بعد أن قضى أعوامًا في دراسة الدين الإسلامي، قرر أن يقدم لنا الأزهري علاء عبد الحميد عصارة رحلته في البحث عن الحقائق، والتي استوثق خلالها مما تعلمه، وفهم ما خفي عليه، سعيًا للارتقاء في سلم المعرفة.

لا يُقدم كتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين؟» تفسيرًا للدين بشكل ما، بقدر ما يتحدث عن فهم كاتبه للدين من وجهة نظر شخصية.

لم يتحدث «عبد الحميد» في المعاني الكلية للدين، ولم يشتبك مع القارئ في القضايا الجزئية، إلا أنه أبدى رفضه لفكرة انفصال العلوم الشرعية عن الإنسان في السنوات الأخيرة، حتى صارت حقائق صارمة لا يعلم الطالب أو حتى العالِم ما أصل المشكلة الإنسانية التي نشأ لحلها هذا العلم، فصار الفقه يُحفظ كقوانين، وهو ما يركز على توضيحه في كتابه.

نشأ كاتبنا بخلفية دينية منذ الصِغر، فبدأ دراسة الدين في عمر مُبكر، متأثرًا بالأئمة شمس الدين القرطبي، وأبو البركات النسفي، وأبو حامد الغزالي، وغيرهم، قبل أن يُكمل دراسته للدين من بوابة الأزهر الشريف.

إذن نحن أمام كاتب يتحدث عن الدين من خلفية علمية معرفية بحتة، شعارها الرئيسي الرأي والنقاش، فمن النقاش تظهر قوة الرأي، ويقوى الصواب، ويضمحل الخطأ.


إشكالية «النقل» الكبرى

الخطاب الإلهي لا يدخل – بالنسبة لنا في هذه الدنيا – في دائرة المحسوسات، إنه أمر (غيبي) بلّغه الأنبياء عنه. إذًا، لا سبيل للوقوف عليه إلا بمعرفة ما أخبرونا به، والخبر يفتقر إلى سماع من المتكلم. فإن غاب عنا المتكلم لبعد المسافة أو سبق الزمان، فلا محيص من (النقل) عنه.
مقتطف من الكتاب

يبدأ الكاتب حديثه «الديني – الدنيوي» بالحديث عن إشكالية مهمة، ألا وهي «النقل»، تحديدًا نقل الأخبار والأحداث من شخص إلى آخر، والتي يختلط فيها الحق بالباطل، فيرى الكاتب أنه من الجنون أن نُصدق كل ما نسمعه، وفي المقابل من الجنون أيضًا أن نُكذِّب كل ما تمليه علينا الألسنة.

تحدث عبد الحميد عن مسألة النقل، كونها أحد أهم مصادر الوصول للمعرفة، لكنها في أحيانٍ كثيرة تفتقر إلى الثقة، أولًا، في عملية استقبال الخبر، وثانيًا، في التأكد من مضمونه، ومن هنا نُبحر مع الكاتب في مسألة «النقل».

يستفيض الكاتب في حديثه عن النقل، وكيف اعتمد عليه ليُشكل وجهة نظر صائبة عن الدين، وكيف اعتمد من قبله، من أهل الحديث والفقهاء والمؤرخين، على النقل أيضًا في كتاباتهم ودراساتهم، ليبدأ في الإجابة على أسئلة: ﻛﻴﻒ ﻭﺻﻞ ﺇﻟﻴﻨﺎ هذا ﺍﻟﺪﻳﻦ؟ كيف وصلت إلينا القضية المنقولة عبر ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻭالعلماﺀ، ﻭﻛﻴﻒ فهمناها؟ ﻭﻛﻴﻒ ﻧﺴﺘﻮﺛﻖ ﻣﻦ ﺻﺤﺘﻬﺎ؟

قسّم الكاتب «النقل» إلى ثلاث مراحل رئيسية وهي الناقل، وعملية النقل، والخبر المنقول نفسه، ويبدأ حديثه عن أولى المراحل، وهي «الناقل»، ليناقش إشكالية أكثر تعقيدًا، وهي صحة ما نقله رواة الأحاديث، كونهم «نقلة»، والمراحل التي مر بها أهل الحديث حتى يخرج لنا نصًا في النهاية، مستندًا على أسس الدراسة لعلم الحديث، والشروط الخمسة لتوثيق السنة النبوية وهي: «اتصال السند – عدالة الراوي – ضبط الراوي – الخلو من الشذوذ – الخلو من العلة»، بدايةً من عدالة الرواة وظاهرهم، مرورًا بمرحلة البحث، وصولًا إلى النص النهائي.

لم يخض الكتاب في التدقق من صحة الأحاديث وصحتها، بقدر ما ركز على أن الأحاديث ليست سوى اجتهاد شخصي، قد تكون تغيرت ألفاظها عن النقل من راوٍ لآخر، فقد اعترف أن بعضهم بالفعل رجال من نمط فريد، إلا أن كثيرًا منهم من نمط عادي، طلبوا العلم لينقلوا ما تعلموه للناس، فالحديث ينتقل من جيل لجيل حفظًا وكتابة، ولكن ما مدى انضباطه؟ لذلك يعمل الكاتب على تحليل عملية «النقل»، دون الخوض في مزيد من التفاصيل.


شكوك عملية النقل

مقتطف من الكتاب

دعنا نشيد بإدخال الكاتب للمواقف الحياتية المختلفة، للتأكيد على حديثه في كل مرة وإثبات فكرته، ما يُسهل على القارئ عملية استيعاب الفكرة، وهنا برواياته لموقف بسيط، استطاع أن يشرح وجهة نظره في عملية «النقل» بين قائل الخبر ومتلقيه. وعلى سبيل المثال، استشهد الكاتب بالموقف السابق، فالمريض الذي أوشك على الموت يسهل تصديق خبر وفاته، من تصديق لخبر وفاة مفاجئ لشاب قوي صحيح مثلًا.

يريد الكاتب هنا شرح فكرة بسيطة، يعبر عنها علماء النقل بـ«القرائن المحتفة بالأخبار»، بمعنى أن خبرًا واحدًا لا يُفيد أكثر من الظن لجواز كذب الراوي، وقد تقترن بالخبر قرائن تقطع كل احتمال بكذبه، فيسهل العلم بمضمونه، وهذا المتلقي لم يستفد من نفس الخبر وإنما استفاد منه بواسطة القرائن، كل هذا على شرط أن يكون المُخبر عدلًا.

يريد الكاتب التأكيد على أن الناس ليسوا على شكل واحد في التأثر من القرائن المحتفة بالأخبار، فرب رجل سريع التأثر يصادف في إنسان الصدق، ويصادف خبره قرائن تزيد من ذلك الاعتقاد فيحصل له العلم، ويوجد بجانبه رجل آخر ليست عنده هذه العقيدة فيظل الشك يحوم حوله، ولا يكاد يجزم بذات الرواية التي صدقها الأول.


اختلاف المعارف النقلية

في أيام والدي – رحمه الله – الأخيرة ساءت حالته ونقلناه إلى المستشفى، وجدت أخي يتصل بي صباح يوم يخبرني بوفاته، لم أشك لحظة في الخبر، فقد قارب الوالد – رحمه الله – الثمانين وحالته شديدة التدهور ومحجوز في العناية، لا مجال للشك في «الخبر». على عكس الأمر كان الحال مع أمي – رحمها الله – فبرغم مرضها الطويل فإنها رحلت فجأة عنّا، لم تكن هناك مؤشرات للنهاية، وإن كنا نعرف اقترابها، اتصلت بأخي المسافر فكان أول رد فعله: أتمزح؟
هل إن صحّ حال الناقل، وانتفت أحوال الوهم عن عملية النقل، هل نصدق المنقول أيًا كان؟ أم أن لنا نظرًا أيضًا في كِنه الخبر ومعناه وحقيقته؟
مقتطف من الكتاب

فكرة رئيسية يتعمد الكاتب إبرازها في نهاية كتابه، فليست كل معارفنا النقلية على درجة واحدة من اليقين والقوة؛ بل منها ما نقطع بثبوته لقائله، ومنها ما يغلب على ظننا صحته، ومنها ما نحن منه في شك، بل حتى الضعيف الذي لم يثبت لقائله ليس على مرتبة واحدة، فمنه ما نقطع بأنه كذب وافتراء، ومنه ما نتشكك أو يغلب على الظن أنه لم يقله، وإن كان في صدوره عنه احتمال؛ لذا فالأحاديث الضعيفة – لا الموضوعة لا نجزم بردها، بل نستفيد منها في تقوية حديث صحيح أو في العمل بها في محاسن الأخلاق التي يكفي للعمل بها كونها حكمة، فإذا كنا نقبل الحكمة ولو من غير المسلم فمن باب أولى إذا جاء حديث غلب على ظننا أنه غير صحيح ولكن كان معناه موافقًا للشريعة داخلًا في أصولها الكلية فلا بأس من العمل به.

والسر في ذلك أن التصحيح والترجيح عملية اجتهادية تعتمد على القرائن الظاهرة، وقد يصدق الكاذب ويخطئ الصادق، فلا نجزم بالثبوت دائمًا كما لا نجزم بالرد دائمًا.

فإن كان الجميع يرى أنه يملك تفسير الدين، فلا أقل من أن يكون من حقي أن أتكلم عن الدين كما أفهمه وأراه.
مقتطف من الكتاب

نحن أمام مقالات علمية المحتوى واللغة إلا أنها مُقدمة في صورة أدبية، كما أن خطابها ليس موجهًا للأزهريين والأكاديميين بقدر ما هو موجه للقارئ المثقف الذي حيل بينه وبين رؤيته للبناء العلمي لهذا الدين، يسترسل معه في الفكرة ويجيبه عن كل إشكال.