في القرن الـ17 تحدث الفيلسوف والمفكر البريطاني توماس هوبز عن حالة الفوضى أو حرب الكل ضد الكل كما سماها. تناول الفيلسوف الأنانية الفردية في معرض حديثه، والتي تنص على أن الإنسان أناني بطبعه، دائماً ما يبحث عن مصلحته الخاصة، ينافس الآخرين للوصول إليها، حتى أنه قد يبادر بالاعتداء عليهم للوصول إلى ما يصبو إليه.

اليوم وبعد مرور أكثر من أربعة قرون، عادت هذه المقولة للظهور من جديد، إذ تجلت في عدد من المظاهر الأنانية المصاحبة لانتشار فيروس كورونا الجديد، جاء في مقدمتها العنصرية، والتهافت على السلع دون أدنى اكتراث بالآخر، فضلاً عن شراء الأسلحة تحسبا للأسوأ واستعداداً لاحتمالية خروج الأمور عن السيطرة.

إن مختلف هذه السلوكيات وإن دلت فإنما تدل على الأنانية الفردية التي تحدث عنها هوبز، لكن لماذا تحدث هذه السلوكيات وقت انتشار الأوبئة، هذا ما يسمى بسيكولوجية الأوبئة والتي سنتطرق إليها للتعرف على مظاهرها وأسبابها.

العنصرية في كل مكان

كانت العنصرية وإلقاء اللوم على الآخر أول هذه المظاهر، وقد كانت – بالطبع – من نصيب الآسيويين. منذ انتشار الفيروس من ووهان الصينية، تعرض الآسيويون في مختلف الدول لمضايقات وعبارات عنصرية من قبيل «كل الأمراض تأتي من الصين»، و«أنتم الفيروس»، و«أنتم كورونا». إلى جانب العبارات ظهرت بعض مظاهر العنصرية والعداء مثل البصق على سيّاح صينيين في فينيسيا الإيطالية، وتوقيع عريضة تدعو إلى منع الصينيين من دخول ماليزيا وهي العريضة التي حظيت بنحو 500 ألف توقيع خلال أسبوع.

ذلك فضلاً عن العنف اللفظي المتكرر في الأماكن والمواصلات العامة، كما هو الحال لوس أنجلوس التي تعرضت فيه أميركية تايلاندية الأصل، لعنف لفظي من قبل راكب في مترو الأنفاق، استمرّ بالصراخ في وجهها لأكثر من 10 دقائق، حمّل خلالها الصين مسؤولية كل أمراض العالم، قائلاً: «الشعب الصيني مُهلِك ومسؤول عن كل الأمراض في العالم، هم أذكياء نعم، ولكنهم لا ينظّفون أنفسهم» ناعتاً إياها بـ«المقرفة».

على هذا المسار وجد الآسيويين أنفسهم موضع شك وريبة أينما حلّوا، في الشوارع، المدارس، وسائل النقل العام وكذلك عدد من الفنادق والمطاعم التي منعت دخولهم ورفضت تقديم الخدمة لهم، عازية ذلك إلى حماية زوارها.

ثم تطور الأمر إلى الاعتداء الجسدي والسحل لعدد منهم بدول مختلفة مثل بريطانيا التي تعرض فيها شاب يحمل الجنسية السنغافورية للضرب على يد مجموعة من المراهقين في لندن كانوا يهتفون أثناء الاعتداء عليه: «ارحل لا نريد كورونا في بلادنا». وهو الأمر الذي تكرر مع معلمي اللغة الصينية والمعلمين من أصول آسيوية الذين تعرضوا لاعتداءات متزايدة ببعض المدارس البريطانية.

لم يقتصر الأمر على الدول الغربية، بل امتد إلى الشرق الأوسط بمختلف دوله، وظهرت أبرز الأمثلة عليه في الفيديو الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر رجل بملامح آسيوية وقد ترك في وسط الطريق بمصر بعد أن تعرض لهتافات عنصرية من أشخاص نادوه بـكورونا، وذلك قبل أن يتم الاعتذار له فيما بعد.

يكفي فقط أن تلقي نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبحث عن علاقة كورونا بالعنصرية، لتجد كوميكس وقصصاً موثقة بفيديوهات من مختلف دول العالم عن حوادث وجرائم الكراهية ضد الآسيويين والصينين بصفة خاصة، تظهر جميعها الجانب المظلم من النفس البشرية، فالخوف من المرض، يُخرج أسوأ ما في البشر، ويدفعهم إلى إلقاء اللوم على الآخرين.

هيستريا الشراء: أنا ومن بعدي الطوفان

تمثلت ثاني مظاهر الأنانية في التهافت على السلع وتخزينها إلى الحد الذي جعل رفوف المتاجر الفارغة والتزاحم أمام المتاجر أمراً مألوفاً حول العالم. فمن الولايات المتحدة مروراً بفرنسا وبريطانيا ووصولاً إلى المنطقة العربية، تهافت السكان المذعورين على السلع الغذائية ومواد التعقيم والمطهرات، خاصة بعد إعلان بعض الدول حالة طوارئ.

تحولت عملية التسوق إلى ما يشبه البحث عن الكنز، نقاشات حامية، ومعارك شديدة بين أفراد مصرين على شراء وتخزين أكبر قدر من السلع التي يعتقدون أنها ستنفد خلال الأزمة. تطور الأمر ببعض المناطق ليصل إلى الاشتباك بالأيدي كما هو الحال في أستراليا التي شهدت تشاجر ثلاث نساء على حزمة من ورق المرحاض، وتصاعد أكثر إلى حد استخدام السكين في شجار وقع بمدينة سيدني بأستراليا أيضاً.

في بريطانيا اندلعت المعارك ببعض المتاجر بين العملاء، وحدثت اعتداءات على الممتلكات العامة وتحطيم أتوبيسات النقل العام وتحطيم واجهات المحلات وسرقة منتجاتها، مما دفع تجار المواد الغذائية إلى الاستنجاد بالشرطة التي انتشرت في محاولة للسيطرة على الأوضاع. مصر أيضًا، لم تكن بعيدة عن المشهد، حيث تهافت البعض على شراء السلع وتخزينها بصورة مبالغ فيها مما دفع بعض المتاجر للتلاعب في جودة المنتجات والأسعار.

دفعت مختلف هذه المظاهر المسئولين بدول العالم إلى الخروج بتصريحات لطمأنة السكان بتوافر مخزون استراتيجي يكفي لاحتياجهم لكن لا أحد يبالي، الكل مستمر في التكديس قدر المستطاع دون مراعة للآخر وحقه.

الحق أن تلك ليست المرة الأولى، فهذا النوع من السلوكيات متكرر وعادة ما يظهر وقت الأزمات، فقد اجتاحت العالم هيستريا الشراء أو هلع الشراء كما يتم تسميتها مرات عديدة، كما في عام 1962، حين كان العالم يترقب وقوع حرب نووية في أوج أزمة الصواريخ الكوبية، وسارعت حينها العائلات الأمريكية إلى تخزين السلع الغذائية. وتكررت مع الأنفلونزا الإسبانية عام 1918، حيث هرع المواطنون إلى المتاجر والصيدليات لتخزين البضائع.

مزيد من السلاح: هل يصل الأمر إلى القتل؟

في حين تكالب الناس على شراء السلع الغذائية ومواد التعقيم والتطهير، ظهر على الجانب الآخر تكالب كبير على الأسلحة في عدد من دول العالم الغربي في مقدمتها كندا وعدد من الولايات الأميركية التي تضررت بشدة من الفيروس مثل كاليفورنيا ونيويورك وواشنطن، حيث اصطف الأمريكيون في طوابير طويلة أمام متاجر الأسلحة.

 أشارت تقارير عدة إلى أنه منذ دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة مع فيروس كورونا، بيع ما يزيد على 2.8 مليون قطعة سلاح، وأن مبيعات السلاح للأفراد في الولايات المتحدة ارتفعت بنحو 100% كما ازداد الطلب عليها عبر الإنترنت، مما أدى إلى زيادة مبيعات موقع «ammo.com» للأسلحة بنسبة 68% منذ بدء أزمة الفيروس بالداخل الأمريكي.

جاء الإقبال على السلاح نتيجة الخوف من تداعيات كورونا المحتملة وتحسب الأمريكيين لانهيار النظام العام وتدهور الأوضاع وخروجها عن السيطرة، ما قد يدفع الناس إلى القتل من أجل الطعام.

زاد من هذه المخاوف التقارير المتعددة عن إمكانية فقدان الناس لوظائفهم إذا لم يتم السيطرة على الفيروس، فحينها لن يستطيع الأفراد مواصلة الحياة وقد يتجهون إلى قتل بعضهم للحصول على الطعام والاحتياجات الأساسية.

قد يرى البعض أن الأمر به مبالغة أو تشاؤماً كبيراً من قبل الأمريكيين ومختلف الأفراد الذين أقبلوا على شراء الأسلحة، لكن واقع الحال يشير إلى أن تلك الاحتمالات المأسوية والتفكير المتشائم أمر معتاد في أوقات الأزمات والأوبئة، نتيجة الطبيعة البشرية التي بمجرد شعورها بالخطر تميل إلى تضخيمه والتعامل معه على هذا الأساس.

بهذا الإطار يشير بول سلوفيتش، عالم النفس بجامعة أوريغون إلى أن الفرد حينما يواجه خطراً محتملاً فإن عقله يقوم بتضخيمه ويبحث في التجارب السابقة المقلقة، وهذا ما يحدث مع أزمة فيروس كورونا، فالفرد لا ينتبه ولا يكترث كثيراً بالحالات التي تعافت من الفيروس، بقدر ما ينتبه إلى الحالات التي يتم إصابتها والتي تزداد يوماً تلو الآخر، مما يجعله يشعر بخطر أكبر ويدفعه للتحسب للسيناريوهات الكارثية المحتملة.

سيكولوجية الوباء: لماذا يظهر الأسوأ وقت الأزمات؟

مختلف السلوكيات السابقة بدءاً من العنصرية مروراً بالأنانية في الحصول على السلع، ووصولاً إلى حد حمل السلاح، هي سلوكيات معتادة ترتبط بانتشار الأوبئة بصفة عامة وليس بوباء كورونا فقط. ظهرت مثل هذه السلوكيات وغيرها مع الطاعون، والأنفلونزا الإسبانية والإيدز وغيرهما من الأوبئة التي اجتاحت العالم وأظهرت الجانب السيئ من البشر. هذه السلوكيات يطلق عليها مفهوم سيكولوجيا الأوبئة (Epidemic Psychology)، والتي تدور بالأساس حول حالة الخوف والقلق المصاحبة للأوبئة والتي تدفع البشر نحو سلوكيات أنانية وغير منطقية يأتي في مقدمتها التالي:

1. العنصرية وإلقاء اللوم على الآخر:

عادة ما ترتبط الأوبئة ببعض الإثنيات التي تظهر فيها لأول مرة ثم تنتشر بعد ذلك، وأحيانًا تتعرض هذه الإثنيات إلى العنصرية أو الاستبعاد، وهذا ما تجسد اليوم في حالة العنصرية والمضايقات التي يتعرض لها الآسيويون والصينيون بصفة خاصة.

2. اللاعقلانية:

في أوقات انتشار الأوبئة تسيطر اللاعقلانية على السلوك البشري. فنتيجة لحالة الخوف من المرض، يفقد الإنسان عقلانيته، يتصرف وفقاً لغرائزه التي تقوم بالأساس على فكرة السعي للبقاء، ولعل هذا ما ظهر واضحاً في التهافت على السلع وتخزينها سعياً للبقاء حال تدهور الأوضاع.

3. الخوف من المجهول:

عادة ما تقترن الأوبئة بحالة من الغموض وعدم اليقين، بهذه الحالة يبدأ الأفراد في التحوط لما هو قادم، فيتجهون إلى اتخاذ قرارات يرون أنها تناسب هذه الحالة مثل تخزين السلع والأسلحة تحوطاً للأسوأ كما هو الحال اليوم. فبينما طالبت العديد من الحكومات والجهات الطبية بالبقاء في المنزل وتجنّب التجمّعات والحفاظ على النظافة، إلا أن البعض رأى أن هذه الإجراءات غير كافية ولا تتناسب مع حجم الحدث، لهذا اتجه إلى التحوط عبر إنفاق المال على شراء سلع وأسلحة يأمل أنْ تحميه.

محاولات التحوط هذه، بمثابة محاولة من الأفراد لتهدئة مخاوفهم والتخفيف من قلقهم، فمن خلال تكديس السلع يشعر الأفراد أنهم في مأمن إلى حد ما في ظل حالة الغموض وعدم معرفة ما ستؤول إليه الأمور.

 4. فقدان الثقة في الأنظمة السياسية:

عادة ما تدفع حالة الغموض وعدم اليقين نحو فقد الثقة في الأنظمة والسلطات الحاكمة، والأمر هنا لا يقتصر على دول العالم الثالث، بل يمتد ليشمل مختلف الأنظمة السياسية حول العالم، فأكثر الدول المتقدمة قد تتعرض لانتقادات، كما هو واضح اليوم في بريطانيا، حيث الدعوى الشعبية التي تتهم الحكومة بالتقصير، وعدم اتخاذ إجراءات مبكرة لوقف انتقال المرض، وأيضاً في الولايات المتحدة حيث الهجوم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استخف بفيروس كورونا في البداية قبل أن يظهر الجدية.

(5) الامتثال الاجتماعي وسياسة القطيع:

لدى الأفراد بطبيعتهم نوع من الامتثال الاجتماعي أي الانجراف وراء ما يقوم به القطيع، ففي حياتنا اليومية على سبيل المثال عندما نكون قاعات المسارح أو اجتماعات أو أثناء الخطابات، ما أن يبدأ أحد الحضور بالتصفيق حتى يتبعه الآخرون بالتصفيق، وحين يبادر أحدهم بالضحك يبدأ الآخرون في الضحك والابتسام.

هذا ما يحدث خلال انتشار الأزمات والأوبئة: الامتثال للجماعة وسياسة القطيع، لكن في حالة الأوبئة عادة ما يكون الامتثال ممتزجاً بالخوف والقلق. فحين يشاهد الأفراد قلق من حولهم ونفاد الأسواق من البضائع سيؤثر هذا عليهم ويدفعهم إلى اتباع سياسة القطيع وتكديس السلع أو الإقبال على الأسلحة تأميناً لأنفسهم وعملاً بنظرية الندرة (The scarcity effect) التي تشير إلى أن الأفراد إذا ما اعتقدوا بوجود ما هو نادر أو متاح لفترة قصيرة من الزمن، فعقلهم سيعطيه وزناً أكبر ممّا يملكه في الواقع، ويدفعهم لاستغلاله قبل ضياع الفرصة. وبالطبع يساهم في ذلك التدفق المستمر للأنباء والفيديوهات على مواقع التواصل التي تظهر الطوابير الطويلة أما المتاجر ومحال الأسلحة، والأرفف الشاغرة من السلع.

ختاما، يمكن القول إن هذه السلوكيات وغيرها مما يظهر وقت انتشار الأوبئة يقف وراءها حالة الخوف من المرض، وهو ما يدفع لظهور أسوأ ما في البشر. لكن هذا الأسوأ لا يقف عند حد محاولات التعامل مع الأزمة والسعي للبقاء بل يمتد إلى ما بعد ذلك، إلى محاولات استغلال الأزمة لتحقيق المزيد من المكاسب كما هو الحال في قيام العديد من الشركات وخاصة شركات الأدوية والمنظفات بمضاعفة أسعار منتجاتها، فضلاً عن محاولات البعض السيطرة واحتكار الدواء كما هو الحال في الرئيس الأمريكي ترامب الذي يسعى لجذب إحدى الشركات الألمانية التي تعمل على إيجاد لقاح مضاد للفيروس وإغراءها بالأموال لاحتكار الدواء للأمريكيين أولا، الأمر الذي رفضته ألمانيا معلنة أن الدواء حال اختراعه سيكون متاحاً للجميع.