التوسع الجغرافي، حلم راود العديد من الحكام في بدايات تأسيس دولتهم، وسعوا مخلصين لتحقيق هذا الحلم، ومنهم حكَّام الدولة الفاطمية التي نشأت في المغرب العربي، ففي بداية دولتهم سعوا للاتجاه شمالًا أملًا في دخول الأندلس، ونشر المذهب الشيعي فيها، لكن جميع محاولاتهم فشلت، لذلك قرروا أن يتجهوا شرقًا، وظل حكامها خمسين عامًا حتى حققوا هذا الحلم، حيث استطاعوا دخول مصر وضمها للدول الفاطمية، سنة 358هـ/968م.

طموح لا يهدأ

استقرار الأوضاع للدولة الأخشيدية في مصر المؤيدة من الخلافة العباسية كان عائقًا أمام الفاطميين، الذين أرسلوا أكثر من حملة عسكرية لضمها، وذكرها إبراهيم السيد القلا في كتابه «تاريخ مصر الإسلامية وجوانب من حضاراتها»، ففي سنة 301هـ/913م، وصلت أولى الحملات الفاطمية إلى مصر، واستطاعت دخول الإسكندرية ومنها إلى الوجه البحري ثم اتجهت جنوبًا، ولكنهم انهزموا على أيدي الجنود العباسيين في مدينة الفيوم، أما الحملة الثانية فكانت برًّا وبحرًا واستطاع الفاطميون دخول مدينة الإسكندرية، سنة 307هـ/919م، ولكنهم انهزموا مرة أخرى عندما اتجهوا جنوبًا، كما حُرِقت سفنهم.

فيما بعد، مهَّد ضعف الدولة الإخشيدية، وسوء الأحوال الاقتصادية في مصر، مع انخفاض منسوب نهر النيل سنة 351هـ/962م، إلى تشجيع الدولة الفاطمية على إرسال حملة جديدة بقيادة جوهر الصقلي، الذي دخل الإسكندرية دون مقاومة، سنة 358هـ/268م، ومنها إلى الجيزة ثم الفسطاط، التي استقبله أهلها ورجال الدولة والعلماء والقضاة وكبار التجار، للتهنئة وطلب الأمان، وهو ما منحه لهم.

الوعود الكاذبة

تحدث خطاب الأمان عن احترام المذهب السني، وعدم السعي لتغير مذهب أهل مصر، ومنحهم الأمن الأمان على أرواحهم وأموالهم ودينهم ومذهبهم ونمط حياتهم الذي ألفوه، وعدم التدخل في عمل الفقهاء والعلماء.

سعى هذا الخطاب لتجنب غضب الناس، والتخطيط الجيد للبدء في نشر المذهب الشيعي، وكسب بعض الوقت، لبناء مدينة القاهرة في شمال مدينة الفسطاط، التي أحاطها بأسوار منيعة، للحفاظ على القصور والمساجد والخليفة وحاشيته ومعتنقي المذهب الشيعي، وحتى لا ينال غضب معتنقي المذهب السني المقيمين في الفسطاط وغيرها من المدن القريب للقاهرة، التي انتهي البناء فيها سنة 361هـ/971م، وانتقل لها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، سنة 362هـ/972م، فأصبحت بذلك عاصمة الخلافة الفاطمية.

علماء السلطان

لم يمضِ الكثير من الوقت، حتى بدأ الصقلي في استمالة العلماء ضعيفي النفوس، لتنفيذ خطته، ونشر المذهب الشيعي، فعزل إمام وخطيب مسجد عمرو بن العاص، الشيخ عبد السميع بن عمر العباسي، وعيَّن مكانه نائبه هبة الله أحمد، أول من دعا للخليفة الفاطمي على منابر مصر، وتلاه أمثاله من فقهاء السلطان.

كما مرَّر الصقلي بعض المعتقدات الشيعية من خلال هؤلاء العلماء، ومنها بداية الشهر العربي وفقًا للمذهب الشيعي، حيث اعتمد الفاطميون على نظام حسابي لتحديد بداية الشهر وفترته الزمنية دون الرجوع إلى رؤية الهلال، مما جعل الشهور العربية شهرًا تامًّا (30 يومًا)، والتالي له ناقصًا (29 يومًا)، مما أدى لاضطراب في تحديد بداية شهر رمضان وأيام الأعياد.

كذلك شهدت مصر تفاوتًا في قيمة الدنانير وقوتها الشرائية، عندما سُكت الدنانير باسم الخليفة الفاطمي، وطرحت في الأسواق بجانب الدنانير العباسية، ونتيجة تحصيل الضرائب بالعملة الفاطمية ضعفت العملة العباسية، هذا بجانب تحريم لبس السواد المميز للدولة العباسية، وفرض الأذان الشيعي على المساجد، وكان لتلك الأفكار أثر سلبي في نفوس العلماء والعوام من أهل السنة.

وأنكر فقهاء أهل السنة ما فعله بعض العلماء من طاعة للصقلي، وحذروا الناس من الاستماع إليهم، أو للصقلي ومخططاته، وكتبوا ذلك في رقاع علقوها على جدران جامع عمرو بن العاص، بحسب ما ذكر الدكتور عبد الباقي السيد عبد الهادي في كتابه «أهل السنة في مصر الفاطمية».

واستطاع الفاطميون في بدايتهم شراء ضمائر القضاة، عندما منحوهم أجورًا مرتفعة، لكن رغم ذلك لم يظل المنصب قاصرًا على الشيعة، وجلس على كرسي القضاء فقهاء من المذهب السني، ويُعد أكبر تحدٍّ واجهه خلفاء الفاطميين، عندما أرادوا تعيين القاضي أبي العباس أحمد بن الحطيئة، سني المذهب، سنة 533 هـ، في منصب قاضي القضاة، ولكنه رفض لاشتراطهم الاحتكام للمذهب الشيعي، وذلك في عهد الحافظ لدين الله.

يذكر أن الدولة الفاطمية سعت جاهدة لكسب ثقة أهل السنة، من خلال تعيين بعض فقهاء أهل السنة في منصب القضاء أو بعض وظائف الدولة، فنجد الفقيه الشافعي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، كاتبًا في دار المحفوظات، في عهد الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، بهدف منع التظاهر والخروج عليهم من قبل العوام، وإتاحة الفرصة لهم للاحتكام لمذهب أهل السنة والجماعة.

لكن رغم محاولات الفاطميين في جذب المصريين إلى المذهب الشيعي، فإن جميعها كان مصيره الفشل، لارتباطهم بمذاهب أهل السنةـ الراسخة في نفسهم، والتي يعاديها الخلفاء الفاطميون، هذا بجانب يقين أهل مصر بكذب ادعاء نسبهم إلى آل البيت، وهذا ما أدى إلى الفتن بين الناس تارة، والثورات ضد الفاطميين تارة أخرى، حتى انهيار الدولة الفاطمية.

حراك أهل السنة

تدرجت صور وأساليب مقاومة أهل السنة لمنع نشر المذهب الشيعي في مصر، بداية من المواجهة الكلامية حتى الثورة في الشوارع، والهتاف ضد الخليفة في قصره.

فعندما جاء إلى مصر المعز لدين الله، أذن لبعض فقهاء أهل السنة بالدخول عليه، وخاطبهم محذرًا لمن يخالف قوله، فقال أحد الفقهاء، رافعًا صوته: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) سورة يونس.

 فقال المعز: صدق الله، كذا قال الله عز وجل، ونسأل الله التوفيق، موضحًا لمن خاطبه أنه لن يكون ظالمًا بل سيحافظ على مُلكه بالعدل بين الناس، ولن يفرض عليهم ما لا يقدرون عليه.

وكذلك حدث مع الحاكم بأمر الله، عندما قرأ عليه ابن المشجر، أحد فقهاء أهل السنة، قول الله تعالي:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) سورة الحج، فتغير وجه الحاكم مما سمع.

لم يكن الشعراء بعيدين عن المقاومة، فمنهم من نظم قصيدة تتحدث عن كذب نسب الفاطميين إلى آل البيت، وعُلِّقت على منبر العزيز بالله، وكُتب فيها:

إن كنت فيما تدعي صادقا .. فاذكر أبا بعد الأب السابع
وإن ترد تحقيق ما قلته .. فانسب لنا نفسك كالطائع

ما سبق كان صورًا من المقاومة الكلامية، لجأ بعد ذلك الفقهاء والعوام للثورة، غضبًا وحبًّا للسنة التي رغب الفاطميون في أن يمحوا معالمها في المجتمع المصري.

وكانت البداية مع عبد العزيز بن إبراهيم الكلبي، الذي أشعل الثورة في صعيد مصر، وسعى للقضاء على الفاطميين، ولكنه انهزم أمام جوهر الصقلي، وأُعدم في مدينة القاهرة، سنة 361هـ/971م، كما حكى المقريزي في كتابه «اتعاظ الحنفا».

وأدى تذبذب القرارات في عهد الحاكم بأمر الله إلى خروج الناس مرات عدة، واستطاعوا أن يمنعوا سب الصحابة والأذان الشيعي، وعودة العبادة التي كانت ممنوعة من قبل، مثل صلاة الضحى والتراويح، والصوم على رؤية الهلال، وتعيين قاضٍ سني، وهو الشيخ أحمد بن أبى العوام الحنبلي، الذي قاد مع الحافظ أبى محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي، مظاهرة أهل السنة في الفسطاط لنصرة الإسلام، ورفضهم دعوة الألوهية للحاكم بأمر الله، سنة 409هـ.

 لم يكتفِ العلماء بتحفيز الناس للتظاهر وحسب، بل لجئوا أحيانًا لتشجيع الوزراء السنية لإزالة الدولة الفاطمية، ومنهم أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي من بعده، الذي أجاز له فقهاء أهل السنة القبض على الخليفة العاضد وإزالة الدولة الفاطمية.

وزراء سنة وخلفاء شيعة

كعادة كل الدولة تتسم البداية بالقوة والسطوة، لكن تدريجيًّا يصيبها الضعف، وهذا ما ظهر في نهايات الدولة الفاطمية، حيث أصبح للوزراء الكلمة العليا في إدارة الدولة.

يقول الدكتور عبد الباقي السيد عبد الهادي في كتابه، إن الصقلي أبقى على الوزير ابن الفرات في وزارته، خوفًا من أهل السنة.

أما في عهد الآمر بأحكام الله، استطاع وزيره السني الأفضل أبو القاسم بن بدر الدين الجمالي أن يُلغي الكثير من ملامح المذهب الشيعي، ويدعم فقهاء أهل السنة، فأحدث انفراجة ملموسة في حياة الفقهاء والناس.

من بعده جاء ابنه أحمد بن الأفضل، وكان سنيًّا وقويًّا كأبيه، لذلك استطاع أن يمسك بزمام السلطة في يده، وسعيًا منه لإضعاف المذهب الإسماعيلي الشيعي، عيَّن أربعة قضاة؛ إمامي وإسماعيلي وشافعي ومالكي، ومنحهم الحق في إصدار الأحكام وفقًا لمذاهبهم، مما أتاح مساحة جديدة للمذهب السني في مصر.

كما تولي رضوان بن ولخشي، سني المذهب، منصب الوزارة، عندما قاد أحد الثورات بدعم من الفقهاء، وخلع بهرام الأرمني، من كرسي الوزارة، سنة 530هـ، ليكون ابن ولخشي وزيرًا من بعده، وقرب ابن ولخشي فقهاء السنة منه، وبنى مدرسة في مدينة الإسكندرية لنشر المذهب السني والرد على الشيعة.

وكذلك علي بن السلار، الذي زحف للقاهرة وأجبر الخليفة الفاطمي الظافر بأمر الله أن يوليه الوزارة، ودعمًا لمذهبه السني أسس في الإسكندرية مدرستين، إحداهما للمذهب الشافعي والأخرى للمذهب المالكي، كما اهتم ببناء المساجد في دمياط والقاهرة.

يظل صلاح الدين الأيوبي، هو الوزير السني الأهم في الدولة الفاطمية، سنة 564هـ، وذلك لثقة الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، الذي منحه الحق في إدارة شئون الدولة سياسيًّا وماليًّا، وقيادة الجيوش، هذا إلى دعم فقهاء أهل السنة له، واستعان بهم في إبطال الشعائر الشيعية، ودعم المذهب السني، فعين قضاة سنة، وأسس مدارس لنشر المذهب السني، استعدادًا للقضاء على الدولة الفاطمية الشيعية.

نهضة اقتصادية

رغم حالة رفض غالبية المصريين للدولة الفاطمية، والتظاهر ضدهم، فإنها شهدت ازدهارًا اقتصاديًّا، ويرجع ذلك لاهتمام الخلفاء بالزراعة والصناعة والتجارة، ودعم كل نشاط منها على أكمل وجه، بحسب ما ذكرت الدكتورة رحاب السيد جناحة في كتابها «حكام الأقاليم في مصر في عصر الخلفاء الفاطميين».

وأرجعت اهتمام الفاطميين بالاقتصاد إلى توافر الأمن والأمان في مصر، مما ساهم في رفع قدرتهم تجاريًّا ومنافسة الخلافة العباسية في بغداد، وعن مصر الفاطمية يقول المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم»: «هم في عدل وأمن، لأنه سلطان قوي غني والرعية في راحة، وثَمَّ عدل ونفاذ أمر»، وهو ما انعكس على الحالة الاقتصادية التي ازدهرت على عكس دول أخرى حولها، حيث اهتم الخلفاء الفاطميون بالطرق والمواصلات تدعيمًا لحركة التجارة، وتخصيص مبانٍ للتجارة والعمليات التجارية، وتقديم التسهيلات اللازمة للتجار، والسماح للأجانب بالتجارة، مما جعل مصر مركزًا تجاريًّا هامًّا خلال العهد الفاطمي.

على الرغم من حياة الترف والبذخ، التي ظهرت على الخلفاء والأمراء والوزراء والتابعين لهم، نتيجة هذا الازدهار التجاري، فإن هناك فئة من المجتمع المصري عانت من الفقر، ما أثار غضب الفقهاء، فكانوا يسعون لقضاء حوائجهم لدى الطبقة الحاكمة.