ربما تقرأ هذا التقرير بعد أن حوّلتك صفحة «إضاءات» على موقع فيسبوك إلى هنا…

أهلًا بك في البداية…

وربما قبل ذلك بلحظات كنت تستبعد إعلانًا أو منشورًا ضمن المحتوى المقترح لك على فيسبوك، بعد أن بحثت عن كلمة مفتاحية مرتبطة بهذا الإعلان أو ذاك المنشور المُموّل، وربما كنت تبحث وتتابع منشورات الأخبار والصفحات والأشخاص التي تتشكل منها صفحتك الرئيسة على فيسبوك، والتي تشبهك وتتوافق مع آرائك وتوجهاتك وأيديولوجياتك؛ إذ إنك تنتقي وتستبعد ما أو منْ تريد من عالمك «السوشيالي»، مُستغلًا تلك الميزة التي يوفرها فيسبوك، فأنت تخلق عالمك، وتضم إليه كل ما أو من تريد.

ولكن دعني أسألك: هل أنت من شكّلت هذا العالم؟ أم أنه هو الذي شكّلك؟ بمعنى أنك تختار وتُنشئ أم تقوم الخوارزميات ذات الذكاء اللعين بتقديم اقتراحاتها وانتقاءاتها التي تناسبك؟

وسؤال آخر إذا اتسع صدرك: هل أنت بذلك تخلق عالمًا تتحكم في اتساعه وضيقه أم تلقي بنفسك في فجوة عميقة تزداد عمقًا كلما ظننت أنك «جبت آخرها»؟

فضلًا لا تتعجل الإجابة عن هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة.

1. فجوة ملكة الجمال

عام 2018، قُدر عدد مستخدمي السوشيال ميديا بنحو 2.65 مليار شخص، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى ما يقرب من 3.1 مليار عام 2021، وهو ما يمثل نحو 40% من سكان العالم، المُقدر بأكثر من 7.7 مليار نسمة، وهذا يوضح مدى تنامي ذلك العالم الافتراضي، ويمثل وجهًا من وجوه تأثيره على العالم الحقيقي، بحيث بات يتحكم في أمور عدة بالكون، ويؤثر علينا بصورة كبيرة وشاملة.

ذلك التأثير وصفه مدير أحد المختبرات العلمية بأنه «فقاعة وسائل الإعلام الاجتماعية» التي لا تربطنا كما نتوهم، بل إنها موطن لصلات اصطناعية ضعيفة؛ لأن زيادة عدد الأصدقاء على هذه المواقع لا تصاحبه زيادة الثقة فيهم أو زيادة الود المجتمعي، فمواقع التواصل لا تزيد الحب؛ فهي مليئة بالكراهية والتنمر والعنف والاستبعاد ووهم الاختيار، وأغلب المعجبين لا تُوصف علاقتنا بهم بالصداقة، كما تحولت كثرة الأصدقاء إلى سلعة ذات قيمة كبيرة لدى المعلنين، وكل ذلك أدى إلى أن تُنتج لنا مواقع التواصل ما سماه «ثلاثة سرطانات» تتغذى من حيوية الشبكات الاجتماعية، وهي: عدم الاهتمام بالكفاءة، والاستثمار في محتوى منخفض الجودة، والضعف المستمر للإنترنت كقوة من أجل الخير؛ فهو لا يجعل الناس أفضل حالًا بل يجعل المعلنين أفضل حالًا، فهو أشبه بمسابقة ملكة الجمال؛ حيث يقوم على جذب الانتباه وحصد الإعجاب بدلًا من صنع أشياء رائعة.

2. فجوة الوهم

أصبحت مواقع التواصل لاعبًا رئيسا في الخدمات التجارية والإخبارية، وربما على هامش ذلك خلقت السوشيال ميديا (أو ساهمت في خلق وانتشار) أعمال وهمية، أغلبها دعائي أو إيحائي، مثل: «اللايف كوتش» و«الفاشونيستا» و«اليوتيوبرز» و«الإنفلونسرز» و«البلوجرز» و«الجيمرز» و«الفريلانسرز»، ومن على شاكلتهم من «ذوي الفولورز»، وأغلبهم –ليس كلهم- يبيعون الوهم أو بالتعبير الشعبي «بيعبّوا الهوا في أزايز»، ولا تخرج بفائدة على أي مستوى إلا من أقلهم، وعدد متنامٍ من هؤلاء «المؤثرين» يتحصّل على مبالغ مالية في مقابل الدعاية للعلامات التجارية، وهي أمور مادية لا تخضع لقوانين أو معاملات رسمية، وهو ما خلق لدى الكثيرين وهم الشهرة السريع والمال الوفير بلا رقيب أو مأمور ضرائب، وأدى ذلك إلى رواج وسطاء يوفرون المتابعين الوهميين للأفراد والمؤسسات من خلال حسابات آلية مزيفة، وهو ما يخلق تأثيرًا وهميًا صعب التنبؤ، في ظل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي لتصبح أقدر على التأثير في المتابعين.

وبسبب رواج برمجيات حجب الإعلانات، أصبح للتسويق عبر المؤثِّرين دور مهم في مساعدة المعلنين على حل مشكلة عزوف العملاء عن الإعلانات، في ظل استغلال ثقة المتابعين في الشخص المؤثر، ومع تزايد عدد المؤثِّرين ظهرت شركات ناشئة وسيطة بينهم وبين أصحاب العلامات التجارية، لا تكتفي بالوساطة، بل تتكفل بالاستراتيجيات والحملات الدعائية ومتابعتها، والوصول والتعاقد والاستفادة من ترويج المؤثرين، فيما يشبه عمل الوكيل الإعلاني التقليدي، لكنها تعمل باستراتيجيات ومبادئ منها –بحسب أحد هذه المواقع– «أن العلامات التجارية لم تعد ما نقوله عنها للجمهور، بل ما يقوله الجمهور عنها لبعضهم البعض»؛ لأن أغلب المستهلكين باتوا يثقون في توصيات المستهلكين أمثالهم، وهو ما دفع تلك المنصات الوسيطة إلى خلق وتضخيم وهم المؤثرين؛ تطبيقًا لقاعدة «فِيد واستفيد»؛ فهم من ناحية يدعمون ويصنعون المؤثرين، ومن ناحية أخرى يبيعون تأثيرهم للمعلنين، بدعوى أن عملية التعاقد مع المؤثرين –بحسب موقع آخر– «ليست سهلة، وتحتاج إلى وقت وجهد، وتوفر الكثير من ميزانية الإعلانات، وتضمن نتيجة أفضل من الإعلانات التقليدية»، وكل ذلك يساهم في تعميق فجوة وهم «السوشيال ميديا».

3. فجوة التصفية

في يونيو/حزيران 2019، نُشرت دراسة بعنوان «فهم تصفية الفقاعات والاستقطاب في الشبكات الاجتماعية»، أشارت إلى أن استخدام «السوشيال ميديا» زاد من الاستقطاب؛ بسبب ما تخلقه من «فقاعات تصفية» من خلال المحتوى المقترح الذي يظهر للمستخدمين، حيث تقوم خوارزميات الشبكات الاجتماعية بإنشاء غرف صدى للمستخدمين المتشابهين في التفكير، تُحاكي غرف الصدى في شبكات العالم الحقيقي.

وفي حين نتوهم أن «السوشيال ميديا» توسّع آفاقنا، وتمنح صوتًا لمن لا صوت له، وتوفر الرؤى والاختبارات والنقاشات والتعلم، إلا أنها باتت تعوقنا أكثر من أي نشاط آخر، خاصة حينما تُشعرنا بأن العالم بأسره يوافقنا، لذا لم يكن التأثير الأعظم لها هو جمع العالم بل تصفيته وتمزيقه.

4. فجوة العمر

يُمكّننا «الواقع الافتراضي» من إضافة ما أو منْ نود إضافته إلى حياتنا، وحجب ما دون ذلك، فهو يجذبنا نحو أشخاص يرون العالم بطريقة مماثلة ترفض التضاد والاختلاف، وتهتم بالتفاعل فيما بينها فقط، وهو ما دفع عالمة الاجتماع «آن كاربف» مؤلفة كتاب How to Age «كيف نشيخ؟»، إلى التأكيد على أن العالم الرقمي لا يهتم بالربط بين الناس بقدر اهتمامه بالتفاعل؛ إذ يحد من التواصل بين الأجيال، ويزيد التفاعل بين فقاعات الشباب، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، وصفتها بـ«فقاعة العمر»، والتي تنتج من تضاؤل ​​الاتصال بين الأجيال، وتصنع قوالب نمطية، يبدو فيها الأمر على النقيض بين مُسنَّين يفتقرون إلى التكنولوجيا وشباب يتقنونها، وهو ما يخلق الفقاعات، ويوسّع الفجوة بين الأجيال.

5. فجوة التآكل

ذهب أحد تقارير فوربس إلى أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت بمثابة العدسات التي يرى الأكاديميون والنقاد وصانعو السياسة والصحافة من خلالها العالم، في ظل أنها صارت وسيلة نشر -وربما تحديد- لسياسات الحكومة الأمريكية وكل وكالاتها الرسمية، وبدورها أصبحت الصحافة امتدادًا لتلك المنصات؛ لملاحقة الأحداث والتعليقات.

ونتيجة للاختلافات الصارخة بين الروايات السائدة على مواقع التواصل واستطلاعات الرأي التقليدية، انعكست تأثيرات خطيرة على المجتمع والديمقراطية، ومنها حقيقة مؤسفة مفادها أن الصحافة والطبقة السياسية والأوساط الأكاديمية باتت تتآكل، في ظل أنها تعيش داخل فقاعات منصات التواصل، وهو ما يجعلهم غافلين عن العالم الحقيقي، لذا انتشر بيننا ما وصفه التقرير بـ«زومبي الهواتف الذكية» الذين يحدقون في شاشتهم ولا يدركون ما يحدث حولهم، ومنهم النخب التي أصبحت معزولة عن الجماهير، وتعيش في وهم منصات التواصل، معتقدين أنه من خلال الاستماع إليها والرد عليها يمكنهم خدمة المواطنين بشكل فعّال، وكذلك الحال بالنسبة للصحافة، حيث يتنافس الصحفيون على أحدث مغامرات السوشيال ميديا متناسين العالم الشاسع الذي يقع خارج حدودها.

6. فجوة التحيّز

لم تكوّن منصات التواصل الاجتماعي فضاءً مثاليًا للاتصال الإنساني بل أدخلت ظواهر أثّرت على الانتخابات وهدّدت الديمقراطية، فعند تفاعل الأشخاص مع آخرين يشاركونهم آراءهم السياسية، وينتج عن ذلك مجتمع مصغّر يؤثر على النقاش السياسي، ويكون ذا عواقب هائلة؛ إذ يتأثر سلوك الأفراد في الواقع بنقاشات منصات التواصل الاجتماعي المنحازة، وهو ما يتبلور واقعيًا في صورة تحيّز انتخابي وتصويتي يساهم في زيادة الاستقطاب السياسي للناخبين، في ظل أن الأحزاب التي تحاول كسب النقاش العام تهتم بكيفية نشر نفوذها عبر الشبكات الاجتماعية.

وفي دراسة رياضية وتجريبية قام بها موقع The Conversation بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أثبتت أن تلك «الفقاعات السياسية» تؤثر بشكل كبير على القرارات السياسية، واعتمدت الدراسة على تحليل البيانات المنشورة حول استهلاك السوشيال ميديا من خلال نشر الأخبار والتدوينات والتغريدات في الأسابيع التي تسبق الانتخابات الرئاسية، إلى جانب المقالات التحليلية والرؤى السياسية المنشورة على السوشيال ميديا، وكل ذلك يخلق «هياكل فقاعية» تُترجم واقعيًا إلى تحركات للساسة، وتصريحات دعائية في فترة الانتخابات، وهو ما ينتج تحيّزًا منتظمًا نتيجة لتفاعلات مواقع التواصل.

7. فجوة الانتخابات

تتحول منصات التواصل الاجتماعي أثناء فترات الانتخابات إلى ساحة انتخابية بين مؤيد ومعارض ومقاطع ومُحلل، وهو ما جذب باحثين بريطانيين لدراسة كيفية استخدام حسابات التواصل لتغيير النقاش السياسي، وتوصلوا إلى أن رأي «السوشيال ميديا» واحد من أقوى اللاعبين في الانتخابات البريطانية، وهو أيضًا واحد من أكثر الأمور إبهامًا.

وبحسب تقرير للجارديان، فقد أجمع خبراء انتخابات بريطانيون على أن المناقشات على منصات التواصل الاجتماعي –وتحديدًا فيسبوك- ذات تأثير هائل على التصويت وكيفيته، وهو تأثير يصعب قياسه أو دراسته؛ لأن المستخدمين لا يشاركون شيئًا فعليًا ملموسًا، هذا إلى جانب الطرق التي تستخدمها الحسابات الآلية والوهمية والموجهة لتغيير النقاش، فضلًا عن ترويج معلومات خاطئة في قضايا حيوية.

وتوصل الباحثون إلى أن الأزمة تأتي من فقاعات الأخبار والبيانات الناتجة عن المعلومات الخاطئة؛ حيث ينقل فيسبوك أخبارًا مزيفة إلى أعداد كبيرة من المستخدمين، أما المشكلة الأعمق والأكثر إثارة للخوف في نظرهم، فكانت التواجد والتفاعل الحيوي في هذه البيئات الإلكترونية، بحيث لا نرى ولا ندرك أي شيء خارج فقاعاتنا الخاصة على هذه المواقع التي صارت رابطنا بالعالم، والتي تتحكم فيها وفينا وفيما يتدفق علينا من أخبار أمورًا دعائية وترويجية، وخوارزميات ذكاء اصطناعي مجهولة وخبيثة.


كل ما سبق هو فقاعات افتراضية تخلق فجوات واقعية، تؤثر بشكل سلبي ملحوظ خطورته على الواقع الحقيقي، بحيث باتت «السوشيال ميديا» أداة لتشكيلنا وترسيخ معتقداتنا، وهو ما ينذر بخطورة قائمة متنامية قد تخرج عن السيطرة؛ بسبب التقوقع في الفقاعات الافتراضية أو الغرق في الفجوات الواقعية، وربما للخروج من الهاوية يجب أن نترك هواتفنا وننظر إلى العالم الشاسع الذي نعيش فيه.

أمر أخير: لا تنسَ الإجابة عن الأسئلة في بداية التقرير، سيفيدك ذلك كثيرًا.