قليلة هي أقاصيص العلم التي لاقت انتشارًا بين الناس، صغيرهم وكبيرهم، مثلما فعلت قصة فليمنج والبنسلين المكتشف صدفة. ورغم اكتشاف البنسلين في عام 1928 فإن كلمة «مضاد حيوي – Antibiotic» لم تنضم للغة إلا عام 1941 على يد «سيلمان واكسمان» مع بداية استخدامه فعليًا لعلاج المرضى.

منذ أن تم تعميم استخدام المضادات الحيوية وإلى الآن اتجهت البشرية إلى موقف أكثر حرجًا شيئًا فشيئًا. تقدر الوفيات التي تتسبب فيها العدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية بنحو 23000 حالة سنويًا في الولايات المتحدة وحدها. في الوقت نفسه ازداد استهلاك الأمريكيين للمضادات الحيوية في عام 2015 بنسبة 30%، وهي دولة تضع قيودًا على استهلاكها، فكيف الحال في دول أقل حيطة؟

لا تعد تسعون عامًا زمنًا بالنسبة لعملية «التطور – Evolution» عند البشر، لكنها دهر بالنسبة لتطور البكتيريا. وهكذا، في أقل من قرن أصبحنا نواجه مشكلة حقيقية في فعالية معظم المضادات الحيوية ضد الكثير من السلالات البكتيرية.

كيف وصلنا إذن لهذه المرحلة؟ لنجيب على هذا السؤال علينا البدء من البداية.


1. ما هو المضاد الحيوي؟

تطلق كلمة مضاد حيوي على أي مادة يفرزها كائن حي تقوم بقتل Bactericidal كائنات حية أخرى مجهرية في الغالب أو إيقاف نموها Bacteriostatic. فالبنسلين هو مادة يفرزها فطر «البينسيليوم» و«الكلورافينيكول» تفرزه بكتيريا «الستريبتومايسيس» التي تعيش في التربة.

تفرز هذه الكائنات المضادات كطرق دفاع ضد الكائنات التي تهاجمها، سواء من نفس نوعها (مثل إفراز البكتيريا لمضادات بكتيرية) أو من نوع مختلف. في أحيان كثيرة هذه الكائنات المعتدية تكون هي المسئولة عن أمراض كثيرة تصيب البشر في شكل عدوى، ولذا، فقد أظهرت الفعالية ذاتها بالنسبة للبشر ولو في جرعات أعلى بكثير.


2. كيف تقضي المضادات الحيوية على البكتيريا؟

في الأساس، تستهدف جزيئات المضاد الحيوية عملية حيوية محورية في حياة الخلية البكتيرية وتقوم بتعطيلها. على هذا المقياس، يمكن تقسيم المضادات الحيوية حسب نشاطها إلى 3 أنواع؛ مضاد يستهدف «الحمض النووي – DNA» و«RNA» للبكتيريا، مضاد يستهدف بروتينات البكتيريا، ومضاد يستهدف جدار الخلية البكتيرية.

قد تحتوي الخلية البشرية والخلية البكتيرية على نفس العضي Organelle مثل الريبوسومات أو الأحماض النووية، إلا أن تركيب العضي البكتيري يختلف في شكله وتركيبه عن العضي البشري. هذه الاختلافات هي ما يساعد المضاد الحيوي على التعرف على البكتيريا المستهدف إبادتها.


3. هل تعمل المضادات الحيوية ضد كل أنواع العدوى؟

هنا يأتي خطأ شائع وخطير. لا تعمل المضادات الحيوية إلا ضد البكتيريا والعدوى البكتيرية فقط. تتطلب مجابهة العدوى الفيروسية جهودًا أكثر تعقيدًا بكثير ولا تؤثر عليها المضادات الحيوية. في بعض الأحيان كالإنفلونزا، تفيد المضادات الحيوية في علاج الآثار الجانبية العرضية للعدوى البكتيرية الثانوية التي تنشأ بجانب عدوى فيروسية في منطقة ضعيفة من الجسم.


4. لماذا تعطى جرعات المضاد الحيوي بحذر؟

يمكن للكميات شديدة التركيز من مضاد حيوي معين قتل أي نوع من أنواع البكتيريا مصمم للعمل ضده، ولكن هذه المستويات المهولة من التركيز لن يصبح بإمكان الجسم البشري تحملها، وستبدأ الخلايا البشرية بالتداعي تحت وطأة جزيء المضاد الحيوي ثم تموت.

لهذا، فإن جرعة محددة من كل مضاد حيوي يسمح بتقديمها للجسم لتؤدي غرض العلاج دون تدمير قدرة الجسم على الاحتمال. في بعض الأحيان تصبح البكتيريا قادرة على تحمل أقصى جرعة من المضاد الحيوي يمكن للفرد تناولها، بل تصبح مقاومة لعدة أنواع من المضادات. وهنا نصبح في مشكلة حقيقية.


5. هل يمكن تصنيف المضادات الحيوية؟

تخضع المضادات الحيوية للعديد من التصنيفات، لكن أهمها هو القائم على طريقة قيامها بعملها والتي قد تختص بالجدار الخلوي أو البروتينات أو الحمض النووي كما ذكرنا. في كل عائلة من عائلات المضادات الحيوية توجد عدة جزيئات مختلفة الشكل والتركيب والحجم لكنها تقوم بعملها بشكل مماثل لباقي أفراد العائلة.

تنقسم المضادات الحيوية بشكل أساسي إلى العائلات الآتية:

1. البيتا لاكتام: وهي العائلة المتخصصة في تعطيل تكوين الجدار الخلوي للبكتيريا التي تمتلك جدارًا خلويًا. من أهمها نجد البنسلين و«السيفالوسبورينات – Cephalosporins».2. «الماكروليدات – Macrolides» و«الأمينوجليكوسيدات – Aminoglycosides» و«التيتراسايكلين – Tetracyclines»: وهي العائلات الثلاث المختصة بإيقاف عملية صناعة البروتين، ومن أشهرها «الإيريثروميسين – Erythromycins» والسوميسين والتوبراميسين على الترتيب.3. الكوينولونات: والتي تقوم بتكسير الحمض النووي البكتيري وتستخدم كعلاج لذات الرئة ومن أكثر أنواعها انتشارًا «السيبروفلوكساسين – Cipro».


6. كيف تبدأ البكتيريا في تكوين مقاومة للمضاد الحيوي؟

يبدأ الأمر من خلال طفرات عشوائية في الكود الجيني لبضعة أفراد من العائلة البكتيرية أثناء التكاثر، أو من خلال انتقال الجين الطافر من بكتيريا إلى أخرى. من بين هذه الطفرات المتعددة، تأتي واحدة لتمنح البكتيريا التي تملكها قدرة على عدم التأثر بهجمات المضاد.

تؤدي هذه الطفرة لتغير في طبيعة الخلية البكتيرية مما يؤدي إلى عدم قدرة جزيء المضاد الحيوي على التداخل مع عملياتها الحيوية، فمثلًا، تؤدي الطفرة لتغيير شكل ريبوسوم البكتيريا حتى لا يتمكن المضاد -من عائلة «الماكروليدات – Macrolides»- من الالتحام به وعرقلته عن صناعة بروتينات الخلية، أو تغيير طبيعة ارتباط جزيئات الجدار الخلوي البكتيري ببعضها فلا يستطيع المضاد تكسيرها ومنع الجدار من التكون، ومن ثم انفجار الخلية.

يقوم المضاد بعمله الطبيعي مع بقية البكتيريا التي لم تحُز هذه الطفرة في حمضها النووي تاركًا البكتيريا ذات الطفرة لتنمو أكثر وتستحوذ على الغذاء والبيئة. هنا، يقف المضاد الحيوي المذكور بلا حول ولا قوة أمام الإمبراطورية البكتيرية الجديدة. فإما مضاد جديد يلائم الوضع الجديد أو المزيد من التدهور الصحي.

رغم استمرار الحديث حول خطورة استخدام المضادات الحيوية لعلاج العدوى الفيروسية كالإنفلونزا والزكام وبرد الصدر وعدوى الأذن والأنف، فإن أعدادًا ضخمة من البشر لا زالت تلجأ للمضادات بمجرد ظهور أي عرض لأى عدوى دون التريث أو استشارة الأطباء.

الأطباء الذين يشاركون أحيانًا في تغذية الأسطورة التي قد تفضي بالبشرية إلى مصير مظلم. لذلك تصبح مهمة كل منا إبقاء الحديث حيًا لعل المجهود الجماعي ينقذنا من تدمير حصننا الدفاعي الأهم ضد البكتيريا.