيت محددة عام 1870م، وطُبِعت هذه الجداول وفقاً لتقسيم جديد لليوم لم تعرفه مصر من قبل؛ وهو التقسيم «الإفرنجي».

فاليوم المصري لم يعرف تقسيما محدد المواقيت من قبل، بخلاف اليوم «الإفرنجي» الذي يُقسم اليوم لأربع وعشرين ساعة تبدأ بانتصاف الليل، وبخلاف اليوم «العثماني» الذي يقسم اليوم ابتداءً من شروق الشمس. ولكن، نظراً لضعف المحركات، ولصعوبة الحركة نظراً لعقبات جعرافية عدة، بالإضافة لأزمة الفحم العالمية 1876-1896م فقد عانت السكك الحديدية من «بطء» ملحوظ[5].

هدفت الإمبراطورية البريطانية لتوحيد المواقيت وإدخال نظام اليوم الإفرنجي في كل مستعمراتها، ومن ضمنها مصر بوصفها معبرا للمستعمرات البريطانية

ولكن، أليس البطء أمراً يحتاج إلى معيار؟ بمعنى: مقارنةً بماذا أصبحت السكك الحديدية المصرية أبطأ؟ الجواب هو: الإمبراطورية البريطانية خاصة، والغرب عامة. ولهذه الرؤية أصولها التي ترجع إلى أن الإمبراطورية البريطانية لجأت لعدة محاولات تهدف لتوحيد المواقيت في كل أنحاء مستعمراتها خاصة الهند.

ولما كانت مصر معبراً للمستعمرات البريطانية فكانت هناك محاولات فعالة لاعتماد مواقيت الإمبراطورية[6]. وبإدخال نظام اليوم الإفرنجي، ومع بروز الغرب كقوة عظمى أصبح من الممكن مقارنة الزمن المصري بنظيره الغربي؛ ولما كان الغرب متقدماً تكنولوجياً، أصبح الزمن في مصر يسير ببطء مقارنة به.

وأدى تطبيق النظام المركزي للسكك الحديدية، إلى ضرورة إدخال نظام عقابي جديد؛ خاصة وأن القائم عليه كان «علي مبارك». هذا النظام هو نظام تعمل به المجتمعات الغربية بشكل خاص وهو: نظام «المهنة الثابتة» التي تعني بدء العامل/الموظف في مهنة ما يترقى فيها ويحظى براتب ثابت يعتمد على أدائه و يكون معرضاً للزيادة؛ فالحافز في هذا النظام هو الترقي في المهنة، والعقاب هو الخصم[7].

وطُبق هذا النظام على العمال الأجانب الذين شغلوا مناصب المدراء في السكك الحديدية حصراً، بينما المصريون لم يحظوا بمثله، وإنما ظل نظام العقاب الجسدي والعمل الثقيل مطبقاً عليهم؛ مما أدى لإيجاد شعور بالاغتراب بين العامل المصري ونظام العمل الذي يعتمد على الوقت.[8]

يجمع كل هذا خيطاً واحداً: أن دخول التكنولوجيا إلى مصر على متن القطار أدى إلى إيجاد صدمة تتعلق بالوقت: فالمصري الآن يتبع تقسيماً لليوم لم يعهده من قبل، كما أن نظام عمله يعتمد على انضباط محدد تبعاً للوقت لم يعهده أيضاً، بالإضافة إلى أن نمط حياته أصبح يُقارن بنمط حياة آخر يُنظر إليه على أنه المعيار.


بين الزمن الحداثي والزمن المصري

غالباً ما تُعرض تكنولوجيا المواصلات في المخيال الليبرالي على أنها من جنود الحداثة العلمانية؛ فهي ليست وسيلة بريئة من الافتراضات، بل هي تحمل على متنها تصوراً عن زمن «أجوف ومتجانس»؛ أجوف بمعنى أنها تسعى لنشر صورة عن زمن لا يوجد فيه للمقدس أو الإلهي مكان، ومتجانس بمعنى أنه لا يُقبل فيه وجود تصورات متعددة عن الزمن، وإنما هو تصور خطي موحد[9]. ومع الاستعمار، وبفرض هذه النظم على المصريين، كان لابد من وجود أثر كبير تؤديه هذه الافتراضات على التصورات المصرية عن الزمن؛ فما عساه يكون هذا الأثر؟

للوصول لهذا الأثر، يجب التوقف أولاً عند فرضية أخرى تحملها الحداثة الرأسمالية عن الزمن؛ وهي أنه زمن صناعي Industrial: فالزمن في تلك الصورة لا ينبغي له أن يتواجد في داخله وقت فراغ، ولا أعياد مقدسة، وإنما هو خلوٌ من كل ذلك لصالح منطق العمل الرأسمالي[10]. وبتطبيق ذلك على وسائل المواصلات يمكن أن نفهم لماذا تُفضل دوماً الوسيلة الأسرع؟ فهي توفر الوقت. وبدخول القطارات إلى مصر على الخلفية سابقة الذكر يمكن أن ننظر في بعض تداعيات هذا الأمر.

لعل أبرز مشهد للمقدس في مصر هو قبور الأولياء والمقامات والأضرحة؛ وهي أماكن يقصدها المصريون المسلمون بكثرة بُغية التبرك بها وعندها. ويتبعها من حيث عدد الزوار أيضاً كنائس وأديرة يقصدها الأقباط لنفس الهدف. ويترتب على هذه الأماكن «المقدسة» وجود أعياد ومناسبات تتطلب لدى الكثيرين إيجاد وقت مخصص لها.

وبدخول القطارات كوسيلة المواصلات الأساسية آن ذاك فإن هذه القطارات أصبحت تستخدم للذهاب لتلك الأماكن. وبالطبع هذه التصورات تقف في تضاد مع التصورات الحداثية الرأسمالية سابقة الذكر، كما أنها تُربك حركة المواصلات بشدة، لكنها أيضاً تدر دخلاً كبيراً للحكومة.

إن من أبرز من وضحوا هذه الإشكالية بعد علي مبارك نفسه، هو «محمد عمر» صاحب كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم»، هذا الكتاب الذي خط مقدمته «أحمد فتحي زغلول»، أخو الزعيم الوطني «سعد زغلول». ونجد كلا من عمر، وزغلول يتبرمان من عدة أشياء لم يكن من الممكن لها أن تظهر دون دخول الافتراضات الحداثية الرأسمالية سابقة الذكر.

فمثلاً، يؤكد كل منهما على أن الموالِد تتبع التقويم العربي؛ الأمر الذي يجعلها قد تقع في الصيف أو الشتاء مما ينتج عنه غياب أي إمكانية لمعرف ثابتة بميعاد المولد. كذلك فإن تلك الموالد تشهد نشاطات تهدد فعالية المشاركين فيها من حيث تأثيرها على صحتهم؛ الأمر الذي يعني أنهم لن يكونوا قادرين على العمل بكفاءة من جرَّائها. والحلول المقترحة هي تنظيم تلك الموالد وفقاً للتقويم الميلادي حتى يسهل تنظيم حركة القطارات[11].

وكانت الحلول المقترحة من علي مبارك في كتابه «الخطط التوفيقية الجديدة» عام 1886، قبل كل من عمر وزغلول، لنفس المشكلة، هي التعليم لرفع الجهل حول تلك الموالد، وإيجاد منظومة رقابية ومعرفية تحصر هذه الموالد وتشرف عليها حتى يُتمكن من تسهيل المواصلات لها[12]. وفي كلتا الحالتين فإن من يحضرون هذه الموالد أصبحوا موضوعاً يجب أن يُعاد تهيئته لتقبل الظروف الجديدة.


«العجلة من الشيطان»

نظرا لأن الموالد تتبع التقويم العربي، وقد تقع في الصيف أو الشتاء، ظهر الاقتراح بأن يتم تنظيمها وفقا للتقويم الميلادي حتي يسهل تنظيم حركة القطارات

هذه المساعي «الإفرنجية» لإعادة تهيئة الذات المصرية لتقبل مفاهيم جديدة عن الزمن والوقت، اصطدمت بتصورات أخرى كانت سارية في مصر آن ذاك ولعل أهمها اعتقاد بأن «العجلة من الشيطان». فقد تواترت الأخبار والشهادات على أن المصريين رأوا في ساحة السكك الحديدية والقطارات مجالاً يعيش فيه الشياطين؛ ومن هنا كانت ممارسات عدة مثل أن المرأة المصرية في الريف كانت تُنصح إذا كانت عاقراً بأن تذهب لتستلقي على قطبان السكك الحديدية ومتى عبر من فوقها القطار سوف تتمتع بالقابلية للولادة؛ وفُـسَّـر هذا بأن قرينة المرأة من العفاريت سوف تتلبسها حال مرور القطار لتضع مولوداً في رحمها[13]. وكان هذا الاعتقاد تحديداً محل جدال واسع بين النخب المصرية المقتنعة بضرورة نزع القداسة عن هذا العالم.

وتزَّعم هذه النقاشات كل من «محمد عبده»، وتلميذه «رشيد رضا»، كذلك «محمد فريد وجدي»، وصدرت عدة مجلات وكتب حول هذه المسألة. وأجمعت هذه المساعي على أن أي أثر لبعد «ميتافيزيقي» متعلق بالعفاريت أو الجن أو الأولياء، فإنه يجب أن يُرد إلى أسباب علمية محددة[14]. فقد كان الخوف من العفاريت وما شابه شائعاً بين المصريين وقتها؛ إما لاعتقاد جاد فيها، أو لاعتقاد آخر يرى وجوب إخراجها من الحيز الزمني حتى يمكن الاستفادة من التكنولوجيا والتخلص من الأساطير.

تمكنت الحداثة الرأسمالية من تحويل الزمن إلى زمن صناعي، لكنها لم تستطع أن تزيل الطابع المقدس له. وهو ما سبب ارتباك لدى المصريين

وبمرور الوقت بدأ يُنظر لهذا الخوف على أنه يجب أن يكون قوة فاعلة تُمكن الجميع من العمل؛ فعلى الأم المصرية، وفقاً لمحمد عمر، وقاسم أمين وغيرهما، ألا تدع طفلها دون مراقبة طوال اليوم بل عليها أن تُعيد عليه وتكرر عدم وجود جن ولا عفاريت حتى يتحرر من سلطة الأساطير التي ستعيقه عن العمل، ودُعي لهذا الخطاب أن يُطبق في كل المناحي[15].

ويعني هذا عدة أمور: أولاً: أن الزمن الآن لم يعد يُنظر إليه على أنه أخروي يبدأ من الإله ثم يمر بعدة مراحل الهدف منها هو تحقيق السعادة الأخروية، بل أصبح يُنظر إليه على أنه طولي يتم التركيز فيه على ما هو حاضر هنا والآن لصالح هدف أرضي. وثانياً، أن الحداثة الرأسمالية تمكنت من تحويل الزمن إلى زمن صناعي، لكنها لم تستطع أبداً أن تزيل الطابع المقدس له. ونتيجة لذلك حدث ارتباك جديد لدى المصريين بأن أصبح الزمن عندهم تتضارب فيه الافتراضات؛ التقليدية، والحداثية.

فإجمالاً، أدى وصول الاستعمار على متن القطارات والترامات إلى إرباك التصورات المصرية عن الزمن؛ بحيث أصبح الزمن في التصور المصري مقدساً ولا مقدس، محلاً للعمل الأرضي ومحلاً للعمل الأخروي، محلاً للانضباط ومحلاً لوجود إمكانية دائمة لعدم التيقن. ولذلك لا عجب أن المشهد الأبرز في ثورة 1919م كان مشهد قيام مجموعة من المصريين بالهجوم على الترام وعلى القطارات؛ في دلالة على ما أحدثه ذلك في حيواتهم.

المراجع
  1. On Barak, «On Time: Technology and Temporality in Modern Egypt», (California, University of California Press, 2013), p.70
  2. Ibid., p.71
  3. Ibid., p.72/73
  4. Timothy Mitchell, «Colonising Egypt», (California, University of California Press, 1991), Chapter 1
  5. Barak, «On Time», p.78
  6. Ibid., p,69
  7. M. Reynolds, «Engine-Driving Life», (London: Crosby Lockswood, 1881), p. 79
  8. Omar Abdel Aziz, «Anglo-Egyptian relations and the construction of the Alexandria-Cairo-Suez railways: 1833-1858», (London: University of London Press, 1966) 9. 273
  9. Giorgio Agamben, «Infancy and History», Trans. Liz Heron, (London: Verso, 1991), p.91
  10. E.P. Thompson, «Time, Work-Discipline, and Industrial Capitalism», Past and Present 38 (December, 1987)
  11. محمد عمر، »حاضر المصريين أو سر تأخرهم «، (مصر: مطبعة المقتطف بمصر، طبعة 1902)، صـ: 223، 255-274
  12. علي مبارك، »الخطط التوفيقية الجديدة: لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة «، (مصر، المطبعة الكبرى الأميرية، سنة 1306 للهجرة، الطبعة الأولى) المجلد الأول
  13. Winifred Blackman, «the Fellahin of Upper Egypt», (Cairo: AUC Press, 2000), p. 101-102
  14. انظر مثلاً: محمد رشيد رضا،« تفسير المنار»، (دار المنار، 1947). كذلك: Qasim Amin, «The Liberation of Women, and, the New Woman, Trans. Samiha Sidhom», (Cairo: AUC Press, 2000), p.26-27