في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973، توقفت حركة المرور في الولايات المتحدة وأوروبا، وكأنها عادت إلى العصور الوسطى مرة أخرى. في هولندا تحديدا كان الأطفال يتسابقون بالقرب من إشارات المرور، كانت الشوارع خالية تقريبا، تخلت الملكة عن سيارتها الخاصة، واستخدمت الدراجة الهوائية لزيارة أحفادها.

فقبل أربعة أسابيع، كان الجيشان المصري والسوري قد اخترقا الخطوط الدفاعية الإسرائيلية، لتندلع حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول (المعروفة في الأدبيات الغربية بحرب يوم الغفران)، عندها عمدت كل من الولايات المتحدة وهولندا إلى مد إسرائيل بفيض من الأسلحة، وهو ما استدعى ردا عربيا بوقف تصدير النفط إلى هولندا والولايات المتحدة تماما.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن عانت من الارتفاع الحاد في أسعار النفط، أعلن الرئيس الأمريكي حينئذ «ريتشارد نيكسون» في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1973 أن البلاد تتجه إلى نقص الطاقة الأكثر حدة منذ الحرب العالمية الثانية، وكشف النقاب عن مشروع الاستقلال، وهي خطة «خيالية» لإنهاء واردات النفط بحلول عام 1980. ومع زيادة حدة الأزمة بدا وكأن الحلم الأمريكي في طريقه للانهيار.

وفي اليابان، ورغم عدم تورطهم في سياسات الشرق الأوسط، بل المشاركة في المقاطعة العربية ضد إسرائيل، لكن ارتفاع أسعار النفط، هدد بنهاية عصر «النفط الرخيص»، وبالتالي انخفضت توقعات الحكومة بشأن النمو الاقتصادي بمقدار النصف، واتجهوا إلى تقنين النفط والكهرباء للمصانع والأسر.

ورغم انتهاء هذه الأزمة الحادة، فإن آثارها ظلت تطارد العالم، وتخلق المزيد من الاضطرابات. كما أنها كانت إيذانا بانتهاء العصر الذهبي للاقتصاد العالمي.

في كتابه الذي صدر عام 2016، تحت عنوان: « An Extraordinary Time: The End of the Postwar Boom and the Return of the Ordinary Economy» (الأوقات غير العادية: نهاية طفرة ما بعد الحرب وعودة الاقتصاد إلى أوضاعه العادية) حاول الخبير الاقتصادي والصحفي السابق في نيوزويك والإيكونومست «مارك ليفنسون» إثبات فرضيته أن الربع الثالث من القرن العشرين، أي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تميز بالنمو الاقتصادي السريع الاستثنائي في جميع أنحاء العالم، فكان العصر الذهبي للاقتصاد العالمي، الذي سرعان ما عاد إلى معدلاته الطبيعية مع بداية أزمة 1973.


تطور اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية

من وجهة نظر الاقتصاديين، فإن النصف الثاني من القرن العشرين يُقسم بدقة إلى قسمين؛ شهدت الفترة الأولى – التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية – طفرة اقتصادية ذات أبعاد استثنائية في أنحاء كثيرة من العالم، وجاءت الترتيبات الدولية الجديدة لضمان ثبات أسعار الصرف، وتخفيف القيود المفروضة على التجارة الخارجية، وتقديم المعونة الاقتصادية إلى أشد البلدان فقرا. لذا، بدأت للناس في الشعور بأن حياتهم تتحسن تقريبا كل يوم، وأصبحت المنازل الجديدة والسيارات والسلع الاستهلاكية في متناول اليد بالنسبة للأسر المتوسطة، وظهرت مجموعة كبيرة من البرامج الاجتماعية الحكومية وعقود العمل الخاصة، لترسيخ الأمن المالي الشخصي.

بين عامي 1948 و1973، توسع الاقتصاد العالمي بوتيرة أسرع من أي فترة مماثلة، وارتفع متوسط ​​الدخل لكل شخص على مستوى العالم بمعدل سنوي قدره 2.92%.

أما الفترة الثانية – الممتدة من عام 1973 تقريبا إلى نهاية القرن – فقد كانت مختلفة بشكل كبير. ففي اليابان وأمريكا الشمالية وأوروبا وأمريكا اللاتينية، حلت حالة انعدام الأمن البارد محل دفء الرخاء، وتحول التعاون الدولي إلى صراع لا نهاية له بشأن التجارة وأسعار الصرف والاستثمار الأجنبي. وأدت الأزمات الاقتصادية المتكررة إلى تدمير اقتصادات العديد من البلدان، من المكسيك إلى روسيا إلى إندونيسيا، وكذلك تدمير قيمة معاشات الشيخوخة، ومحو مدخرات الأسر، وتخفيض القوة الشرائية، وتحول النقص في اليد العاملة إلى بطالة مزمنة.

ومع ذلك، لا يمكن فهم اضطراب تلك العقود إلا إذا تذكرنا أن الظروف الاقتصادية كانت تتحسن بشكل مطرد في أجزاء كثيرة من العالم، وليس للأغنياء فحسب، بل بالنسبة للجميع تقريبا. فالوظائف كان من السهل العثور عليها؛ وكان هناك وفرة في الغذاء والسكن. وقد أتاح ارتفاع مستويات المعيشة وزيادة الأمن الاقتصادي لكثير من الناس في كثير من البلدان الانضمام إلى التخمر الثقافي والاجتماعي في الستينيات وأوائل السبعينيات. ويمكن القول إن هذه الثقة ولّدت تحديات صريحة أمام المظالم – التمييز بين الجنسين والتدهور البيئي وقمع المثليين – التي كانت موجودة منذ وقت طويل. ثم بشكل غير متوقع تماما، توقف النمو، وانقلبت الأوضاع الاقتصادية.

فالفجوة بين هاتين الفترتين كانت صارخة، فبين عامي 1948 و1973، توسع الاقتصاد العالمي بوتيرة أسرع من أي فترة مماثلة، ووفقا لتقديرات حذرة للاقتصادي البريطاني «أنجوس ماديسون»، فقد ارتفع متوسط ​​الدخل لكل شخص على مستوى العالم بمعدل سنوي قدره 2.92% في الفترة من 1950 إلى 1973، وهو ما يكفي لمضاعفة متوسط ​​مستوى معيشة الفرد في حوالي خمسة وعشرين عاما.

وفي البلدان الغنية، كان هذا الاتجاه أكثر وضوحا؛ فالعمالة، والأجور، وإنتاج المصنع، والاستثمار في الأعمال التجارية، وإجمالي الناتج؛ كل المقاييس الحيوية كانت تنمو عاما بعد عام بمعدل سريع. وكانت حالات فشل البنوك نادرة، ومعدلات الإفلاس منخفضة، والتضخم منضبط.

ثم انتهت الأوقات الجيدة، ولم يقترب العالم مرة أخرى من الأداء الاقتصادي الذي كان يتمتع به قبل عام 1973، وأصبحت الظروف المتقلبة هي القاعدة والاستقرار هو الاستثناء. وفي أوروبا وأمريكا اللاتينية واليابان، فإن متوسط ​​الدخل لم ينمُ حتى بنصف السرعة التي كان عليها قبل 1973، وذلك حتى نهاية القرن العشرين، وفي معظم أنحاء أفريقيا، فإن الدخل لم يكد ينمو على الإطلاق.


لماذا كان الرخاء استنثاءً؟

مع بداية أزمة الاقتصاد العالمي أواخر عام 1973، نظرت الدول الديمقراطية إلى قادتها لتدارك الوضع، متوقعة أن يتحركوا بشكل جاد لإنقاذ الموقف، ولكن الحقيقة هي أنه لم يكن لدى السياسيين ولا مستشاريهم الاقتصاديين أي فكرة عن سبب المرض، لقد تصرفوا لأنهم كانوا تحت ضغط العمل، وليس لأن لديهم الثقة في حلولهم. فمن وجهة نظر سياسية، فعل شيء – أي شيء – كان أفضل من الاعتراف بالجهل حول ما يجب القيام به.

ومن المؤكد أنه كان هناك عوامل كثيرة تسببت في هذا الانخفاض في الاقتصاد العالمي؛ على رأسها ارتفاع تكلفة الطاقة، وهي مدخل حاسم للصناعة، بجانب تقلب أسعار الصرف، وما ترتب عليها من عدم اليقين في مجال الأعمال، وعلى ذلك تراجعت إنتاجية مختلف الاقتصادات وكفاءتها.

وخلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ازدادت أزمة البطالة وتباطأ نمو الأجور، حتى صارت جيوب البطالة هي القاعدة، ولم تستطع سياسات المسئولين المنتخبين والبيروقراطيين أن تؤثر في المشهد بشكل جدي. حتى جاءت التسعينيات، وأحدث الأكاديمي الأمريكي بول رومر ثورة في التفكير في النمو الاقتصادي من خلال الإصرار على أن الابتكار والمعرفة أهم بكثير من العمل ورأس المال، فوضع نظرية «النمو الذاتية»، التي تفيد بأن تعزيز التعليم ودعم البحوث العلمية وريادة الأعمال تساعد في تحسين النمو الاقتصادي أكثر من استخدام الضرائب في علاج عجز الميزانية ومعدلات الضرائب.

بعد ذلك، بدأ رومر نفسه في التشكك في صحة نظريته، إلا أنه بعد ثلاثة عقود اجتاحت نظريته إدارات الاقتصاد في كل مكان في العالم.

فقد ثبت أن الاقتصاد أداة لا يمكن ضبطها بعناية على المدى الطويل، كما أنه لا يخضع لسيطرة المسئولين الحكوميين والمصرفيين المركزيين، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال أن تكون الاتجاهات المتقلبة بعد عام 1973 هي الوضع الطبيعي للاقتصاد العالمي في هذه المرحلة من تطوره، وأن طفرة (1945 – 1973) كانت استثنائية.


اقتصاد العولمة وتراجع الدولة

أحدث الأكاديمي الأمريكي بول رومر ثورة في التفكير في النمو الاقتصادي من خلال الإصرار على أن الابتكار والمعرفة أهم بكثير من العمل ورأس المال.

ذكر الاقتصادي بجامعة هارفارد «زفي جريليتشس»، وهو رائد في بحوث الإنتاجية، أنه بعد عقود من دراسة تغيير الإنتاجية، والبحث عن أسباب انخفاضها بداية من السبعينيات، ربما تكون معدلات النمو المرتفعة التي تحققت في الخمسينيات وأوائل الستينيات هي اللغز الحقيقي، والجديرة بالبحث في أسباب حدوثها.

حيث إن عجز الاقتصاد العالمي عن استعادة مستويات الذروة التي وصل إليها في السابق، كان له عواقب طويلة الأمد، غيّرت جذريا المواقف الاجتماعية، مما ولّد شكوكا حول الحكومات التي هيمنت على الحياة السياسية في القرن الحادي والعشرين، حيث سُمح لمؤسسات الدولة أن تذبل، وطُلب من الأفراد تحمل المزيد من التكاليف والمخاطر بخصوص الرعاية الصحية والتعليم والشيخوخة.

إن التغيرات الاقتصادية في السبعينيات حوّلت دفة العالم إلى اليمين، حيث ساد اقتصاد السوق، واجتاح السياسيون المحافظون أمثال تاتشر وريغان السلطة.

ومن الإنصاف القول إن التغيرات الاقتصادية في السبعينيات حوّلت دفة العالم إلى اليمين، حيث ساد اقتصاد السوق، واجتاح السياسيون المحافظون أمثال مارغريت تاتشر ورونالد ريغان وهيلموت كول السلطة.

في العالم الغني، جلبت سنوات ما بعد الأزمة تحولا هائلا في الدخل والثروة لصالح أولئك الذين يمتلكون رأس المال، والعكس صحيح بالنسبة لأولئك الذين كانت أصولهم الوحيدة هي عملهم. وفي العالم الفقير، ساد الغضب والإحباط، وهو ما تغذى على ركود الأجور واتساع فجوة عدم المساواة، فعانت تلك البلاد من اضطرابات الموظفين العموميين باستمرار.

وبات التمويل الدولي هو القنبلة الموقوتة لتلك الاقتصادات، وهو الذي فاق قدرة الحكومات على تنظيمه، كما فقدت النقابات العمالية القدرة التفاوضية في كل بلدان العالم تقريبا، مما أدى إلى إهانة الطبقة العاملة الصناعية، وفقدانها لشبكات الأمان الخاصة بها، بعد ازدهار أوضاعها في سنوات ما بعد الحرب.

وعلى ذكر التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي عايشها العالم في فترة ما بعد 1973، كان من الطبيعي ربط تلك التغيرات بالعوامل التي تقع ضمن سيطرة الحكومات وأدواتها، من مخصصات ضريبية إلى تخفيض التعريفات الجمركية أو برامج الرفاهية أو القواعد الانتخابية التي سمحت لقائد معين بالحصول على السلطة، ورغم أهمية هذه الأدوات، فإن الركود الاقتصادي ورد الفعل السياسي في أواخر القرن العشرين لم يكونا سوى مجرد نتائج لظروف وخيارات محلية.

حيث أعيدت صياغة العقود الاجتماعية ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في اليابان والسويد وإسبانيا وعشرات من البلدان الأخرى، لتصبح مزيجا من السياسات الاجتماعية والاقتصادية. ولتتجاوز الحدود الوطنية، تماشيا مع ظهور العولمة؛ وهي التي تشكلت بعد فشل جهود الحكومات في السيطرة على أسعار الصرف والتضخم والبطالة، وقطعت تدريجيا السلاسل التنظيمية التي أعطت الحكومات سيطرة صارمة على قطاعات النقل والاتصالات والطاقة، وسرعان ما تُبعت بخطوات تفكيك الاحتكارات المملوكة للدولة، وكذلك بيع شركاتها، الأمر الذي فتح المجال أمام اقتصاد أسرع وأكثر ابتكارا.

العالم بالطبع لا يدور حول المال وحده، فهناك عوامل كثيرة أثرت على حركة تطوره أواخر القرن العشرين؛ من الحركة العالمية لتحقيق المساواة بين الجنسين، إلى مواجهة مكثفة بين الشرق والغرب أدت إلى نشوب حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم، وإحياء الأصولية الدينية، وإعادة توحيد أوروبا في أعقاب انهيار سور برلين، والمعارك الانفصالية في كندا وإسبانيا، وإعادة بناء الحكومات الديمقراطية في كوريا وأمريكا الجنوبية. ولكن كل هذه العوامل قد بدأت في أعقاب التغيرات الجذرية التي عصفت بالاقتصاد العالمي وتركت المواطنين قلقين ومرضيين.