محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2019/04/12
الكاتب
بروس ريتش

لا تكاد تمر لحظة دون أن يخرج علينا البنك الدولي ببيان سياسات يزعم فيه أنه قد تعلم من أخطاء الماضي، إن كان في المجال البيئي أم الاجتماعي أم مكافحة الفساد. لكن الإرث المالي لهذه الأخطاء في حالات كثيرة يغدو فادحًا ويدوم لعقود.

وحتى يومنا هذا، لم تزل وقائع تتكشف لترينا أن ما تغير من سلوك البنك الدولي لم يكن بالشيء الكثير، وأن الخطيئة الأولى للبنك، والمتمثلة في «ثقافة الموافقة على القروض» و«الضغط من أجل الإقراض»، باقية على حالها من فساد وانحراف.

ويظهر إرث الضرر البيئي والاقتصادي لثقافة الإقراض تلك بأجلى صوره عند دراسة حالة الدعم المتسارع من مجموعة البنك الدولي لمحطات الكهرباء المشغلة بالفحم بين عامي 2008 و2010، في الهند وجنوب أفريقيا ودول أُخَرى، ذلك أن البنك اندفع في «تمويل الفحم»، في وقت تكدست لديه مليارات من مدفوعات الدول المانحة من أجل مكافحة التغير المناخي.


قصة محطتي كهرباء مشغلتين بالفحم

اجتذب اثنان من المشروعات التي مولها البنك الدولي اهتمام منصات الأخبار مؤخرًا، وهما مشروع محطة تاتا موندرا للكهرباء بقوة 4150 ميجاوات في الهند، ومشروع محطة ميدوبي للكهرباء بقوة 4800 ميجاوات في جنوب أفريقيا؛ ليس بسبب تأثيرهما البيئي الفادح وبعيد المدى فحسب، وإنما كنموذجين لخسائر اقتصادية بمليارات الدولارات، أفضت إلى شلل مالي لدى اثنين من عملاء البنك الدولي، وهما شركة «تاتا» للكهرباء في الهند، ومرفق الكهرباء الوطني «إسكوم» في جنوب أفريقيا.

في 2008، كانت محطة تاتا موندرا، التي مولتها مؤسسة التمويل الدولية (ذراع البنك الدولي لإقراض القطاع الخاص) بمبلغ 450 مليون دولار، موضوع دعوى مرفوعة أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة، إذ دفع دعاة المصلحة العامة، كممثلين عن المجتمعات المحلية المتضررة، بأن استهتار مؤسسة التمويل الدولية أفضى إلى تلوث مياه الشرب والري في المجتمعات الزراعية المحلية، وسبّب أضرارًا جسيمة لأنشطة الصيد والصيادين، وأثر سلبًا على الصحة العامة من خلال تلوث الهواء والنزوح الاقتصادي والفعلي.

على أن استهتار مجموعة البنك الدولي في قضية تاتا موندرا يتجاوز بمدى بعيد الضرر الذي سببه للسكان المحليين الفقراء؛ فمحطة تاتا موندرا للكهرباء هي واحدة من أكبر 50 مصدرًا لانبعاث الغازات الدفيئة في العالم، والتكلفة الزهيدة للكهرباء التي ساقتها شركة «تاتا» ومؤسسة التمويل الدولية لتسويغ المشروع تعتمد على استيراد الفحم من إندونيسيا بدعم حكومي مكلف.

ومع ذلك، فقد رفعت الحكومة الإندونيسية في نهاية المطاف الدعم عن تصدير الفحم، وفي 2011 رفضت الحكومة الهندية طلبًا من شركة «تاتا باور» للسماح لها بمضاعفة أسعار الكهرباء، بعدما بلغت خسائر المحطة 250 مليون دولار سنويًا، مهددة بتحويل المحطة إلى أصل متعثر.

وفي 2012، أعلن المدير التنفيذي لشركة «تاتا باور» أن الشركة ستستثمر في طاقة الرياح والطاقة الشمسية فقط، وبرر القرار بالتساؤل عما يدفع المرء للاستثمار في مشروعات الفحم خلال هذه المرحلة.

خفضت وكالتا «ستاندارد آند بورز» و«موديز» التصنيف الائتماني للشركة، وفي 2017 عرضت الأخيرة بيع 51% من أسهمها في محطة تاتا موندرا البالغة قيمتها عدة مليارات من الدولارات لبعض الولايات الهندية مقابل روبية واحدة (ما يساوي 0.4 من السنت الأمريكي)، ولم تجد من يشتري.

وعندما عرضت مؤسسة التمويل الدولية إقراض محطة تاتا موندرا، وجّه ديفيد ويلر، الاقتصادي المتخصص في شئون البيئة سابقًا بالبنك الدولي لمدة 17 عامًا، انتقادات حادة لدعم المؤسسة للمشروع، عبر عدد كبير من المقالات وجلسات الاستماع في الكونجرس الأمريكي.

وبجانب الهجوم الذي شنه على مشروع تاتا موندرا وأثره الكارثي على المناخ، ذكر ويلر أن البنك الدولي بدد موارد عامة ثمينة في تقديم دعم مالي لمحطة كهرباء خاصة لم تكن بحاجة إلى إعانات حكومية دولية، وحذر كخبير اقتصادي –وعن حق- من أن «الكهرباء المولدة في محطة موندرا لن تُباع أبدًا بالأسعار المعلنة على الموقع الإلكتروني لمؤسسة التمويل الدولية، لأن ذلك من شأنه إفلاس المحطة في وقت قصير».

وفي مارس/آذار 2010، وافق البنك الدولي على قرض بقيمة 3.75 مليار دولار لمحطة كهرباء ميدوبي في جنوب أفريقيا، والتي ستصبح لاحقًا ثالث أكبر محطة كهرباء مشغلة بالفحم في العالم. ومثل محطة تاتا موندرا، ستطلق ميدوبي انبعاثات كربونية سنوية تفوق ما تطلقه 115 دولة.

وجاء تمويل البنك الدولي لمحطة ميدوبي بعد قبوله لضمانات قرض تصدير بقيمة 2.73 مليار دولار من وكالات ائتمان التصدير في فرنسا وألمانيا، للمشاركة المتساوية في تمويل محطة كوسيل للكهرباء المشغلة بالفحم، والتي ستصبح لاحقًا رابع أكبر محطة كهرباء مشغلة بالفحم في العالم.

لقد تحولت محطتا ميدوبي وكوسيل إلى إخفاقين اقتصاديين أكبر من تاتا موندرا، وابتُليتا بأمراض تضخم التكاليف والمماطلة والفساد، والتقديرات الحالية تبين أنهما، إذا ما تم الانتهاء من تشييدهما، ستكونان اثنتين من أعلى محطات الكهرباء المشغلة بالفحم تكلفة، مع استنزافهما أكثر من 20 مليار دولار.

إن محطتي تاتا موندرا وميدوبي ستحتلان مكانيهما بين أكبر مصادر انبعاث الغازات الدفيئة في العالم لعقود مقبلة. ومن أكبر مفارقات استهتار البنك الدولي في حالات كهذه أن مشروعات الطاقة المتجددة كانت قد ظهرت بالفعل في كل من الهند وجنوب أفريقيا، كبديل واعد بتكاليف زهيدة ومستقبل صديق للبيئة.


الثمن والدروس

منذ العام 2014، لم يمول البنك الدولي مباشرة مشروعات جديدة لمحطات كهرباء مشغلة بالفحم، وخلال السنوات الأخيرة أعلن التزامه بتمويل بدائل صديقة للمناخ. لكن في اجتماعات ربيع العام الحالي لكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، نشرت منظمة «أرجيوالد» الألمانية غير الحكومية تقييمًا لأكثر من 675 مشروعًا لتوليد الطاقة بتمويل من مجموعة البنك الدولي.

وكشفت الدراسة أنه خلال الأعوام المالية لبنك بين 2014 و2018، منح البنك تمويلات بقيمة 12 مليار دولار لمشروعات توليد طاقة بالاعتماد على الوقود الأحفوري، مقابل منح أكثر قليلًا من 5 مليارات دولار لمشروعات الطاقة المتجددة (مع استبعاد المشروعات العملاقة للطاقة الكهرومائية).

وخلص الباحث بمنظمة «أرجيوالد» هايك ماينهارت إلى أن «البنك استمر كذلك في دعوة الحكومات إلى تقديم حوافز استثمارية لمشروعات الفحم وإنتاج النفط والغاز. يجب أن تتوقف هذه الانتهاكات الصارخة لتعهدات المناخ فورًا».

إن للإرث المالي والبيئي لمشروعات مثل تاتا موندرا وميدوبي أكلافًا باهظة، ناهيك باستمرار مجموعة البنك الدولي في تقديم الدعم المالي لمشروعات تنموية تعتمد على الوقود الأحفوري. وإن تكلفة الفرص الضائعة المتمثلة في تبديد مليارات الدولارات من التمويلات العامة العالمية على الاستثمار في أصول ملوثة للبيئة ومحكومة بالفشل الاقتصادي لهي فضيحة.

لم تزل الدروس المستفادة من قصة تاتا موندرا وميدوبي صالحة للاعتبار الآن أكثر من أي وقت مضى، لأن الثقافة المؤسسية التي أفضت إلى هذه الإخفاقات لم تتبدل؛ فأولًا، ساق البنك الدولي مبررات مغلوطة لتسويغ اندفاعه في منح قروض ضخمة لمشروعات مدمرة للبيئة، رغم وفرة الأدلة على زيف مبرراته الرسمية هذه.

وثانيًا، عجزت آليات التفتيش المعنية (وهي هيئة التفتيش المستقلة في حالة البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية، ومستشار شئون مظالم الامتثال في حالة مؤسسة التمويل الدولية) عن التخفيف من الأثر السلبي للمحطات على البيئة والمجتمعات المحلية.

وثالثًا، تصرفت الدول المانحة ذاتها وممثلوها لدى مجلس إدارة البنك الدولي باستهتار غريب، حين تساهلت في قبول منح تمويلات إضافية بمليارات الدولارات لصناديق ائتمانية مختلفة بغرض مكافحة التغير المناخي، في الوقت الذي منح البنك الدولي قروضًا أضخم تتناقض مع الأهداف المعلنة لهذه الصناديق.

ورابعًا، فإن إطلاق أسماء وصفات مثل «بيئي» و«تلطيف المناخ» على محافظ قروض لا يضمن ألا يكون تأثير مؤسسة إقراض ما مدمرًا للبيئة.

وخامسًا، يمكن لغياب العناية الواجبة بالبيئة والمناخ والإخفاء المتعمد للآثار البيئية والمناخية أن يكونا دليلين قويين على وجود إهمال ائتماني وفساد عميق متفشيين على نطاق واسع، وتنجم عنهما عواقب مالية سلبية جسيمة.

وسادسًا، لم يطرأ أي تحسن على الخلل المؤسسي في مجموعة البنك الدولي، والذي أدى إلى إخفاقات مثل تاتا موندرا وميدوبي، بل ربما يكون قد تردى للأسوأ في الواقع.


ما العمل؟

في غياب إرادة سياسية جماعية بين أعضاء مجلس إدارة البنك، لن يتبدل شيء. إن معظم مقترحات السياسة، مثل تلك المتعلقة بقدر أكبر من المحاسبة، وآليات التعلم من تجارب الماضي، والتفاعل والتشاور على نطاق أوسع مع المتضررين من مشروعات البنك، وتعزيز دور هيئة التفتيش المستقلة ومستشار شئون مظالم الامتثال، كل هذه المقترحات تتجاهل تاريخ المحاسبة والمشاركة والتعلم الموجود بالفعل في البنك.

تتجاهل إدارة البنك باستمرار توصيات الآليات الداخلية تلك، والتي نشأت أصلًا كرد فعل لضغوط خارجية، وفي بعض الحالات امتد هذا التجاهل لما يقرب من نصف قرن.

ففي 2007، كلف مجلس إدارة البنك الدولي الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي باول فولكر بإجراء تقييم مستقل حول إدارة النزاهة المؤسسية، وبعدما سلم فولكر تقريره قال لصحيفة فاينانشال تايمز إن القضية الأساسية كانت «ازدواجية البنك حول ما إذا كان يريد حقًا آلية فعالة لمكافحة الفساد أم لا».

وكتب فولكر في تقريره أن «إدارة البنك نفسها منقسمة»؛ فكثير من أعضاء مجلس الإدارة والموظفين التنفيذيين تخوفوا من أن «جهودًا قوية لمكافحة الفساد قد تعطل عمليات التنمية». وأضاف فولكر «لا يفتقر البنك إلى وحدات مراجعة وتقييم عملياته، لكنه يفتقر إلى التركيز على المحاسبة الإدارية والمؤسسية».

وليست جديدة الدعوات لإشراك السكان المتضررين من مشروعات البنك في تحديد إجراءات الإصلاح (وهي توصية مذكورة في مقال «نيتشر» أيضًا). وفي الحقيقة، فقد أتاحت سياسات الحماية البيئية والاجتماعية بالبنك، المرسومة في أوائل الثمانينيات، للسكان المتضررين المشاركة في مشروعات البنك وتقديم المشورة حولها، بيد أن هذه السياسات نادرًا ما كانت توضع موضع التنفيذ عمليًا.

وبدلًا من تحسين الرقابة والامتثال لهذه السياسات، عمدت إدارة البنك في السنوات الأخيرة إلى تخفيفها لصالح التوسع في الإقراض، وواصلت تخصيص التمويلات لقروض غير متعلقة بالمشروعات وعمليات وساطة مالية وقروض سياسية لا تفي بمعظم متطلبات سياسة الحماية.

إن معظم الآليات المؤسسية والأدوات البيروقراطية المطلوبة لمنع الإخفاقات البيئية والاجتماعية مستقبلًا موجودة بالفعل منذ عقود، لكن التغيير الحقيقي لن يحدث دون إرادة سياسية وضغط من الدول الكبرى الأعضاء بالبنك كي يتحمل الأخير مسئولية استهتاره، ويعتمد الكيف، لا الكم، معيارًا لتحديد أولوية الإقراض.