في عصور ما قبل الخوارزميات والذكاء الاصطناعي كان العمل التقليدي مناسبًا للغرض منه، وكان الخيار الوحيد للتوظيف هو العثور على شركة تمنح عملًا ثابتًا طويل الأجل، يقع بالقرب من محيط معيشتك. كانت هذه هي المعايير، ليس لأنها الأفضل بل لأنها الوحيدة، أما في عصور تعدد الخيارات فقد صارت الحاجة ضرورية لتغير شامل في ثقافات التوظيف، تنطلق من اقتصاد الأعمال الحرة والمستقلة الذي نتج عن تناميه عوامل عدة أدت إلى تغير اقتصادات الأعمال والوظائف التقليدية، وأسست لمستقبل توظيفي مرن، نعيش أهم خطوات بدايته في حاضرنا.  

العالم الوظيفي يتغير

سمح انتشار الإنترنت بتوفير فرص عمل خارج المناطق الجغرافية المحلية، إذ يمكن لأي شخص العثور على وظيفة، والتقدم إليها، والحصول عليها، دون أن يتواجد في محيط عملها، كما يمكنه الحصول على تدريب في أي مكان بالعالم؛ للتخصص في أي مجال من مجالات الأعمال، وهو ما غيّر طبيعة المنافسة بين الشركات، في ظل أنه من الأسهل والأرخص للشركة أن توظّف مستقلًا لتوفير التكاليف الإضافية للتوظيف التقليدي، كما أن ساعات العمل التقليدية لم تعد معيارًا للنجاح الوظيفي أو الإنتاجية، بل ربما صارت معيارًا لجمود ثقافة العمل وتأخرها عن مواكبة تطور الاستراتيجيات الحديثة التي تدفع نحو ساعات العمل المرنة.

ومع تنامي اقتصاد الأعمال الحرة والمستقلة استفادت الشركات من مجموعة ضخمة من المهاريين الذين صاروا أكبر مساهم في نجاح أعمال الشركات، وبدلًا من الوصول إلى المواهب في منطقة جغرافية ضيقة، يمكن للشركات الوصول إلى المواهب المتخصصة في أي مكان في العالم، عبر أشهر المنصات، مثل منصة خمسات ومنصة مستقل؛ وذلك لتوظيف متخصصين بأقل جهد ووقت وتكلفة.

الأسباب السابقة هي التي جعلت مايك فولكين (أحد خبراء «فوربس») يرى أن اقتصاد الأعمال الحرة سيدفع مستقبل التوظيف؛ ففي ظل اقتصاد الأعمال الحرة سريع النمو فإن الشركات التي لا تحتضن المستقلين ستتخلف عن الركب قريبًا، أما الشركات التي توظّف مستقلين ستكون أكثر مرونة وابتكارًا.

العمل الحر يؤثر على أجيال الموظفين

بحسب جون يونجر الكاتب المتحمس لـ«ثورة العمل الحر»، فقد أصبح العمل الحر خيارًا مهنيًا شائعًا، في ظل تزايد عدد المحترفين المستقلين، ونمو القوة العاملة المستقلة، واقتحام العمل الحر أسواقًا وأعمالًا لا حصر لها، وتنامي إنشاء منظمات مهنية واتحادات لدعم العاملين المستقلين، وروابط المهنيين المستقلين وأصحاب العمل الحر.

وإلى جانب ذلك، فإن هناك طرقًا عدة يؤثر بها العمل الحر على بيئات التوظيف، بحيث يتغير مستقبل الوظائف التقليدية، وذلك على النحو التالي:

1. يتعامل المستقلون مع الأعمال على أنها مراحل انتقال، ومحطات لتنامي الخبرات، وليست وجهات مهنية دائمة، ما يؤثر على بيئات الأعمال، ويغير من مستقبل الوظائف ليدفعها في اتجاه المرونة والتغيير، وليس الجمود والدوام.

2. يسعى الموظفون إلى تغيير وظائفهم للأسباب التي تعد عوامل جذب مهمة للعمل الحر، وهي أن يكون الموظف مديرًا لنفسه، فضلًا عن تنوع الخيارات المهنية، والمرونة والخبرات والتجارب المتنوعة، والتخلص من الإدارة التقليدية والأعمال التي لا تحقق الشغف، ولا تساعد على النمو المهني أو تعلم مهارات جديدة، إلى جانب عدم التقيد بالأعباء الوظيفية بعد انتهاء مهمات الأعمال.

3. بسبب تنامي المهارات يتوقع الخبراء تغيرات كبيرة في بيئات الأعمال والتوظيف عما قريب، في ظل تنامي الشركات الناشئة وارتباط أعمالها بالمستقلين.

4. تتميز بيئات عمل المستقلين بأنها أكثر إنتاجية وجماعية وابتكارًا؛ لأن المستقلين يعملون معًا في فرق مختلطة، ويبنون ثقافات مشتركة تدمج قيم العمل المستقل بقيم الشركة.

5. يقدم العمل الحر تجربة مهنية مبتكرة توجّه متطلبات الحياة المهنية نحو الابتكار والتجديد والمرونة، ما يفرض واقعًا وظيفيًا جديدًا ومختلفًا تنمو فيه الأعمال متأثرة بأفكار واستراتيجيات جديدة تميل نحو الاستقلال وزيادة المهارات.

6. تعزز ثقافة العمل الحر ارتباط الموظفين بعملهم، وتفرض على الشركات توفير –وليس امتلاك- المهارات المهمة لأعمالها، والخبرات المتميزة التي تحتاجها، بحيث يتغير فكر إدارة الشركات فيما يخص امتلاك جميع الموارد، في ظل أن مرونة الموارد وتعددها تجعل الأعمال أكثر تحررًا وابتكارًا، فتستفيد الشركات من قوة عاملة مرنة ومختلطة، تتطلب نهجًا جديدًا للإدارة والقيادة، يكون فيه الموظفون شركاء في العمل والنجاح لا مجرد عناصر عمل تمتلكها الشركة.

بين المديرين والموظفين

إذا نظرنا للأمر من وجهة نظر المديرين وأصحاب الأعمال فإن يقيننا سيزداد بأن «العمل الحر» هو المصير الطبيعي لكلمة «الأعمال»، وذلك للأسباب التالية:

1. يبحث أصحاب الأعمال عن ذوي المهارات المتخصصة، الذين عملوا مع مجموعة واسعة من العملاء في شتى أنواع المشروعات؛ وذلك ليضمنوا نتيجة جيدة مسبقًا لأعمالهم، وهو ما يدفعهم إلى توظيف المستقلين من خلال منصات العمل الحر الشهيرة، مثل منصة مستقل التي توفر لهم مجموعة متميزة من أصحاب المهارات.

2. يحرص أصحاب الأعمال على توفير أكبر قدر من نفقات العمال والموظفين، لذا فإن تنامي ثقافة العمل الحر لديهم يساعد على تحقيق ذلك، فتوظيف مستقل عبر منصة خمسات يساعد على توفير أكبر قدر من نفقات العمل، ويحقق العمل المطلوب بأقل تكلفة.

3. صارت متوسطات أجور المستقلين متقاربة إلى حد كبير مع متوسطات أجور الموظفين الدائمين، وفي ظل النتائج الأفضل والأسرع والأوفر التي يحققها العامل الحر، صار خيارًا أربح لأصحاب الأعمال، لذا، فمن المتوقع أن المزيد من الشركات ستبدأ في الانضمام تباعًا إلى اقتصاد الأعمال الحرة.

أما من وجهة نظر المستقلين فإن اقتصاد العمل الحر يتناسب مع عقلياتهم المتطورة، فهم:

1. لن يفضلوا العمل في مؤسسة ما لسنوات عديدة على حساب تعدد الأعمال والمؤسسات والخبرات الذي يوفره العمل الحر.

2. في ظل تنامي إجراءات الشركات بتسريح العمال وتقليل عدد الموظفين، فإن العمل التقليدي صار خطرًا وظيفيًا، وصار العمل الحر خيارًا مرنًا وآمنًا.

3. يبحث المستقلون باستمرار عن الإبداع والمهارات والسرعة، وتنامي الخبرات، بعيدًا عن الأعمال الروتينية، ويرون العمل الحر مستقبل التوظيف، وهم جزء منه، لذا فإنهم يسعون بقوة لتغيير بيئات الأعمال لتتناسب معهم.

جانب اجتماعي مهم

يوفر اقتصاد العمل الحر فرصًا للأعمال والنمو لا مثيل لها، وتتلاشى فيه فجوة الأجور بين الجنسين، وذلك بحسب ما يشير إليه «تقرير الدخل المستقل العالمي لعام 2020» الصادر عن «Payoneer»، والذي يؤكد أن التركيبة النوعية والدوافع التي تقود القوى العاملة في اقتصاد الأعمال الحرة تغير من واقع التوظيف العالمي، وتوفر رؤية جديدة لقوى عاملة متطورة فريدة تعمل على تمكين التعاون العالمي، من خلال إمكانية توظيف أفضل المواهب في الشركات من أي مكان في العالم، ما يزيد من انتشار وتنامي الأعمال المستقلة، وبالتالي يؤدي إلى زيادة فرص العمل والأجور، ويخطو خطوات جادة لتحقيق مساواة في الأجور بين الجنسين، في ظل أن مشاركة المرأة في القوى العاملة المستقلة تكتسب زخمًا يومًا بعد يوم، وأن متوسطات أجور الإناث تتساوى تقريبًا مع متوسطات أجور الذكور، وهو أمر ينبئ بتغيرات نوعية وعميقة في ثقافات التوظيف التقليدية السائدة.

ووفقًا للتقرير فقد نما الاقتصاد المستقل بشكل كبير خلال العقد الماضي، بحيث تأكد يقينًا أنه مستقبل العمل والنمو والتوظيف والنجاح، في ظل أنه يزود القوى العاملة العالمية بجميع الأدوات اللازمة لرسم وتغيير وتطوير مسارات حياتهم المهنية.

يهتم المستقلون وأصحاب الأعمال الحرة بشكل كبير بمواءمة شغف حياتهم مع عملهم، وهو ما يجعلهم يفكرون بشكل مختلف في اختياراتهم وأعمالهم، وجداول أعمالهم المرنة التي تجعل الأعمال غير مقيدة بأوقات أو أماكن عمل محددة، وهي أمور تؤثر على بيئات التوظيف الحالية، وتنبئ- بالطبع- بتغير مستقبلي بدأنا نشعر به. الأمر مجرد وقت.