كثيرًا ما يُنظر لأشخاص مثل «ستيف جوبز» و«بيل جيتس» وغيرهما من عمالقة وادي السيليكون في كاليفورنيا على أنهم نتاجات مباشرة لتشجيع الرأسمالية على الإبداع والمبادرة.

مايكروسوفت وأبل وغيرهما من عمالقة التكنولوجيا هم نتاجات الروح الفردية للرأسمالية والسوق الحر التي تدفع للابتكار، ولا يمكننا تخيل غير ذلك. لا يمكننا تخيل أن ستيف جوبز وبيل جيتس وأيلون ماسك وغيرهم إلا بصورة المغامرين الذين تحملوا الصعاب وبدأوا أعمالهم من أقبية منازلهم أو من جراج السيارات حتى صاروا اليوم مليارديرات.

وفي مقابل القطاع الخاص الأكثر حيوية، رسخ الخطاب السائد عبر عقود طويلة في أذهاننا صورة كاريكاتورية عن القطاع العام أو الحكومة البيروقراطية وموظفيها الكسولين، هذا ما تنتقده ماريانا مازوكاتو أستاذة الاقتصاد بجامعة لندن UCL والمستشارة الاقتصادية لحزب العمال البريطاني والحكومة الأسكتلندية، وواحدة من أكثر الاقتصاديين تأثيرًا في العالم حاليًّا.

غالبا ما نَغفُل عن الدعم الذي قدمته الحكومة الأمريكية من أموال دافعي الضرائب في تمويل المراحل الأولى من الابتكارات، التي جنوا بسببها المليارات، وغالبًا ما نُغفِل أيضًا الأثر غير المباشر للحكومة، عن طريق الإعفاءات الضريبية وغيرها، على نشاطات تلك الشركات وأرباحها.
ماريانا مازوكاتو، الدولة رائدة الأعمال

في كتابها «The Entrepreneurial State»، والصادر عام 2013، تسعى مازوكاتو لتفكيك تلك الأساطير حول أن السوق الحرة والقطاع الخاص هما وحدهما من أنتجا التقدم التكنولوجي الذي نعيش فيه.

تقدم مازوكاتو صورة مختلفة وسردية جديدة لعدد من الصناعات الأساسية، خاصة في مجال التكنولوجيا لبيان مدى الدعم الذي تلقته تلك الصناعات من الدولة ومن أموال دافعي الضرائب، وتركز في الكتاب بشكل خاص على الولايات المتحدة قلب الرأسمالية والأساطير النيوليبرالية حول ضرورة أن ترفع الدولة يدها عن الاقتصاد، وأن تدخلها فيه هو الشر المطلق.

الكتاب حاز إشادة علمية كبيرة، وصنفته صحيفة الفايناشيال تايمز كواحد من أفضل الكتب الاقتصادية في العام 2013.

كل الجهد، قليل من الربح

تجادل مازوكاتو في كتابها أنه تاريخيًّا، وحتى في ظل الحقبة النيوليبرالية التي نعيشها، فإن القطاع العام – الحكومة الأمريكية – كانت دائمًا حجر الأساس في أي اختراع أو ابتكار يمثل قيمة إضافية للاقتصاد.

اختراع الإنترنت لم يكن وليد الصدفة أو ابتكار القطاع الخاص، بل طُوِّر في الأساس من قبل مراكز الأبحاث في وزارة الدفاع الأمريكية ومؤسسات عامة أخرى كالجامعات مثل معهد ماساتشوستس للتقنية MIT منذ الستينيات وحتى بداية الثمانينيات. فتح الإنترنت لاحقًا سوقًا كبيرة، وأصبح داخلًا في مختلف تفاصيل حياة البشر اليومية. 

كذلك اختراع أشياء مثل تقنية تحديد المواقع GPS وكل الأبحاث الأولى المتعلقة بالتكنولوجيا الحيوية والنانو تكنولوجي، كلها مُوِّلت من مراكز أبحاث عامة في جامعات عامة قبل أن تصل للقطاع الخاص.

قد يقول البعض إن تلك الأبحاث الأولية والنظرية في أحيان كثيرة لم تكن كافية لاختراع الأيفون أو الإنترنت ، وإن القطاع الخاص هو من حمل عبء تنفيذ تلك الأبحاث النظرية، التي موَّلتها الحكومة، من خلال أقسام البحث والتطوير في تلك الشركات.

ترد مازوكاتو في الكتاب على تلك الحجة من خلال بحثها حول القطاع الدوائي في الولايات المتحدة. وجدت أن قرابة 75 % من الأدوية الأساسية والموجهة لعلاج أمراض خطيرة، كانت ممولة بالكامل من الحكومة عبر معامل الجامعات والوكالة الفيدرالية للصحة؛ وأنه في الغالب ما تعمد الشركات الكبرى في الصناعات الدوائية للاستثمار في أدوية أقل أولوية وأكثر استهلاكًا، مثل فايزر الشهيرة التي تحقق معظم أرباحها الحالية من دواء فياجرا.

في الغالب ما تبرر شركات الأدوية الأسعار المبالغ فيها للدواء في الولايات المتحدة، وهي مشكلة محل جدل واسع في الوسط السياسي الأمريكي، إلى كلفة البحث والتطوير الكبيرة؛ لكن مازوكاتو تقول إنه إذا كان على الشركات تلك أن تجني كلفة البحث والتطوير، والتي غالبًا ما تبالغ في تقديرها، فإن على القطاع العام هو الآخر أن يأخذ حصة من الأرباح، لأنه ساهم هو أيضًا في البحث والتطوير لتلك الأدوية.

 حتى الجيل الجديد من رواد الأعمال مثل أيلون ماسك، رجل الصواريخ والسيارات الكهربائية، غالبًا ما يحصلون على دعم مباشر من الحكومة الأمريكية، عن طريق اقتطاعات ضريبية كبيرة من ضرائبهم على المستوى الفيدرالي وعلى مستوى الولايات، أو عن طريق توقيع الحكومة لعقود طويلة الأمد مع تلك الشركات لأغراض عسكرية أو مدنية. ماسك الآن يبني صورايخ لوزارة الدفاع ولوكالة ناسا.

هنا تقول مازوكاتو: «تاريخيًّا لم يكن دور الحكومة أو القطاع العام هو فقط على جانب العرض، من خلال المساهمة في الابتكار والبحث والتطوير، وإنما كان أيضًا علي جانب الطلب». وهو ما يساهم في خلق أسواق لتلك الشركات الناشئة، في الوقت الذي تزيد فيه الضغوط الاستثمارية عليها.

لم تكن تلك الحالة خاصة فقط بالولايات المتحدة، بل بمعظم الدول التي حققت طفرات اقتصادية كبيرة.

الصين مثلًا ومنذ بداية التسعينيات تدعم بشكل واسع مجموعة كبيرة من الشركات التكنولوجية، مثل هواوي التي وقعت عليها الحكومة الأمريكية مؤخرًا عقوبات لأنها بحسب قولها مملوكة للحكومة الصينية.  كوريا على سبيل المثال أيضًا دعمت صناعات السيارات فيها من خلال أموال دافعي الضرائب. والنموذج الأكبر في أوروبا وهو ألمانيا، لم تنجح إلا بالاعتماد على الاستثمار الذي ضخته الدولة الألمانية في الصناعة، خاصة في المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

بالتالي تقول مازوكاتو إن أسطورة تفوق القطاع الخاص في الكفاءة عن القطاع العام ليست إلا مجرد جانب واحد من الرواية لتاريخ الرأسمالية، وهي رواية جديدة نسبيًّا، منذ الثمانينيات وترسيخ السطوة الأيديولوجية للنيوليبرالية.

هل تحل الكينزية الجديدة مشاكل الرأسمالية؟

لا تدفع مازوكاتو بالطرح السابق من أجل مكايدة القطاع الخاص، لكنها  تحاول إعادة الاعتبار لما يسمى بـ «الكينزية الجديدة»، وهي نظرية اقتصادية لها منظروها منذ الثمانينيات.

تعتبر الكينزية الجديدة أن تدخل الدولة في الاقتصاد ليس فقط بغرض امتصاص البطالة والأزمات الهيكلية التي ينتجها السوق، بسبب عدم قدرته على تصحيح نفسه، بل لأن للدولة دورًا أكبر في خلق أسواق وإمكانات جديدة في الأسواق. تلك الإمكانات والآفاق الجديدة ضرورية من أجل استثمار الطاقات الكامنة في الأفراد وتوجيه السوق نحو الابتكار.

بينما تجادل الكينزية الكلاسيكية بأن للدولة دورًا حتميًّا في مرحلة الركود والتعثر الاقتصادي، تجادل مازوكاتو والكينزيون الجدد بأن للدولة دورًا أهم في مراحل النمو الاقتصادي، فمن شأن استثمار الدولة أن يخلق النمو ويُديمه.

في الغالب ما يسير القطاع الخاص والمستثمرون بالروح الحيوانية «animal sprit»، توقعات النمو في قطاع ما تدفع المستثمرين نحو هذا القطاع، بينما يتم تجاهل أغلب القطاعات الأخرى المهمة. وهنا يأتي دور الدولة كمصلح لمنطق السوق، حيث تخلق الأسواق الجديدة التي يمكن أن تتجه لها دفة الاستثمار لاحقًا.

ترى الكينزية الجديدة أن استثمار أموال دافعي الضرائب من قبل الدولة في البحث والتطوير لخلق تكنولوجيا جديدة ليس إهدارًا لتلك الموارد، وأن دور الدولة في الاقتصاد مهم في البحث والتطوير، لكن هذا يتطلب عبئًا آخر على الدولة في جانب توزيع أرباح النمو، فليس من المعقول أن يحصل الـ 1 % فقط على فوائد النمو الذي شارك فيه الجميع.

النيوليبرالية كتاريخ زائف

يدفع النيوليبراليون دائمًا بمقولة «إن القطاع الخاص أكثر كفاءة»، وإن علينا في النهاية أن نرفع يد الدولة عن الاقتصاد، ضرائب أقل، إسناد الخدمات العامة للقطاع الخاص، وغيرها من ملحقات الأجندة النيوليبرالية. ترى مازوكاتو أن هذا الطرح غير واقعي، في الغالب لا بد للدولة أن تتدخل في الاقتصاد.

تدخلت الدولة في الأزمة المالية في 2008، هنا تذكرنا مازوكاتو أن السبب في الأزمة كان ديونًا مصدرها القطاع الخاص وليس القطاع العام. وتدخلت الحكومة في النهاية بتقديم حزمة الإنقاذ المالي للبنوك والشركات الخاصة. أي أن من أنتج الأزمة كان القطاع الخاص، ومن ساهم في تقليل آثارها كانت الحكومة، بالرغم من كل خطابات النيوليبرالية حول رفع يد الدولة عن الاقتصاد.

في الواقع أنتجت النيوليبرالية المزيد من اللامساواة عن طريق تقليل الرقابة على الأسواق، وإتاحة المجال لتوحش الجانب المالي من الرأسمالية على الجوانب الإنتاجية الأهم.

ومن ثم ترى الكينزية الجديدة في زيادة الضرائب على الشركات، بالتحديد التي استفادت من الدعم الحكومي المباشر في البحث والتطوير، أداة لحل تلك المشكلة التوزيعية.

في النهاية تعبر تلك السردية البديلة لتاريخ التكنولوجيا عن حاجة حقيقية لإعادة التفكير في الوضع الرأسمالي الحالي. ثمة كثير من المشاكل التوزيعية، في أغلب دول العالم المتقدم والنامي هناك لا مساواة كبيرة في الدخل والثروة، ومن ثم فمن وجهة نظر مازوكاتو فإن الحل لمشاكل اللامساواة لا يكون فقط من خلال تدخل الدولة عبر الضرائب، بل على الدولة أن تضخ استثمارات أكثر في التكنولوجيا والابتكار من أجل حل مشاكل الرأسمالية الحالية.