بأحياء الدار البيضاء العتيقة، وتحديدًا في الأزقة المجاورة لشارع الزيراوي، أو تلك المحاذية «للملاح» بالمدينة القديمة، قد تصادف رجلًا يلبس «الكيبا»، أو حاخامًا يتوشح بالأبيض والأسود مرسلًا لحيته البيضاء ومخبئًا رأسه تحت قبعة سوداء هي علامة مميزة لرجال الدين اليهود من المغاربة، لكن ستظل فرصتك في لقاء أحدهم نادرة جدًّا، فعدد اليهود الذين اختاروا البقاء في المغرب لا يتجاوز 2000 فرد، بعد أن كانت جاليتهم تقارب الربع المليون في ستينيات القرن الماضي، البقية انتقلوا إلى الجانب الآخر من بلاد العرب، إلى «أرض الميعاد»، مُختارين ذلك أحيانًا، ومُجبَرين على ذلك في أحيان أخرى.

حضور يعود إلى ماضٍ سحيق

للبحث عن الجذور الأولى لليهودية في الغرب الإسلامي سيتوجب علينا العودة إلى ماضٍ بعيد جدًّا، ماضٍ وضع خلاله اليهود ترحالهم للاستقرار في تلك المنطقة المتواجدة في شمال القارة الأفريقية، كأول مجموعة غير بربرية وفدت إلى المغرب، بل لا زالت تعيش فيه حتى يومنا هذا، وكتأريخ لهذه البداية البعيدة وُجدت بعض الآثار الحجرية التي كانت عبارة عن علامات لحدود يقال بأن الذي وضعها هو يواب بن سرويا، قائد جيش الملك داود، رغم وجود بعض الخلاف في أماكن وضع هذه الأحجار بين جربة (تونس حاليًّا) وطنجة وفاس أو في بعض تخوم الصحراء المغربية.

لم تكن هذه الآثار هي الوحيدة الشاهدة على الوجود اليهودي في بلاد المغرب القديم، فقد عُثر على آثار أخرى تعود للعهدين الإغريقي والروماني، منها بقايا طائفة يهودية كانت تسكن بمدينة وليلي، بالإضافة إلى شمعدان برونزي ذي سبعة عروش وبقايا شاهد حمل كتابة عبرية لقبر سيدة يهودية.

خلال الفترة الرومانية عاش اليهود في مدينة وليلي في ظل التسامح الكبير الذي كانوا يحظون به خلال هذا العهد، وزاد عدد اليهود الذين اختاروا الاستقرار بشمال أفريقيا، كما استفادت الطائفة من تزايد عدد المعتنقين للديانة اليهودية.

مع وصول المولى إدريس الأول إلى بلاد المغرب الأقصى سنة  788م فارًّا من الخلافة العباسية، دشنت البلاد صفحة جديدة عنوانها الأبرز «الإسلام»، وجد المولى إدريس الأول مجموعة قبائل مسيحية ويهودية ووثنية، لم تتغير أوضاع اليهود خلال هذه الفترة وظلوا يسكنون داخل أسوار المدينة العتيقة لفاس حتى عهد الدولة المارينية (1244م / 1465م).

كان لليهود مكانة مميزة أيضًا في بلاد الأندلس، إذ لعبوا دورًا مهمًّا في مجال الاقتصاد، وهو ما جعلهم يحظون باستقلالية كاملة كجالية غير إسلامية تعيش على أرض الإسلام، لكن مع سقوط الأندلس وانطلاق محاكم التفتيش المسيحية، فرَّ عددٌ كبير من يهود الأندلس إلى المغرب، حيث التحقوا بطائفة يهودية لم تبرح المغرب، وظلت تعيش فيه لقرون.

انقسم يهود المغرب حينها إلى «توشفيم» وهم المحليون و«مڭورشيم» وهم المهجرون الذين حملوا معهم لغتهم القشتالية وعلومهم الدينية ومؤسساتهم الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم، المختلفة تمامًا عن اليهود المحليين، ما ولد صراعًا قويًّا بين الطرفين انتهى بانتصار «المڭروشيم» الذين فرضوا تصورهم الديني والدنيوي على باقي بني طائفتهم.

من جهة أخرى، كانت العلاقة بين المجتمع اليهودي وأهل البلد من المسلمين مستقرة إلى حدٍّ كبير، وإن كانت تخضع لمنطق علاقة «الغالب» المسلم مع «المغلوب» اليهودي، لكن هذا الاستقرار لم يمنع وجود مشاحنات وأحيانًا مواجهات على أساس ديني يخير فيها اليهود بين الإسلام أو النفي، كما حدث خلال القرنين 13 و 18 الميلاديين.

من باريس إلى تل أبيب

يمكننا القول بأن أول مؤشرات الانسلاخ اليهودي عن المجتمع المغربي المسلم ستأتي مع فرض فرنسا للحماية على المغرب الأقصى سنة 1912م. كان يهود المغرب، وكغالب يهود العالم يعيشون داخل «جيتوهات» منعزلة عن العالم الخارجي، ونقصد بالعالم الخارجي المجتمع المغربي المسلم، وأيضًا العالم الذي يتواجد خارج حدود هذه البلاد، وفي ذلك أوروبا الغربية.

لكن مع بداية فصول مسلسل الاستعمار الفرنسي للمغرب، تمازج اليهود مع الأيديولوجيات الغربية الأوروبية التي حاولت فرنسا فرضها داخل مستعمراتها، وجدت هذه الثقافة صدى كبيرًا داخل أوساط المجتمع اليهودي، حيث بدأ اليهود يستعملون اللغة الفرنسية كلغة للتخاطب بدلاً من العربية، واعتبارها دليلًا للتحضر والرقي الاجتماعي خصوصًا في أوساط البورجوازية اليهودية العلمانية، رغم معارضة أحبار اليهود من المحافظين الذين كانوا يعتبرون أن التحديث وأسلوب الحياة الغربي ما هو إلا أولى خطوات اليهودي نحو الجحيم.

وبفضل هذا التماهي الكبير بين اليهود والثقافة الفرنسية الاستعمارية، تمكن أبناء الطائفة من الوصول للعديد من المناصب التسييرية والإدارية والتجارية، كما عزَّزت فرنسا الاستعانة باليهود من خلال استقطاب الأطر المحلية التي كانت تتخرج في المدارس التي أسَّسها الاتحاد العالمي الإسرائيلي، والذي كان مقره في العاصمة الفرنسية باريس، واصل اليهود رغم بعض فتاوى تحريم المدارس الحديثة الدفع بأبنائهم إلى التعليم الفرنسي، وهو ما جعل معدلات الأمية داخل الطائفة العبرية أقل بكثير عن جارتها في البلاد، الطائفة المسلمة.

أرض الميعاد: النفور قبل الهرولة

طيلة عيشهم في بلاد المغرب الأقصى، لم تنقطع علاقة اليهود بأرض فلسطين، كانوا يهاجرون للأراضي المقدسة إما بهدف الدراسة في المدارس الدينية «يشفوت» بكلٍّ من القدس وطبرية وصفد، أو لقضاء ما تبقى من حياتهم هناك في انتظار الموت، ومع حلول القرن 16 الميلادي، بدأت تتكون جالية مهمة من اليهود المغاربة في أرض فلسطين، وواصلت هذه الجالية التوسع حتى وصل تعدادها إلى 1860 يهوديًّا مغربيًّا مع حلول القرن 19 الميلادي.

لكن ظروف الاستقرار في فلسطين لم تكن مريحة لليهود المغاربة، وذلك بسبب النزاعات التي كانت تعرفها الفصائل اليهودية مختلفة الأصول، إذ كان اليهود المغاربة حسب بعض الرسائل الصادرة عن أحبار مكناس سنة 1860 يعانون من التمييز والعنصرية، لم يكن يسمح لهم بالتعليم في «اليشفوت»، وكان غالبيتهم يعانون من الفقر المدقع، لكن رغم كل هذا لم تسجل الكثير من حالات العودة إلى المغرب.

ظلت العلاقة بين يهود المغرب وأرض فلسطين متصلة رغم المشاكل التي سبق ذكرها، إلا أن هذه العلاقة ستختلف جذريًّا مع ظهور الحركة الصهيونية في المغرب.

لم يكن اليهود بعيدين عن سهام الحركة الصهيونية العالمية، بل كانوا على العكس من ذلك من الأولويات منذ نشوء الحركة، فخلال المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في سويسرا سنة 1897، تحدث  ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية عن 150 ألف يهودي في المغرب، يعيشون في الفقر والتهميش في المغرب، حسب زعمه، وخلال المؤتمر الرابع وعد هرتزل بتوسيع الدعاية الصهيونية في آسيا وشمال أفريقيا، وقرر إرسال عضو من المنظمة إلى المغرب، لأن يهود المغرب – حسب هرتزل – هم من أكثر الشعوب القادرة على التأقلم السريع مع أسلوب الحياة في الأراضي المقدسة، وخلال المؤتمر الخامس أعلنت المنظمة عن وجود تجمعات صهيونية بكل من فاس وطنجة وتطوان والصويرة ومراكش، هذه التجمعات أرسلت رسائل تأييد للمؤتمر من بلاد المغرب.

وفي الوقت الذي بدأت تتوسع فيه قواعد الصهيونية في المغرب، بدأت فرنسا تعلن عن رفضها لهذه التحركات التي هدفت إلى ربط يهود المغرب بالاتحاد العالمي الإسرائيلي. تزعم هوبير ليوطي «Hubert Lyautey»، أول مقيم عام في المغرب بعد احتلاله، هذه الجبهة الرافضة ودعمه في ذلك مجموعة من أحبار اليهود، الذين كانوا يرون في الحركة الصهيونية حركة علمانية منافية للعقيدة اليهودية، بجانب كونها حركة منافسة على جمع التبرعات التي كانت القيادات اليهودية المغربية تجلبها من فلسطين.

لكن رغم المعارضة الفرنسية رفع الصهاينة التحدي، وأرسلوا مبعوثًا إلى الدار البيضاء هو الصهيوني يونتن ثورسز، الذي عمل على تجنيد يهود المغرب وأعلن انضمام الحركة الصهيونية في المغرب إلى نظيرتها الفرنسية، حيث أصبحت تحمل اسم «الاتحاد الصهيوني الفرنسي – فرع المغرب»، تركز عمل الحركة على الترويج لفكرتين أساسيتين: أولًا عدم إجبار اليهود على الهجرة لفلسطين خصوصًا بعد ردة فعل القوية التي خلفتها هجرة بعض الأسر الفاسية بداية سنوات العشرينيات، بل المطلوب هو التبرع للحركة فقط، وثانيًا: المشروع الصهيوني مبني على عقيدة دينية وهي تحقيق وعد التوراة بالعودة إلى أرض الميعاد.

استغلت الحركة هزيمة فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية أمام النازية من أجل بث الرعب في صفوف اليهود، بجانب المشاكل التي كانت تحدث بين اليهود والمسلمين في المغرب، سواء لدواعٍ دينية أو اجتماعية واقتصادية، وفي يونيو 1946 عقد المؤتمر الجهوي الفيدرالي للصهيونية في المغرب بالدار البيضاء وشارك فيه 50 عضوًا، من أجل «دعم الهدف السامي للحركة الصهيونية والذي هو تحرير الشعب اليهودي وإقامة دولة يهودية ديمقراطية على أرض إسرائيل»، كان هذا أول إعلان صريح عن انشقاق غالبية اليهود المغاربة عن البلد الذي عاشوا فيه لأكثر من 2000 سنة.

بعد استقلال المغرب تزايدت مخاوف اليهود إثر إقرار دستور يؤكد أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، بجانب سياسة تعريب الإدارات المغربية بالإضافة إلى بداية تشكل ظاهرة دخول اليهوديات في الدين الإسلامي، ما اعتبرته الجالية اليهودية تهديدًا وجوديًّا لها ولأبنائها، زاد الوضع تعقيدًا بالنسبة لليهود بعد أن بدأت مجموعة أحزاب الحركة الوطنية، كحزب الاستقلال المحافظ وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تدعو من خلال بلاغاتها وجرائدها الحزبية إلى مقاطعة اليهود حتى ينقطع حبل الدعم المادي الذي كان ينطلق من الدار البيضاء ويصل إلى الأراضي المحتلة.

بدأت الحركة الصهيونية مدعومة بعملاء من الموساد في عمليات التهجير السرية لليهود المغاربة إلى فلسطين، مستغلة بذلك المشاكل التي كانت حاصلة بين المغرب وإسبانيا على المناطق الشمالية، تمكن الصهاينة من تهريب 22 ألف يهودي بين سنتي 1949 و1957، ثم 30 ألف يهودي إلى حدود سنة 1961، توقفت الهجرة السرية بعد غرق باخرة  «بيسيس إيغوز» في يناير 1961، خلفت هذه الحادثة ضجة إعلامية كبيرة، دفعت جميع الأطراف إلى إيجاد حلول «قانونية» لعمليات التهجير تلك، فانطلقت المرحلة الثالثة بوساطة أمريكية حيث تمكنت الحركة الصهيونية من تهجير 97 ألف يهودي ودفعت الحركة 250 دولارًا للفرد، ومع نهاية سنة 1967 وصل عدد اليهود المغاربة الواصلين إلى الأراضي المحتلة 238 ألف مواطن مغربي سابق.

من الثورة إلى الوزارة

لم ينتظر اليهود المغاربة الوصول إلى أرض فلسطين من أجل العيش على وقع التمييز بين السافارديم والأشكيناز، بل بدأت مظاهر هذا التمييز  قبل ركوب الباخرة، وهو ما حدث بين أفراد الطائفة المغربية أنفسهم، حيث أظهرت وثائق للدولة العبرية تعود لسنوات الخمسينيات والستينيات رفعت عنها السرية سنة 2018 أن الحركة الصهيونية كانت تحاول فرض نوع من الرقابة على عملية استقرار اليهود الوافدين من دول شمال أفريقيا في إسرائيل، هذا بجانب تهجير اليهود الشباب وتهميش الطاعنين في السن الذين مات العديد منهم وهم ينتظرون منحهم تذكرة للهجرة إلى «أرض الميعاد».

ومع الوصول إلى فلسطين ظهر التمييز العنصري بين اليهود العرب واليهود القادمين من الغرب بشكل فج؛ عانى اليهود المغاربة من التهميش والإبعاد وعدم المشاركة في تسيير الدولة الإسرائيلية الفتية بالإضافة إلى منحهم مساكن بعيدة عن المدن والحواضر التي يسكنها اليهود الأشكيناز، ولَّد هذا التعامل غضبًا كبيرًا أفضى إلى تأسيس حركة «الفهود السود» بداية السبعينيات، وهي حركة يسارية أسسها مجموعة من اليهود من ذوي الأصول المغربية، وهم: تشارلي بيتون المولود في الدار البيضاء، وسعدية مارسيانو المنحدر من مدينة وجدة شرق المملكة، ورؤوبين أبارجل من مدينة الرباط.

رفعت المظاهرات لافتات تطالب بإسقاط دولة «الأشكيناز» وردت الحكومة والسلطات الأمنية بعنف كبير على هذه المطالب، لكن هذا لم يردع «الفهود السود» وواصلوا احتجاجاتهم حتى خضعت الحكومة الإسرائيلية لذلك واعترفت بوجود تمييز بين يهود المشرق والغرب، أدت هذه الاحتجاجات إلى الإطاحة بحزب ماباي  الإسرائيلي «حزب عمال أرض إسرائيل» سنة 1977م، وساهمت في وصول حزب الليكود برئاسة مناحيم بيجن إلى السلطة للمرة الأولى.

تغيرت طريقة تعامل الحكومة الإسرائيلية مع اليهود المغاربة، الذي تمكنوا من تسلق سلم المناصب داخل الحكومة وداخل المؤسسة العسكرية، وأصبحوا ذوي وزن مهم داخل كواليس دولة الاحتلال، حيث شكلوا ثلث حكومة بنيامين نتنياهو عام 2020م بعد تقلدهم وزارات حساسة ومهمة كالداخلية والاقتصاد والأمن الداخلي.

المراجع
  1. ألف سنة من حياة اليهود، حاييم الزعفرانى
  2. اليهود المغاربة : من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، د. أحمد شحلان