قد يتصور البعض أن إجابة السؤال في العنوان سهلة وواضحة وضوحَ شمس نهارٍ صيفي، وبالتالي لا داعي لإكمال المقال… سنوقف الطوفان من المنبع ولن نتابعَ الأخبار السيئة!

لكن ليسَ الأمر بهذه السهولة أبدًا، لا سيََما مع كون معظم البشر بالطبيعة فضوليين، وتزامن ذلك في أيامنا الصعبة مع طغيان وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا وخصوصياتنا، وسرعة وكثافة نقلها لكل ما يدور حولَنا، وقصف حواسنا بما يعنينا وما لا يعنينا من الأخبار القريبة لنا نفسيًا ومكانيًا، وتلك المنهمرة علينا من أقاصي الأرض، لا سيما الأخبار الصادمة، والمآسي المؤسفة، وقد رأينا نموذجًا بارزًا من هذا خلال الأسابيع الماضية في مأساة الطفل المغربي الشهيد ريان، التي تابعها الملايين حول العالم من أقصاه إلى أقصاه، وعاشوا تفاصيل الواقعة لحظةً بلحظة. وقبل هذا الحدث كان لدينا -وما يزال- عامان كاملان من أخبار ملايين الوفيات ومئات الملايين من الإصابات بجائحة كوفيد-19 العالمية.

لكن ما خطورة سيول الأخبار السيئة المنهمرة على السلامة النفسية؟ وكيف يمكننا أن نتغلب على تلك المخاطر وننجو بقدرٍ كبيرٍ من السواء النفسي؟

صحتنا النفسية في مرمى القصف

ليست المعضلة في كثافة الأخبار السيئة كميًا فحسبْ، لكن أيضًا في مدى تطورها كيفيًا في السنوات الماضية، وتضاعف قدرتها على غزو حواسِّنا بصريًا وسمعيًا، لا سيَّما وقد أصبحت فوَّهات مدافع التنبيهات والعواجل مصوَّبة إلى رؤوسنا مباشرة عبر شاشات الهواتف الذكية التي أصبحت في كل يد، وقد أثبتت العشرات من الدراسات العلمية مدى العلاقة الوثيقة بين انهمار الأخبار السيئة والتفاعل الإرادي واللا-إرادي معها، والإصابات ببعض أشهر الاختلالات النفسية مثل الاكتئاب واضطرابات القلق.

يذكر البروفسور جراهام ديفي، أستاذ الطب النفسي الفخري في جامعة سوسيكس الإنجليزية، أن كثافة التعرض للأخبار السيئة، يُفاقم القلق الفردي والمخاوف الشخصية، ويخرج بها عن السيطرة لدى الكثيرين، لا سيَّما أصحاب الهشاشة النفسية، ويجعلهم أكثر عرضة للإصابة باضطرابات الصدمة وما بعد الصدمة.

توصََلت دراسة أمريكية عام 2013 أجُريت على أكثر من 4600 شخص، إلى نتائج مقلقة، فقد قارنت مستوى الانفعال النفسي الشديد بين منْ تعرَّضوا بشكلٍ مباشر لواقعة التفجير أثناء ماراثون بوسطن عام 2013، ومنْ أسرفوا في متابعة تطوراتها على شاشات التلفزة، ومنْ تابعوها متابعة خفيفة.

وخلُصَت الدراسة إلى أن من تابعوا الأخبار السيئة أكثر من 6 ساعات يوميًا، عانوا من تسعة أضعاف التوتر النفسي الذي عاناه أصحاب المتابعة المعتدلة، بل إن المسرفين في المتابعة وصلوا إلى درجاتٍ من الضغط النفسي تقترب ممّا تعرّض له منْ كانوا في موقع الحادثة وشاهدوا التفجيرات. ولا تقتصر الخطورة على عدد الساعات فحسب، إنما بعض الصور والمقاطع المُفجعة قد تسبب ضغطًا نفسيًا هائلًا في ثوانٍ أو دقائق معدودة.

اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية؟

ومع تفاقم جائحة كوفيد-19 العالمية، حذّر المركز الأمريكي الوطني للتحكم في الأمراض CDC من الانعكاسات السلبية الشديدة على السلامة النفسية لطوفان الأخبار المتعلقة بكوفيد-19، لا سيَّما اضطرابات القلق، واختلالات النوم والشهية، وتقلّص القدرة على الإنجاز في العمل وفي الأنشطة الأسرية والاجتماعية.

ويخبرنا علم وظائف الأعضاء أن كثرة التعرض للأخبار السيئة يُسبِّب إفراز هرمونات التوتر، مثل الأدرينالين والكوتيزون، وتحفيز الجهاز العصبي السمبثاوي، مما يرفع ضربات القلب وضغط الدم وسكر الدم، وقد يؤدي هذا إلى حدوث مضاعفاتٍ صحية خطيرة مثل جلطات شرايين القلب الحادة، لا سيَّما لدى الشرائح الأكثر خطورة، مثل المصابين بالأمراض المزمنة والمدخنين.

اقرأ: كيف أحافظ على صحة قلبي في زمن كورونا؟

كيف أحافظ على صحتي النفسية في مواجهة الأخبار السيئة؟

غنيٌّ عن الذكر أنه ليسَ هناك حلول سحرية تُنفَّذ بجرة قلم، وأنَّ الانعزال التام عن الأخبار والحياة وتفاعلاتها، ليس أفضل رد فعل، فهو يزيد الهشاشة النفسية، ويساهم في ضعف المرء معرفيًا واجتماعيًا، ويجعله أقل تفاعلًا مع محيطه. المطلوب هو التوازن، والتفاعل الإيجابي مع الأخبار السيئة والتي سيصل بعضها إليّ لا محالة، قلَّ هذا القدر أو كثُر، وهذا ما ستساعدُنا فيه النقاط التالية:

1. لا تكن عاطلًا… لا تكن وحيدًا، قدر الاستطاعة طبعًا

يحفظ الآلاف، لا سيَّما من الشباب، تلك الروشتة النفسية السريعة التي ذكرها الراحل العظيم د.أحمد خالد توفيق، والتي في رأيه تصلح للوقاية من الكثير من الاضطرابات النفسية. وأراها تصلح للتطبيق هنا، فالانشغال الإيجابي أكثر وقت اليوم، ما بين العمل والدراسة وتطوير الذات والهوايات والواجبات الاجتماعية ولقاء الأصدقاء… إلخ، يُقلِّص مساحة الفراغ التي يمكن أن نُهدر منها الكثير من الوقت متسمِّرين أمام شاشات الهواتف الذكية نستقبل جرعاتٍ مكثفة من حقن الوعي واللا وعي بالأخبار السيئة. وكذلك التواجد دائمًا في محيطٍ أسري واجتماعي ثري، يزيد القوة النفسية، ويعطينا فرصة لمشاركة صدمات الأخبار السيئة مع الأقربين، وبالتالي تخفيف وطأتها.

2. الحفاظ على الصحة الجسدية

الصحتان النفسية والجسدية هما مُتصلٌ واحد، وتؤثر كلٌّ منهما في الأخرى. والحفاظ على الصحة الجسدية في أيامنا العصيبة الحالية هو واجب لا بدَّ منه، عبر الطعام الصحي الطبيعي المعتمد على الفواكه والخضروات والأسماك والألبان قليلة الدسم والبقوليات وزيت الزيتون، وممارسة الرياضة المعتدلة المنتظمة عبر المشي أو الجري الخفيف، أو ممارسة الرياضات الممتعة مثل كرة القدم أو كرة السلة… إلخ حسب ما يحب المرء.

3. توقف عن التقليب في واجهة الفيسبوك وأخواته

اكتسب أكثُرنا عادةً خطيرة في عصر هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي إهدار أوقاتٍ زائدة في التقليب الواعي واللا واعي في صفحة واجهة الفيسبوك وأضرابه، ليمر أمام حواسنا المئات من المنشورات دون داعٍ، والتي غالبًا ما يحمل العشرات منها على الأقل أخبارًا سيئة أو صادمة، وقد عبَّر بعض الباحثين النفسيين عن تلك العادة باسم ذي دلالة سلبية هو doomscrolling والذي يمكن لي أن أترجمَه مثلًا إلى «التقليب الجهنمي» أو «التقليب الرهيب».

أكّدت بعض الدراسات أن تلك الظاهرة السابقة تُفسد آلية طبيعية في المخ لحماية الاستقرار النفسي، مركزها يقع في الفص الجبهي (الأمامي) من المخ، تحديدًا في التلفيف الجبهي السفلي Inferior frontal gyrus. تلك الآلية هي المسئولة عن إحساسنا الفطري التفاؤلي بأننا سنعيش أطول من أقراننا، وأن المصائب والحوادث تحدث للآخرين وليس لنا. تنقلب الآية، ونشعر أننا مُحاصَرون بالمصائب والحوادث من بينِ أيدينا ومن خلفنا.

اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًأ: ما حل هذه الدوامة؟

4. التفاؤل هو الحل

أظهرت إحدى الدراسات التي أجريْت على أشخاصٍ من خلفياتٍ ثقافية واجتماعية متباينة لقياس مدى فزعهم من أخبار جائحة كوفيد-19 العالمية، أن الأشخاص المتفائلين والأكثر ثقة بأنفسهم والأقل هوسًا بنظريات المؤامرة، كانوا أقل خوفًا وانفعالًا من المتشائمين والمهووسين بنظريات المؤامرة.

بيَّنت دراسة أجريت عام 2017، أن حياة بعض مرضى القلب قيد الدراسة، أصبحت أفضل وأقل ضغوطًا على مدار بضعة أشهر، بعد خضوعه لتدريب يشجع على التفاؤل والنفسية الإيجابية، وتأخر عودة ظهور القلق النفسي عليهم بخصوص مرضهم مدة شهرين إلى أربعة. وأثبتت الدراسات أن الميل للتفاؤل، يعيد تفعيل الآلية الطبيعية الإيجابية التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة، والتي تفسدها دوامات الأخبار السيئة على مواقع التواصل.

5. السيطرة على المتابعة كمًا وكيفًا

من الصعوبة بمكان في هذا العصر أن يعزل المرء نفسه تمامًا عن كافة الأخبار والتطورات السيئة، وليس هذا صوابًا على إطلاقه، لكن في المقابل يمكن تقليص وقت متابعة الأخبار، لا سيّما السيئ منها، وكذلك تجنب الصور والمقاطع شديدة التأثير، لأنها قد تترك آثارًا طويلة المدى يصعب محوها، ولا فائدة لنا أو للآخرين من إيذاء أنفسنا بالأخبار السيئة. بل يوصي د.عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، طبيب واستشاري علم النفس التربوي، بأن تقتصر متابعة الأخبار على 10 دقائق يوميًا فحسب.

وتوصي منظمة الصحة العالمية بأن نكتفي في متابعة الأخبار المتعلقة بالكوارث الصحية مثل جائحة كوفيد-19 على ما يعنينا بشكلٍ مباشر من أخبار محلية، وإجراءات وقائية يمكن أن نتخذَها، والقرارات الحكومية المتعلقة بها… إلخ، ثم إغلاق الشاشة والتوقف عن متابعة أي شيء آخر، حتى لا ندفع ثمنًا من أعصابنا دون قيمة.

ومما يُنصَح به تجنب متابعة الأخبار السيئة عندما لا تكون في أفضل أحوالك البدنية والنفسية، في نهاية يومٍ عصيب، أو بعد ساعاتٍ طويلة من العمل والإرهاق، فهذا يضاعف التأثيرات النفسية السلبية للأخبار السيئة.

6. تحرّي الأخبار الموثوقة

كأنَّنا لا يكفينا الأثر السلبي للأخبار الحقيقية السوداوية، فإذا بنا نُغمَر بطوفانٍ موازٍ من الشائعات والأخبار الكارثية غير الدقيقة. المتابع الذكي لا يصدق كل ما يمر أمام ناظريه على الشاشات، ولا يصدق إلا المصادر الأكثر موثوقية، والأبعد عن الإثارة، فالأخبار الكاذبة لا سيَّما على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا حسيب عليها ولا رقيب، تكاد تكون هي الغالبية العظمى.

7. رد الفعل الإيجابي ومحاولة تغيير الواقع

الانتقال للفعل الإيجابي، يُقلل الضغط النفسي للأخبار السيئة، ويزيل أي جلد للذات إزاء الأحداث السلبية. على سبيل المثال، الأخبار السلبية المتعلِّقة بجائحة كوفيد-19، مجرد متابعتها والتألم النفسي للضحايا والمصابين، ليس له أيُّ أثرٍ إيجابي يُذكر. لكن بأخذ العبرة، وبالالتزام بالإجراءات الوقائية ضد الإصابة بمختلف أشكالها، وبالمشاركة في أية فاعليات لدعم الضحايا نفسيًا وصحيًا وماديًا، وبالإسهام في نشر الوعي الصحي بين المحيطين بنا، يكون الأمر أفضل كثيرًا. وفي المقابل، تجبُ السيطرة على ردود الأفعال السلبية مثل الإفراط في تناول الطعام من أجل تفريغ الانفعال العصبي.

8. طلب المشورة النفسية المتخصصة

طلب الدعم النفسي في الوقت المناسب حيوي للغاية في منع تطور الأثر السلبي للأخبار السيئة إلى مرض نفسي حقيقي. وهناك أعراض عديدة تعتبر بمثابة جرس إنذار لتفاقم الحالة النفسية، مثل الأرق الشديد، أو النوم الزائد عن الحد، أو التغيرات الحادة في المزاج، أو الإفراط الشديد في تناول الطعام، أو فقدان الشهية بشكلٍ حاد، أو التفكير في الانتحار، أو الشعور الجارف بجلد الذات… إلخ.