السخرية، هي تلك الأداة التي تستخدمها الشعوب كي تُعبر عما يدور في أذهانها. وهي توجه إعلامي يهدف لممارسة السياسة أحيانًا من قِبل غير السياسيين سواء في برامج التليفزيون أو مواقع التواصل الاجتماعي. كما أن السخرية تعتبر حالة أو نمطًا اجتماعيًا وثقافيًا لعدد من المجتمعات سواء العربية أو الغربية، حيث إن الخطاب الساخر يعتبر امتدادًا لفكرة المقاومة السلمية غير العنيفة وممارسة حرية الرأي وانتقاد الحكام، وفي السخرية يُظهر الإنسان عبقرية الترميز لديه.

تعتبر السخرية السياسية وجهة آمنة لكاتبيها ومذيعيها وقارئيها، كونها صعبة المحاصرة. ويستغل الساسة السخرية كوجهة سياسية لهم يتخفون وراءها. فقط قلْ ما تريد قوله في شكل مُزحة وستصل رسالتك للجمهور. الأمر الذي يُحدث مساحة الأمان المجتمعي والوحدة والارتباط بين متداولي تلك المواد الساخرة.


تاريخ السخرية في أمريكا

لم تكن السخرية السياسية وليدة العالم الرقمي الحديث، خصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية. فكانت تجمع بين الرئاسة الأمريكية وبين الكوميديا علاقة تمتاز أحيانًا بالود والصداقة، وأحيانًا تتحول لعداء ويمقتها الرؤساء.

فكانت أولى الصدقات تلك التي أقامها الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» مع ويل روجرز (هو ممثل كوميدي أمريكي اشتهر بتعليقاته وأسلوب لف الحبل على طريقة الغرب الأمريكي) في عام 1916. حيث كان روجرز يقدم فقراته الساخرة بحضور ويلسون مما يجعله يضحك على نفسه. الأمر الذي جعل روجرز ينعي ويلسون حين توفي قائلاً:

لقد خسرت الشخص الأكثر تميزًا في حياتي؛ والذي كان يضحك على كل نكاتي حتى التافه والبسيط منها.

ولكن لم تستمر العلاقة الودية بين الرئاسة والكوميديان فتحولت لعداء بين روجرز والرئيس الأمريكي «وارن هاردينج»، حينما علم هاردينج أن روجرز سيسخر من هوايته المفضلة وعشقه للعبة الجولف؛ الأمر الذي أدى إلى عدم حضور هاردينج للحفل، وتحول روجرز لعدو آنذاك.

تطور الأمر حتى انتشرت العديد من البرامج الساخرة كان أشهرها برنامج الإعلامي «جون ستيوارت» الذي جمعته علاقة طيبة بالرئيس الأمريكي باراك أوباما حيث استقبله أوباما في البيت الأبيض وظهر معه في إحدى حلقاته.

لكن الأمر اختلف تمامًا حينما تغيرت مقادير السياسة وانتهت رئاسة أوباما، ونُصِّب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2017.


ما بين أوباما الساخر وترامب العدو

كانت فترة أوباما من أكثر الفترات التي اندمجت وتطورت فيها علاقة الرئاسة بالكوميديان، فظهر أوباما في العديد من المناسبات ساخرًا من نفسه؛ حين قدم الخطبة في العشاء السنوي لرابطة المراسلين شارحًا بطريقة ساخرة أنه رجل ذو شخصية غير قوية، بل أنه رقص هو زوجته في إستوديو البرنامج الكوميدي الذي تقدمه الممثلة والإعلامية إلين ديجنيريس. لم يكن ذلك كل ما قدمه أوباما لإلين لكنه منحها وسام الحرية لعام 2016.

كما أنه ظهر في العديد من البرامج التي قد تتناول أحيانًا السخرية من ملابسه وشكل أُذنه. وذلك عند ظهوره في برنامج يحتوي على فقرة تُسمى «تغريدات سيئة» وهي فقرة يتناول فيها المشاهير التغريدات المسيئة لهم على موقع تويتر.

لكن الأمر بالنسبة لترامب لم يكن بتلك الأريحية التي تعامل بها أوباما. فمنذ أن ترشح وهو يتلقى سخرية وعدم احترام من الإعلام الأمريكي. حيث إنه أثناء افتتاحه لمنتجع الجولف الذي يملكه أمر بطرد الكوميدي لي نيلسون حينما أراد السخرية منه، وما إن تم طرده حتى اكتملت كلمة ترامب. وزادت السخرية حين تولى منصب الرئاسة رسميًا في يناير/كانون الثاني 2017، حيث تناول الإعلاميون الخبر باستنكار وسخرية كنوع من الاعتراض على توليه الرئاسة.

فعلاقة ترامب بالكوميديان علاقة قائمة على السخرية من الطرفين، حيث إن إظهار السخرية الدائمة من قِبل ترامب للإعلاميين وانتقاداته اللاذعة للسياسيين، جعل منه مادة خصبة للسخرية وأصبحت العلاقة لا يحكمها مجرد الانتقاد بل أصبح محورها الأساسي عدم الاحترام بين الطرفين.


لماذا يتم السخرية من ترامب؟

حاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نصيب الأسد من السخرية الإعلامية وذلك كان نتاج لأسباب متشعبة وكثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1. نرجسيته

تمثل النرجسية أحد روافد العظمة المرضية، وتقدير الشخص لنفسه ولذاته بشكل مبالغ فيه، غير مبالٍ لمشاعر الآخرين؛ الأمر الذي يجعل السخرية منه وإن كانت على سبيل الدعابة فهي مصدر خطر وتهديد له.

وقد ظهر ذلك بالنسبة لترامب في عدائه الشديد للإعلاميين، وعدم قدرته على تفهم السخرية داخل نطاقها، كما تفهمها نظيره السابق أوباما.

2. عدم احترام الإعلام

غياب ترامب عن حضور العشاء السنوي الرسمي لمراسلي البيت الأبيض كان كفيلاً أن يُشعرهم بالإهانة وعدم التقدير من قِبل الرئيس. الأمر الذي جعل الكوميديان «حسن منهاج» يلقي كلمته خلال دقيقتين وبعدها يتطرق للسخرية منه قائلاً:

دعونا نتحدث عن الفيل؛ غير المتواجد في الغرفة.

كما لم يقتصر الأمر على عدم حضور الفاعليات الهامة بالنسبة للإعلاميين، بل امتد لوصف ترامب للكوميديان «ستيفن كولبرت» بأنه «رجل دمه ثقيل وغير مضحك، ونكاته بذيئة» وسأل الشعب الأمريكي: «لماذا تتركون أطفالكم يشاهدونه؟».

فطرد مثل تلك الشخصيات الكوميدية ووصف آخرين بالبذاءة وعدم حضور الفاعليات الهامة لهم، كان كفيلاً بأن يجعل ترامب بمثابة العدو بالنسبة للساخرين.

3. سياساته عامٌ من رئاسة ترامب أوشك على الانتهاء، عامٌ كان حافلاً بالقرارات الصدامية أحيانًا والمُفاجئة أحيانًا أخرى، والتي جلبت لترامب عداء الداخل والخارج.

فبداية من خطابة العدواني الذي ألقاه أثناء تنصيبه رافعًا قبضته كأنه يعلن الحرب قائلاً:

مرورًا بتوقيعه قرارًا يمنع مواطني 7 دول مسلمة من دخول البلاد. أما إقالته مدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي بشكل مفاجئ، الأمر الذي جعله يتعرض لانتقادات من قِبل الجمهوريين، واتهامات بطمس الحقائق من الديمقراطيين.

ناهيك عن مهاجمته للرياضيين ووصفه لهم بأنهم «عار» على الولايات المتحدة الأمريكية كونهم يعارضون سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة. وانسحابه من قمة المناخ واليونيسكو ومعاداته لليمين ووصفه بالمتطرف، وتهديده بتدمير كوريا الشمالية. كل ذلك كان كفيلاً أن يجعل الواجهة التي تعاديه أكبر من ذي قبل، وأن يتناوله الإعلام بالسخرية أكثر من نظرائه السابقين.


مشاهد من السخرية

السلطة القائمة حمت نفسها، لكنها لم تحمِ مواطني هذه البلاد. كل شيء سيتغير، هنا والآن.

كان آخر ما أُثير ناحية ترامب من السخرية إعلان الشركة البرازيلية لمنتج جنسي (كاندوم)، والذي صوّر ترامب داخله، وكُتب عليه: «هناك أشخاص ما كان لهم أن يولدوا»، الأمر الذي أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي.

ترامب - إعلان ساخر
وما إن صرح ترامب أن الرئيس السابق أوباما والمرشحة السابقة هيلاري كلينتون هم من أسسوا داعش حتى تناول ذلك بالسخرية الإعلامي «جون أوليفر» في برنامجه.

أما بالنسبة للإهانات الدولية، فإن ترامب لم يفلت من ذلك أيضًا، حيث قام السيناتور الأسترالي «نيك كزينوفون» بإحضار «ممسحة أرجل» مرسوم عليها وجه الرئيس الأميركي، وتضمنت عبارة:

أستراليا ليست ممسحة أرجل.

وفي ذكرى مرور 100 يوم على تولي ترامب منصبه، لم يترك برنامج «ذا سيمبسونز» الذكرى تمر بدون سخرية، حيث عرض في حلقته البيت الأبيض في ليلة عاصفة، ويظهر فيها الناطق باسم الرئيس «شون سبايسر» مشنوقًا في قاعة المؤتمرات مع لافتة علقت على صدره كُتب عليها «أستقيل»، ثم تظهر مستشارة الرئيس «كيليان كونواي» وهي تقول: «لن أحل محله»، قبل أن تهرب عند رؤية الجثة.

فبين الخلفية الاقتصادية والنرجسية الذاتية مارس ترامب السياسة، لكن الإعلام لم يجعله يفلت من سخريته، بل في كثير من الأحيان منح ترامب الذريعة للإعلام من خلال خطاباته وأفعاله كي يسخر منه، وبين الانتقاد والسخرية تُمارس السياسة.