تعددت الدراسات التي تربط الربيع العربي بالأحوال الاقتصادية للمنطقة، فكان منها ما وسّع إطار الدراسة بمناقشة كامل الاقتصاد السياسي العام للمنطقة، ومنها ما ضيّقه ليقتصر على قضايا نوعية، كالديموغرافيا أو التحضّر أو الغذاء أو غيره.

ويأتي في إطار النوع الأخير كتاب «الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية»، الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، للأستاذة «جين هاريغان»، أستاذة الاقتصاد بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية، بجامعة لندن بالمملكة المتحدة، وبترجمة الدكتور «أشرف سليمان»، الأستاذ المساعد بمركز البحوث الزراعية والأستاذ السابق بجامعة كيوتو.

يتكوّن الكتاب من مقدمة وخاتمة، وسبعة فصول، بدأت بمناقشة حالة الأمن الغذائي للبلدان العربية وتطوّر إستراتيجياته في فصلين، ثم ببحث أسباب الأزمة الغذائية العالمية وأساليب استجابة الدول العربية لها في فصلين آخرين، وانتهت بتناول الأساليب الممكنة للدول العربية لعلاج مشكلتها الغذائية في الفصول الثلاثة الأخيرة.


خلفية تاريخية: أزمات وإستراتيجيات

ينطلق الكتاب من خلفية تتكون من ثلاث ظواهر متزامنة؛ هي أزمة الغذاء العالمية، والربيع العربي وتنامي ممارسات الاستحواذ على الأراضي كظاهرتين إقليميتين، والتي يراها الكتاب كظواهر «ترتبط ارتباطًا وثيقًا، وتمثل جزءًا من اقتصاد سياسي جديد للأمن الغذائي في المنطقة»، والتي استحدثت لأجلها مؤلفة الكتاب مفهوم «السيادة الغذائية الكلية»، الذي يمثل في رأيها هدف الدول العربية المأزومة بعد الربيع العربي خصوصًا، انطلاقًا من أهمية سياسة الغذاء وعلاقتها بالسلطة؛ ما ينقل النقاش من دائرة الاقتصاد البحت إلى الاقتصاد السياسي، الذي بدأت به عنوان كتابها نفسه.

فلم يكن ذلك التزامن من باب المصادفة، فبعد صدمة أسعار 2007 / 2008 المتزامنة مع الأزمة المالية العالمية، كانت الصدمة الثانية في يونيو/حزيران 2010، التي بلغت معها أسعار الغذاء مستويات قياسية، وهي الأوضاع التي أجمع كثير من المحللين في البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على استمرارها لردح من الزمن، وهو الوضع الذي يزداد خطورة إذا ما أُخذ بالاعتبار الجانب الجيوسياسي لسوق الأغذية العالمية، من سيطرة خمس دول فقط على أكثر من 73% من الحبوب المتداولة عالميًا، وهي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا والأرجنتين، كذا جانب التركز الاحتكاري للسوق نفسه، المتمثل في سيطرة أربع شركات دولية فقط، على 75% من التجارة العالمية في الحبوب واللحوم، وهي شركات آرتشرز ميدلاند وبانج وكارغيل ودريفوس.

وهو وضع خطير بالنسبة لدول تعاني من قصور كبير في قدراتها الزراعية الخام، وفي آليات توريد الغذاء وقنوات وصوله، «فمعظم الدول العربية تستورد ما بين 25% و50% من احتياجاتها الغذائية، ..، وتتراوح نسبة واردات الحبوب في المنطقة من إجمالي الاستهلاك ما بين 40% و50%، ..، وتمثل الواردات الغذائية أكبر حصة من المنتجات المُستوردة في المنطقة، وهي تُقدر بما بين 11% و34% من إجمالي السلع المُستوردة من قبل الدول العربية، وحيث تبلغ فاتورة الواردات الغذائية نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي».

وهو العجز الذي يرجع في رأي المؤلفة لتوليفة من عوامل العرض والطلب، فمن جهة العرض تعاني المنطقة من ندرة المياه العذبة ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة، ومن جهة الطلب تتميز ببعض أعلى معدلات النمو السكاني في العالم، وبتحول الأنظمة الغذائية مع الطفرة النفطية التي شملت آثارها كافة بلدان المنطقة.

ويتفاقم هذا العجز «الخام»، بالعوامل السياسية والاجتماعية، من عجز إداري وسياسي وتفاوت كبير في توزيع الدخل، فضلاً عن الصراعات والنزاعات المحلية والإقليمية التي تفاقم كل ذلك، لا غرابة أن كانت أكثر الدول معاناة من ضعف الأمن الغذائي في المنطقة هي التي تعاني عدم الاستقرار، كاليمن والعراق والضفة الغربية وغزة والسودان.

وفي مواجهة هذه الأوضاع ذات الجذور الهيكلية والتاريخية، اتبعت الدول العربية عددًا من الإستراتيجيات المتعاقبة، كانت أولاها إستراتيجية الاكتفاء الذاتي على المستوى القومي في مواجهة حالة الاعتماد المفرط على الواردات والمعونات، والتي فشلت لأسباب سياسية بالأساس، ثم كانت ثانيتها إستراتيجية التجارة المتوافقة مع إجماع واشنطن وسياسات التحرير النيوليبرالية، والتي لم تحقق نموًا كبيرًا في الإنتاجية، كما زادت من مخاطر التهديدات الجيوسياسية؛ فقادت إلى الإستراتجية الثالثة بعد أزمة الغذاء العالمية في 2007، والتأكد من أن الغذاء أخطر من تركه لاعتبارات السوق الحرة والكفاءة الاقتصادية البحتة، وهي إستراتيجية السيادة الغذائية القائمة على الإنتاج المحلي والاستحواذ على الأراضي في الخارج معًا، وهي الإستراتيجية التي اعتمدتها خصوصًا بلدان الخليج الغنية.


الأزمة الغذائية العالمية: أسباب ونتائج واستجابات

وهنا تتوسّع المؤلفة في بيان أسباب الأزمة الغذائية، لتشمل الأسباب الهيكلية على جانبي العرض والطلب، فتسرد:

أولاً، على جانب الطلب: النمو السكاني السريع، وتغيّر أنماط الاستهلاك، وزيادة الطلب على المحاصيل لإنتاج الوقود الحفري، فضلاً عن الطرائق المُستحدثة لتمويل السلع الغذائية على الصعيد العالمي، وتحويلها لسلع استثمارية في أسواق البورصة الدولية ضمن اقتصاد عالمي مأزوم وهشّ ماليًا ونقديًا.

ثانيًا، على جانب العرض: ضعف الأسواق الدولية من جهة انخفاض نسبة الإنتاج الزراعي التي يجري تداولها دوليًا، وضعف المخزونات من السلع الزراعية، والتغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، فضلاً عن السياسات التجارية من حظر صادرات وغيره، ارتباطًا بالأولويات الوطنية للدول المختلفة، خصوصًا لكبار مصدري السلع الغذائية في سوق محكوم بالتركّز الإنتاجي والتصديري، خلافًا للحكمة التقليدية عن الأسواق الزراعية!

أما عن نتائجها على المنطقة العربية، فقد تنوّعت ما بين الآتي:

1. الاقتصادية: من تضخم وتفاقم لمشكلات المالية العامة وموازين المدفوعات واحتياطيات النقد الأجنبي وأسعار الصرف.

2. الاجتماعية: من تدهور للأمن الغذائي وارتفاع لمعدلات الفقر بأبعاده المختلفة وتفاقم لسوء توزيع الدخل.

3. وبالطبع، السياسية: من تصاعد للاحتجاجات الشعبية والاضطرابات السياسية في المنطقة، التي كان الربيع العربي سياقها الأعمّ بأسبابه المختلفة.

ومن هنا كانت حتمية الاستجابات الحكومية لهذه الآثار، والتي بدأت بالطبع باستجابات قصيرة الأجل، تمحورت حول زيادة النفقات التحويلية باتجاه رفع الرواتب والدعم الحكومي لبعض السلع الغذائية، وخفض الجمارك والتعريفات على الواردات الغذائية لزيادة عرضها المحلي، وهو ما فاقم من جهة أخرى الضغط على الموازنات العامة وموازين المدفوعات في تلك الدول، خصوصًا محدودة الموارد المالية منها، كمصر والأردن وغيرها؛ الأمر الذي انعكس لاحقًا مع تدهور الوضع بالاتجاه لخفض الدعم وتقليص الفجوات المالية والتجارية الثقيلة على اقتصادات مأزومة، وهو ما كشف عن الحدود الضيقة لهذه السياسات، وفرض الاتجاه لاستجابات طويلة الأجل، خصّصت لها المؤلفة ثلاثة فصول كاملة من الكتاب.


استجابات إستراتيجية

واتخذت ثلاثة أشكال رئيسية من الاستجابات الإستراتيجية طويلة الأجل، هي:

أولاً: الاستحواذ على الأراضي في الخارج، وهي الإستراتيجية التي حظيت بأكبر فصول الكتاب، لما يحيط بها من جدل واسع يتجاوز كثيرًا حدود المزايا الاقتصادية المباشرة، ولتعدد الأطراف المنخرطة فيها، المستفيدة منها والمتضررة بها، كذا لما تتميّز به من مزايا عما سواها من إستراتيجيات، كقدرتها الأكبر على تجنّب تقلبات الأسواق، وتقليل التأثر بممارسات كبار المنتجين والمحتكرين، وبصفة عامة، وكمّية، قدرتها على تجاوز الأسواق العالمية بما يخفض تكاليف إنتاج الغذاء بنسب تصل إلى 25%.

وهي الممارسة التي بدأت في الاتساع عالميًا منذ عام 2005م، ثم تسارعت وتيرتها مع الأزمة الغذائية والمالية العالمية أعوام 2007 و2008، بقيادة الصين وكوريا الجنوبية، ولحقتهما بلدان الخليج العربي بنسب لم تتجاوز خلال العقد الأول من الألفية نسبة الـ 12% في أفريقيا و6% فقط في آسيا، والتي قامت بحفز الممارسة من خلال تشكيلة من الترتيبات المؤسسية، تراوحت ما بين مذكرات التفاهم الحكومية المباشرة مع حكومات البلدان المضيفة، واستثمارات الصناديق السيادية والشركات المملوكة للدولة، وتقديم الدعم الفني للقطاع الخاص، وحتى المادي بأشكالها المباشرة وغير المباشرة.

وعلى هذه الممارسة عدد من المآخذ التي قد تهدد استدامتها، خصوصًا من زاوية البلد المضيف، كغياب الشفافية في الصفقات، وغلبة محاباة المستثمرين بفساد الحكومات، وتهجير السكان المحليين من أراضيهم، مع ضعف أو انعدام التعويض من فرص عمل أو مزايا اجتماعية عامة، بل ويصل الأمر إلى تهديد الأمن الغذائي للبلد المضيف نفسه، وهو المشاكل التي تتطلب علاجًا، بالشفافية والحوكمة ومراعاة مصالح كافة الأطراف، إذا ما أُريد لهذه الممارسة الهامة أن تستمر بشكل مُستدام.

وهو ما حاولت المنظمات الدولية تحقيقه من خلال اقتراح بعض المبادئ ومدونات السلوك؛ لضمان التوازن بين جميع الأطراف والمكاسب المتبادلة بين البلدين، والتي من أهمها وفقًا لمقترحات الإسكوا: الشفافية العامة والمشاركة الشعبية والتنسيق المؤسسي، احترام الحقوق العرفية وأخذ الجوانب التوزيعية بالاعتبار، ومراعاة الاستدامة البيئية والأمن الغذائي للبلد المحلي، قبل مصالح المستثمرين الأجانب.

ثانيًا، التكامل العربي في مجالي التجارة الدولية والإنتاج المحلي، أي تحسين قدرات الزراعة المحلية، وتحسين نوعية التكامل التجاري في الأسواق العالمية للغذاء، لكن معًا كسياستين متكاملتين أولاً، وعلى المستوى الإقليمي لا الوطني ثانيًا، حيث يساعد التكامل بين السياستين على ضبط وتحسين سلاسل الإمدادات والتوزيع، كذا تطوير مخزونات «إقليمية» مستقرة؛ ما يقلل من آثار التقلبات في الأسواق الدولية وأسعارها، فضلاً عن خفضه التكاليف عمومًا في الأجل الطويل، فيما يدعم المنهج الإقليمي للأمن الغذائي قدرة دول المنطقة مجتمعة على تحسين شروط تجارتها عمومًا، والغذائية منها خصوصًا، وعلى خفض التكاليف غير الضرورية والثقيلة على معظمها كدول منفردة، فضلاً عن كونه منهجًا أكثر اتساقًا مع طبيعة بعض تهديدات الأمن الغذائي؛ كونها تحمل أبعادًا إقليمية؛ وتتطلّب من ثم حلولاً إقليمية.

ثم تناقش المؤلفة ضمن هذه السياسات، ما هو ضروري من سياسات فرعية تقليدية من رفع للإنتاجية الزراعية، وضرورة الاهتمام بالقطاع الزراعي برفع كمّ وكيف الاستثمار به، فضلاً عن وضع إستراتيجيات للسياسة المائية تراعي شحّ المياه أو قلتها في معظم الدول العربية، مع إشارة متناقضة لتحرير السياسة التجارية في السلع الزراعية، التي تعترف أن التوسع فيها سيؤدي لخفض الإنتاج من بعض المحاصيل الأساسية، والتي سبق وأكّدت في الفصول الأولى بالكتاب على أهمية عدم التقيّد بالاعتبارات الاقتصادية المجردة وحدها فيما يتعلق بالأمن الغذائي!

ثالثًا، إصلاح شبكات الأمان الاجتماعي، وهنا تنتقل المؤلفة من المستوى الماكروي إلى المستوى الميكروي ومن جانب العرض إلى جانب الطلب، في النقاش، وهو المتعلق بمشكلات قنوات التوزيع وسبل الوصول للسلع الغذائية، والذي كان مُهملاً قبل أن يلفت عالم الاقتصاد الهندي الشهير آمارتيا صن، النظر إليه ضمن تحليله للمجاعات، عندما أشار إلى أهمية العوامل المتعلقة بجانب الطلب لضمان الأمن الغذائي الفردي، فقد يوجد الغذاء بكميات كافية على المستوى القومي/الماكروي، لكن لا يُتاح وصوله للفئات الأفقر على المستوى الفئوي/الميكروي، وهو التحليل الذي يؤكد بالتالي على اعتبارات الوصول والقدرة على تحمّل التكاليف.

وانتقدت المؤلفة ضعف كفاءة تلك البرامج في المنطقة العربية، كونها برامج دعم عام غير تمييزي، يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء، محدودة الأثر على رأس المال البشري، وأن الإنفاق الاجتماعي الذي يتم ضمنها، محدود الفاعلية، رغم ارتفاع مستواه كميًا؛وهكذا لا يضيف الدولار الإضافي من الإنفاق الاجتماعي في المنطقة، سوى نصف ما يضيفه نظيره في بقية دول العالم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي؛ وهكذا لا يؤدي ذلك الإنفاق الاجتماعي أهدافه المُفترضة، سواءً في مجال الحماية الاجتماعية وخفض الفقر، أو في مجال رفع معدل النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.

وتذكر بعض التقديرات الكمية للبنك الدولي وغيره عن مصر مثلاً، أن الخُمس الأفقر من سكانها يحصل على إعانات أقل مما يحصل عليه نظيره في الخمس الأغنى، وأن الدعم الشامل للطاقة فيها «تنازلي»، يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء، وأنه لو أُعيدت هيكلة نصف الدعم الحالي فقط، لصالح الفئات الأشد فقرًا؛ فسينخفض مستوى الفقر من 20% إلى 13.5% من السكان، وسيتجاوز 4.5 مليون فرد خط الفقر، وهي تقديرات على تقادمها الشديد (2005)، فإنها تبقى ذات دلالة من جهة بعدها «الكيفي» الأكثر أهمية، والمتمثل في خلل منظومة الدعم، ومدى العوائد المحتملة من محاولات إصلاحها باتجاه أكثر عدالة (لا إلغائها بالطبع كما تطمح الحكومة المصرية حاليًا!)

وانتقلت المؤلفة بالتبعية إلى اتساع الخلل التخصيصي وضعف الكفاءة لكامل نطاق المالية العامة العربية، ما ذكرت نموذجًا له، تضخّم الإنفاق العسكري بالمنطقة لأكثر من ضعف المتوسط العالمي له، مقابل انخفاضه للتعليم والصحة لأقل من المتوسط العالمي لهما!

وتعيدنا هذه النتيجة الأخيرة لمقدمة هذا المقال عن الارتباط بين الربيع العربي وظواهر الاقتصاد السياسي للمنطقة، فكافة القضايا المتعلقة بالاقتصاد والمالية العامة والتنمية، هي قضايا لا يمكن أن تنفصل عن مسائل المشاركة الشعبية والمحاسبة العامة والديموقراطية بأوسع معانيها، وكلها كانت مطالب في قلب الربيع العربي، الذي ربط العيش بالحرية والعدالة الاجتماعية.