خلال عام 2018 أشارت تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من ثلاثمائة مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب، وأن ثلاثة وعشرين مليون شخص يعانون من أعراض الفصام، في حين ينتحر نحو ثمانمائة ألف شخص كل عام في البلدان الغربية.

تشير تقديرات أخرى إلى أن أربعة ملايين شخص في المملكة المتحدة وحدها يتناولون مضادات الاكتئاب كل عام. بينما يصاب نصف البالغين في الولايات المتحدة بمرض عقلي واحد على الأقل خلال حياتهم. ووصلت معدلات الانتحار، مؤخرًا، هناك إلى أعلى مستوى لها منذ ثلاثين عامًا.

العزلة الاجتماعية، ومشاعر الاغتراب في المدن والضواحي، وتفاقم الشعور بالوحدة، وفقدان الشعور بالأمان المادي والوظيفي والعائلي، صارت كلها من سمات الحياة في المجتمعات الغربية، حتى قبل تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي المتعلقة بجائحة كورونا التي بلغ ضحاياها حتى الآن نحو 120 ألف متوفى، وهو رقم أقل من ربع عدد ضحايا الانتحار كل عام حتى هذه اللحظة.

هنا نطرح التساؤل: هل للحياة الرأسمالية واقتصاد السوق المهيمنين سواء هناك وفي بلادنا العربية، علاقة بإثارة المرض العقلي، وتثبيط العافية والصحة النفسية؟

الرأسمالية والجنون: كيف يقودنا اقتصاد السوق إلى الجنون؟

تعد العوامل النفسية والاجتماعية مثل الفقر وعدم المساواة والتعرض للعنصرية والتمييز الجنسي وهيمنة الثقافة والذهنية التنافسية بين الأفراد، من العوامل التي تزيد احتمالية المعاناة النفسية والعقلية. إلا أن الحكومات وشركات الأدوية لا تهتم حتى اليوم بهذه العلائق، حيث توجه التمويل إلى الدراسات التي تبحث في علم الوراثة والمؤشرات الحيوية المادية على حساب دراسة الأسباب الاجتماعية للمرض النفسي.

في هذا السياق توجد العديد من الأشكال المعاصرة للمرض العقلي والكرب النفسي مرتبطة بعمليات ومنتجات اقتصاد السوق، الذي يبدو أنه يشكل الرحم السياسي والاقتصادي الذي تخرج منه آثار العصاب والذهان والبؤس النفسي المختلفة التي تمتد في كل مكان.

بقدر ما ينتج الواقع الرأسمالي من عدم المساواة، بقدر ما ينتج من الأمراض النفسية والعصبية، حيث تؤكد دراسات إحصائية أن أطفال الأسر الأكثر فقراً يتعرضون لخطر اعتلال الصحة النفسية والعقلية أكثر من أطفال الأسر الأغنى بثلاثة أضعاف. كما يرتبط المرض العقلي باستمرار بالحرمان، وانخفاض الدخل، والبطالة، وسوء التعليم، وضعف الصحة الجسدية، وأنماط السلوك غير الصحية.

جانب آخر من جوانب العلاقة بين المرض النفسي والعقلي وبين الرأسمالية، يظهر بقوة في انتشار الأمراض النفسية بين العاملين في الشركات الحديثة ولا سيما المؤسسات المالية العاملة في مجال البورصات، حيث السيكوباتية -مثلما يقول القانوني الكندي جويل باكان في كتابه «المؤسسة»- تظل مشفرة في نسيج وبنية الشركات الحديثة وتمثل جزءاً من الـحمض النووي الأساسي لها وطريقة عملها.

فالتفويض الممنوح قانونيًا لتلك الشركات، هو السعي بلا هوادة ودون استثناء، لمصلحتها الذاتية، بغض النظر عن العواقب الضارة التي قد تسببها للآخرين في كثير من الأحيان، ولذلك فهي تعد مؤسسات «مرضية»، لأنها تنمي لدى العاملين في صفوفها مشاعر مرضية خطيرة مثل : (نقص التعاطف، السعي لتحقيق المصلحة الذاتية، الشعور بالعظمة، العدوانية، اللامبالاة الاجتماعية).

يبدو أن جذر كل هذا، هو عيشنا في نظام اجتماعي واقتصادي على خلاف مع علم النفس وعلم الأعصاب، الذي ما يزال يؤكد الطبيعة الاجتماعية للإنسان، في مقابل «الفردانية» أو النزعة الفردية التي عززها مشروع التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المشروع الذي انبثقت منه الرأسمالية والطبقة البرجوازية في المجتمعات الغربية.

ثمار الفردانية: تفاقم الشعور بالوحدة في المجتمعات الليبرالية

للوحدة عواقب وخيمة مؤكدة على الأفراد، حيث يلجأ الكثير ممن يعانونها إلى الكحوليات والمخدرات لتخدير بؤسهم، كما تزيد مشاعر الوحدة المستمرة من ضغط الدم والتوتر، وتؤثر سلبًا على عمل القلب والأوعية الدموية والجهاز المناعي. في المقابل تعد النزعة الفردية هي المبدأ الذي يقوم عليه نموذج المجتمع الرأسمالي. حيث يمثل تقدير الجهد الفردي والاعتماد على الذات والاستقلالية وحافز المنافسة مجموعة العلامات المميزة لهذا النظام من الناحية الاجتماعية.

لذلك تضعف الروابط الاجتماعية في أي مجتمع رأسمالي إلى حد بعيد، نتيجة كون الوحدة والفردية جزءاً لا يتجزأ من الهيكل القيمي والبنائي لذلك المجتمع، ونتيجة لأسبقية العمل على الاستثمار في العلاقات الاجتماعية اليوم، بعد أن صارت الوظائف أقل حماية، وأقل في المزايا، وأكثر في ساعات العمل، على نحو أصبح معه الشعور بالتهديد من عدم الحصول على وظيفة، أو عدم القدرة على تأمين مستوى معيشي لائق، أطغى بكثير من أي رغبة في إقامة علاقات إنسانية ذات مغزى.

كيف تؤثر النزعة الاستهلاكية على الصحة العقلية؟

من المعروف اليوم على نطاق واسع أن النزعة الاستهلاكية محرك رئيسي لمجموعة كاملة من مشاكل الصحة العقلية، بدءًا من من الإدمان وصولًا إلى الاكتئاب. حيث ترتبط الحاجة المستمرة إلى شراء المزيد من الأشياء، بالاكتئاب والقلق والعلاقات الاجتماعية المفككة.

في هذا السياق، تعبر تلك الحاجة النفسية الدائمة للاستهلاك، ليس فقط عن أزمة فراغ نفسي وعاطفي لدى الكثير من المستهلكين، بل كذلك عن قدرة الرأسمالية على إعادة تشكيل أدمغتنا وصياغة أنظمتنا العصبية بلا هوادة في نموذجها الخاص.

حيث تغير الرأسمالية هنا دوافع الشراء، من مجرد الحاجة إلى شيء ما، إلى السعي إلى تحقيق قيمة ما على الصعيد الرمزي، وتشكيل الهوية الشخصية من خلال السلعة، مثل شراء نوع معين من السيارات أو الملابس أو الهواتف الذكية، التي ترضي احتياجات وهمية محفزة بشكل مصطنع. وتقاس قيمتنا الذاتية في ظل تلك الأيديولوجية من خلال إنتاجنا الاقتصادي، واستهلاكنا الكمي والنوعي.

يفهم معظمنا هذه اللعبة ومخاطرها بشكل حدسي، لذلك نسعى باستمرار في تفاعلاتنا الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستجرام وتويتر، إلى تسويق أنفسنا وتطوير علامتنا التجارية الشخصية والاجتماعية، من خلال إظهار صورة عن أنفسنا قد لا تعبر بالضرورة عن الواقع الحقيقي، تمامًا كما تفعل بعض شركات الدعاية والإعلان عند تسويق المنتجات.

«التشيؤ» : الآلة والإنسان في الاقتصاد الرأسمالي

حين تصبح الشركات التجارية أنجح، فإنها تميل عادةً إلى إعادة الاستثمار في الآلات، التي تصبح بمرور الوقت، ولا سيما مع تطور الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن، أكثر كفاءة، وتحتاج إلى عدد أقل من العمال للتشغيل.

نظرًا إلى أن العمال هم بطبيعة الحال مستهلكون أيضًا، تضخ كميات متزايدة من السلع في الأسواق، التي يصبح عدد المستهلكين القادرين على شرائها أقل؛ مما يخلق دورة اقتصادية لا تنتهي من الأزمات، على نحو يضع الشركات دومًا أمام خيارات خفض التكاليف وصرف العمالة أو الانهيار، وبهذا تتحول البطالة إلى سمة دائمة من سمات الاقتصاد الرأسمالي.

في هذا السياق يشكل من يعانون البطالة «جيشاً احتياطياً من العمال» يضغط دومًا على الذين يعملون، من خلال تهديدهم ضمنيًا بالوجود الدائم لأشخاص مستعدين لحل محلهم، لذا يتحول مكان العمل إلى ساحة سباق تستهلك أصحابها، على نحو لا يترك لهم وقتًا للاهتمام بالحياة والأسرة الأصدقاء، مما يضر بصحتهم العقلية والنفسية في نهاية المطاف.

في ظل أجواء كهذه من انعدام الأمن الوظيفي والمنافسة المستمرة مع الزملاء إما للترقية أو لمجرد الاستمرار في العمل، وضغوط مواعيد التسليم التي لا تنتهي، علينا ألا نتعجب من عمليات إطلاق النار الجماعي والقتل العشوائي وجرائم القتل التسلسلي.

أزمة المعنى الدائمة في المجتمعات الرأسمالية

بالإضافة إلى التهديدات المباشرة لصحتنا المادية والنفسية، يصاحب الحداثة الرأسمالية أيضًا شعور لا مفر منه بالفراغ العام والعزلة ونقص المعنى، الذي حاول العديد من الفلاسفة الوجوديين وعلماء الاجتماع مثل دوركهايم تفسير أسبابه.

لا تسبب الرأسمالية الإجهاد والقلق فحسب، بل تجوف حياتنا عن طريق الإكراه على تكرار عمل غالبًا ما يكون له معنى ضئيل أو معدوم بالنسبة للأفراد، ولأن الدافع وراء الرأسمالية هو الربح وليس إشباع الحاجة البشرية. يتم صنع الأشياء فقط بقدر ما تحقق ربحًا، إذ تصنع الأشياء التي يمكن أن يشتريها الأثرياء بوفرة، مهما كانت تافهة، في حين يتم تجاهل توفير الأشياء اللازمة للأفراد الذين يعيشون في فقر مدقع. فضلًا عن إن هدف النمو الاقتصادي الذي لا يتوقف ولا ينتهي، ليس هدفاً ذا مغزى لعموم الأفراد.

لذلك كله يظل هناك نقص متأصل في المعنى في المجتمعات الرأسمالية، ينعكس في نفسية الأفراد، من خلال مشاعر الاكتئاب، وأزمات منتصف العمر، التي يعكس انتشارها بدوره أيضًا، حالة اللا معنى الكامنة في جوهر هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي.