ليست جميع أماكن العمل جيدة، وليس جميع المدراء مهذبين. هناك مقولة خالدة تقول:

فهمت بسرعة أن العمل وحده يستطيع إنقاذي وتقوية صحتي وجسدي، في حين أن القلق النفسي الدائم والتوتر العصبي المستمر، سيدمرني كليًا.

من كتاب «مذكرات من البيت الميت»، فيودور دوستويفسكي

فماذا لو كان العمل سببًا للإيذاء والتوتر والقلق النفسي الدائم؟

كان يومًا عاديًا كبقية الأيام، تستيقظ ماريا في السابعة صباحًا، ترتدي ملابسها وتتناول إفطارها برفقة عائلتها المكونة من طفلين 6 – 9 سنوات، توصلهما إلى المدرسة بابتسامة صباحية مشرقة، ثم تنطلق إلى العمل. تكون هذه دائمًا رحلة البداية من المنزل إلى العمل، لكن رحلة العودة إلى المنزل لا تكون كذلك. تعود ماريا إلى المنزل غاضبة طوال الوقت، تملأ المنزل بصراخها على أتفه الأمور، وتصل إلى حد التصرف بعدوانية مع أطفالها.

لم تفهم ماريا هذا السلوك وهذه التصرفات، خاصة أنها هادئة الطباع نوعًا ما. جلست متسائلة ذات مساء تتصفح الإنترنت في مواقع مختلفة، إلى أن وجدت دراسة تفيد بأن التصرفات السيئة التي تصدر من أرباب العمل تجاه الموظفين؛ تتسبب في إيذاء أطفال هؤلاء الموظفين سواء كانوا رجالًا أم نساء.

انتبهت ماريا ثم نظرت أمامها للحظات، وحدثت نفسها بأن ما يحدث لها في مقر العمل من قبل مدرائها، قد يكون بالفعل هو السبب.


في العمل

هندسة، مهندسين، ريادة أعمال
هندسة، مهندسين، ريادة أعمال

أكملت ماريا قراءة الدراسة التي نشرت في «جمعية علم النفس الأمريكية – american psychological association»، حيث تقول الباحثة «أنجيلا ديونيسي – Angela Dionisi» من جامعة كارلتون؛ إن الدراسة توصلت إلى وجود علاقة بين معاناة السيدات العاملات في مقر عمل مليء بسوء المعاملة، والسلوكيات التي تمارسها هؤلاء السيدات تجاه أطفالهن في المنازل.

أجريت الدراسة على 146 سيدة عاملة وأزواجهن، حيث طلب من الأم كتابة تجاربهن مع سوء المعاملة في مكان العمل، وكيف يمارسن الأمومة مع أطفالهن. أما أزواجهن فطلب منهم تسجيل التصرفات التي تمارسها الأم تجاه أطفالها سواء كانت تصرفات صارمة وسلطوية، أو إيجابية. أشارت النتائج بوضوح إلى أن هناك علاقة وثيقة بين التصرفات الفظّة التي تتعرض لها الأمهات العاملات في أماكن العمل، والتصرفات الصارمة تجاه الأطفال في المنازل.

أما عن معنى سوء المعاملة في أماكن العمل، فهو ليس الصراخ على الموظفين، أو المكوث ساعات إضافية في مكان العمل، بل تعرّفه الباحثة كاثرين دوبري من جامعة كارلتون والمشاركة في الدراسة، بأنه أي تصرف غير مهذب يخترق قواعد الاحترام العامة.

مثال ذلك: تجاهل أحد أفراد الفريق، إبداء ملاحظات سلبية ومهينة له على الدوام، توجيه اللوم الدائم للشخص في حال اقتراف بعض الأخطاء، تجنب الشخص وعدم إشراكه في نقاشات فريق العمل اللازمة، أما أكثر الأمثلة ضررًا فهو أخذ عمل ومجهود أحد الأشخاص وإسناده لشخص آخر، قد يكون المدير في بعض الأوقات.


في المنزل

الأم

صحة, مقر العمل, تأثير العمل, أسرة, أم, عنف
صحة, مقر العمل, تأثير العمل, أسرة, أم, عنف

بطبيعة الحال هذه التصرفات لا تنعكس في هيئة تصرفات سلطوية من قبل الأم تجاه أطفالها فحسب، بل تؤثر مباشرة على الأم ذاتها. فيتمثل ذلك في مستويات أقل من الجهد والأداء الوظيفي مقابل مستوى أعلى من الإجهاد، ضعف الانتباه، والتأثير سلبًا على معالجة الأمور واتخاذ القرارات،واضطرابات النوم.

كما يؤثر مباشرة على طبيعة ممارسة الأم لواجباتها مع أطفالها، حيث تمتليء بالصرامة، والانضباط أكثر من اللازم، والقليل من المرح، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الحرمان من الوجبات الغذائية في حالة عصيان الطفل لبعض أوامرها، والذي سيؤثر بدوره على غذاء الطفل وصحته، أي أنها قد تضر أطفالها بشكل غير متعمد.

الأطفال

طفل، يبكي، الآباء
طفل، يبكي، الآباء

إذا نشأ الطفل في منزل يملؤه التشنج والصراخ والقيود طوال الوقت، فبالتأكيد لن ينشأ طفلًا سويًا من نواحٍ عدة.

يبدأ الطفل في الخوف والانطواء والخجل المفرط من التفوه بأي كلمة، أو طلب أي شيء تجنبًا لأي رد فعل قاس. سيظهر على الطفل الافتقار إلى الكفاءة الاجتماعية حين يصعب عليه اتخاذ قرار في المواقف التي يمكن أن يتعرض لها، والإصابة بالاكتئاب والقلق، والغضب السريع وعدم ضبط النفس.

الزوج

تخيل أنك تعيش في منزل تكون فيه سيدته في حالة غضب وصراخ على الأطفال، أليس هذا الجحيم بحد ذاته؟

بالطبع هو كذلك، وسينال منك أيضًا، لكن لنلقي نظرة من الجانب الآخر، حين تكون أنت (الزوج) في موضع كهذا. فبالتأكيد ليس النساء وحدهن من يتعرضن لسوء المعاملة في أماكن العمل، أو العمل مع مدير متعجرف، قد تكون أنت إحدى ضحايا هذه البيئة.

في دراسة أخرى مشابهة، طلب من الزوجات تسجيل تصرفات الأزواج الذين يتعرضون لسوء معاملة في أماكن العمل، بالطبع ستكون النتائج مقاربة لما ذكرناه، وسيزيد الأمر صعوبة هو أن يصل الحال إلى ضرب الأطفال أو تفريغ غضبك على الزوجة، أو إنهاء هذا الزواج الذي وقع ضحية لمكان عمل لا يرحم.


كيف يمكن التعامل مع بيئة عمل كهذه؟

لنخطو خطوة إلى الخلف قليلًا قبل الحديث عن التعامل مع الأمر، نسأل السؤال الأهم: كيف تدرك أنك في بيئة عمل خطرة؟

الإجابة هي أن هناك بعض الدلائل التي تشير بوضوح إلى أن مكان العمل «خطر عليك»، أهمها الآتي:

1. إذا شعرت بأنك غاضب طوال الوقت:

كل فرد يمكنه تعريف شعور الاستياء من العمل من وجهة نظره، لكن المتفق عليه هو أن الضغط العصبي، التوتر الدائم نتيجته هذه التصرفات المستمرة؛ هي إشارة واضحة على أن بيئة العمل سيئة.

2. إذا كان الأمر موجهًا لك فقط:

هناك بعض المدراء فظاظ بطبعهم تجاه الجميع، هؤلاء يمكن تحملهم، لكن إذا كان الأمر موجهًا لك تحديدًا، فالأمر بالتأكيد ليس جيدًا، وقد يكون مقصودًا من أجل غرض ما لا تعلمه.

3. إذا كان الجميع يلاحظ ذلك التعامل الفظ ولا يحرك ساكنًا:

بعض الناس يفضلون السكوت عند رؤية تصرف خاطئ تجنبًا للوقوع في المشاكل. ويرى آخرون أن الصمت تجاه التصرفات والسلوكيات السيئة نوع من المشاركة فيه. حسنًا، فلنتخيل أنك تعمل في مقر عمل، لا يكف مديرك عن الصراخ أو توجيه الكلام المهين لك طوال الوقت، أو الحديث عنك بسوء بحضورك أو في غيابك، ولا يحرك أحد ساكنًا، أو حتى يتوجه إليك بالحديث كنوع من المواساة أو تخفيف الأمر.

ربما تكون هذه الإشارة أقوى الإشارات على أن مكان العمل خطر عليك.

كيف تتعامل مع مديرك الفظ؟

صحة, مقر العمل, تأثير العمل, أسرة, أب, عنف
بخلاف ترك العمل، والذي يمكن أن يكون الخطوة الأخيرة،فهناك بالطبع بعض المحاولات لفهم الأسباب، ومع من تتعامل.

1. اسأله: لماذا؟

الحديث من أهم الوسائل لإصلاح الأمور، لذا أهم خطوة في التعامل مع مديرك الفظ هو سؤاله لماذا يفعل هذا؟ بالتأكيد لكل شخص طريقته في طرح السؤال، لكن القصد من ورائه هو معرفة ما الذي يواجهه هذا المدير، ربما بعض الضغوطات عليه أيضًا.

2. كن إيجابيًا

قد تفلح هذه الخطوة مع بعض المدراء. فعندما يتعامل مديرك معك بطريقة فظة، فرد فعلك الإيجابي ومحاولة فهم تصرفه، وإظهار أنه مهم بالنسبة إليك؛ قد يجدي نفعًا معهم.

3. تكيّف بعض الشيء

إيجاد عمل بسهولة أمر صعب للغاية، وبدلًا من التفكير في ترك عملك يمكنك التكيف مع الوضع، والتكيف مع تصرفات مديرك. بمعنى آخر؛ يمكنك معرفة ما الذي يجعله صاخبًا، وعالج الأمر.

4. الانسحاب قد يكون أجرأ خطوة

إذا لم تفلح الطرق السابقة في ثني مديرك الفظ عن تصرفاته، يمكنك طلب المساعدة الإضافية من مدير أعلى رتبة، أو أحد المقربين إليه، ومحاولة مرة أخيرة للحديث والتفاهم معه. إذا لم تكن النتائج جيدة، فالانسحاب من كل ذلك وترك العمل سيكون قرارك الصحي.

أخيرًا؛ نقرأ كثيرًا مقولة شائعة تتداول أمامنا على منصات التواصل الاجتماعي «اعتزل ما يؤذيك»، ربما يجهل كثيرون أن هذه المقولة هي للفاروق عمر بن الخطاب يقول فيها:

اعتزل ما يؤذيك، وعليك بالخليل الصالح وقلما تجده، وشاور في أمرك الذين يخافون الله.

وفي بيئات العمل المسمومة، التي قد تكون سببًا في إيذائك بشكل جدّي ومباشر، فالأفضل ألا تخاطر بصحتك وحياتك من أجل البقاء في مكانٍ لا يعترف بمجهوداتك.