أوروبا تبيح تزييف النقود أثناء الحروب الصليبية، وفي القرن الخامس الميلادي تستأثر إسبانيا بالمعادن النفيسة طمعًا في الثروات، فتصيبها بتضخم مفرط ينتقل إلى الدول المجاورة لها. أما ألمانيا، التي كانت إحدى أكبر اقتصادات العالم قبل الحرب العالمية الأولى، وقعت بعد الحرب تحت استغلال المنتجين وباقي دول أوروبا حتى انهارت عملتها. بينما أدى تمسك حكومة إنجلترا بقاعدة الذهب عام 1925 إلى إصابة اقتصادها بأضرار بالغة.

هذه الأحداث التاريخية يتناولها «زكريا مهران» في كتابه «التاريخ يفسر التضخم والتقلص». وقد كان مهران ماليًا وحقوقيًا مصريًا، انصرف إلى الاقتصاد بعد عمله بالمحاماة، وكان عضوًا بمجلس الشيوخ وتوفي عام 1949.

أراد مهران أن يفسر ما يحدث إبان الحرب العالمية الثانية والأزمات الطاحنة التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى على العالم أجمع، وذلك بعرض ما مرت به دول وبلدان منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى ذلك الوقت، ثم تطرق إلى واقع الاقتصاد المصري –وقت تأليف الكتاب عام 1944- وتحليل حالة التضخم الاقتصادي به.


ما هو التضخم والتقلص؟

نظرًا لأن التضخم أشهر الظواهر الاقتصادية وأكثرها تعقيدًا، فقد اختلف الاقتصاديون على وضع تعريف محدد له، فمنهم من يُرجِع التضخم إلى كثرة النقود ولكن هذا ليس صحيحًا بالضرورة لأن كثرة النقود قد تكون سببًا من أسباب التضخم ولكن ليس بالضرورة أن تؤدي إليه.

أما مهران فيرى أن التضخم هو زيادة النقود عن الحد الواجب لها بالنسبة للسلع والخدمات في بلد من البلاد، والتقلص عكس التضخم فيُعرِّفه بأنه قلة النقود عن الحد الواجب لها بالنسبة للسلع والخدمات في بلد من البلاد.

فكيف تتحدد كمية النقود التي إذا زادت أو قلت عن الحد المثالي نشأت إحدى الظاهرتين؟

وضع الاقتصادي الإيطالي «برناردو دو دافانزاتي»، في القرن السادس عشر، حجر الأساس لنظرية النقود، حيث أوضح أن ما يطلبه الناس من أشياء يجب أن يوازي قيمة ما يمتلكونه من ذهب وفضة ونحاس. وأضاف بعده «جون لوك» مثال الميزان، الذي يُوضع في إحدى كفتيه النقود والكفة الأخرى السلع حتى يتحقق التوازن.

تؤكد نظرية كمية النقود وجود علاقة وثيقة بين النقود والأسعار، وأن النقود هي المحدد الأساسي للأسعار وتغيراتها. ورغم الانتقادات ظلت هذه النظرية مسيطرة على الاقتصاديين لفترة طويلة حتى لاقت مناقشات وتحليلات نقدية بعد تعدد مصادر النقود وظهور البنوك، وقد دفعت هذه التغيرات إلى احتدام الجدال بين النقديين عند دراسة الطلب والعرض على النقود حول حاجة الناس إليها، وقيمتها عند تأثيرها على الأسعار.

وأيد مهران الرأي الذي كان يرى أن القدرة الشرائية للنقود هي التي تتحكم في ذلك، فقدرة النقود على تحقيق رغباتنا هي أهم العوامل التي تتحكم في حاجتنا وطلبنا لها. ثم حذر من النظريات والإحصاءات، مؤكدًا على ضرورة إدراك مدى الاختلاف بين النظريات الهندسية التي يمكن تطبيقها في كل زمان ومكان، والنظريات الاقتصادية التي يجب مراعاة الظروف الخاصة بكل بلد من البلدان عند تطبيقها، فليس هناك أهمية للتمسك كثيرًا بهذه النظريات والإحصاءات التي قد تكون خادعة أغلب الوقت.

ونتيجة لذلك، فقد أولى الاهتمام في هذا الكتاب إلى الربط بين النظرية والواقع الملموس والتجربة من خلال عرض مشاهد من التاريخ، مرت بها بلاد ودول بأزمات التضخم والتقلص، والكيفية التي تعاملت بها كل دولة لتواجه هذه الأزمة.


ما قبل التاريخ حتى العصور الوسطى

شهدت أثينا أزمة تقلص عام 594 قبل الميلاد، وكان سببها قلة النقود، ونشب بسببها ثورة بين الدائنين ومدينيهم، وقد قام صولون (حاكم أثينا في ذلك الوقت) بتخفيض ثلث قيمة الديون فقام بإخراج نقود أقل وزنًا من القديمة بمقدار الثلث لسداد هذه الديون، وهو بذلك قد اتبع طريقة اتبعها الرئيس فرانكلين روزفلت (رئيس سابق للولايات المتحدة) عام 1934، حين قام بخفض وزن الدولار بنسبة 40.9% تقريبًا وقد عرفت هذه الطريقة باسم الإنعاش الاقتصادي.

وفي فترة الحروب الصليبية، تجلت آثارها الاقتصادية على مصر في عهد السلطان سيف الدين قطز، حيث قلّت النقود والمعادن وانخفضت الأسعار بعد صعودها، وحدثت مجاعة وانتشرت النقود المزيفة والناقصة الوزن. ثم جاء بيبرس وحاول إصلاح العملة ولكنه اضطر بعد إصلاحها إلى تضخيمها حتى ينفق على حروبه وغزواته، فاختفت نقود الذهب والفضة وانتشرت نقود النحاس.

حدث في أوروبا ما حدث في مصر وأكثر، فاختفت منها النقود الجيدة والمعادن النفيسة، حتى أصبحت تُجيز التزييف رسميًا كتبرعات للحرب، مُدعية أنه سيتم استعمال النقود المزيفة في جلب بضائع من الخارج، فلا ضرر للبلاد من ذلك، ولكن ما لبثت هذه السياسة أن طردت النقود الجيدة وأغرقت أوروبا في النقود الرديئة المزيفة، حتى رفضها الناس في معاملاتهم.

وفي مرحلة تاريخية لاحقة، وتحديدًا بعد حرب المائة عام، والتي اندلعت بين فرنسا وإنجلترا، واستمرت لـ 116 عامًا من عام 1337 إلى عام 1453، اندلعت أزمات اقتصادية، بدأت بارتفاع شنيع في أسعار المحاصيل، فربح من ذلك المزارعون ربحًا فاحشًا، تبعه نزول في الأسعار إلى الحضيض أضر بالأفراد والحكومات، ولم تُفلح المعادن ولا إنقاص وزن النقود في حل الأزمة.

وفي فرنسا أصبح لكل مقاطعة عملة بل عملات متضاربة، ولم يعرف المُقرِض أو التاجر بأي نقود سيفي دينه، فأدى ذلك إلى ضرورة عقد مؤتمر اقتصادي لحل هذه الأزمات، واتفق الأغلبية على أن يكون الذهب هو الأساس في النقد حتى تثبت الأسعار وتنشط التجارة الخارجية، وأول من نفّذ ذلك كانت حكومة جنوة، التي قامت بإصدار قرار يُلزم التجار بدفع ما عليهم بالعملة الذهبية.


ما بعد الحرب العالمية الأولى

منذ مؤتمر جنوة النقدي وحتى هذه الفترة، سادت قاعدة الذهب كنظام مالي في معظم دول أوروبا، حيث يتم تحديد قيمة العملة على أساس الذهب، فيقوم البنك المركزي بسك العملة من الذهب أو إصدار الأوراق المالية القابلة للتحويل إلى الذهب، وعلى ذلك يجب أن تحتفظ بمقدار من الذهب يساوي الكمية المصدرة من عملتها الورقية.

ولكن إبان فترة الحرب وفيما بعدها، تم إعفاء البنوك الأوروبية من هذه القاعدة حتى تتمكن من إصدار النقود، لأنه لم يكن هناك ما يكفي من الذهب ليغطي النقود التي تحتاجها الدول المتحاربة، وراحت الحكومات تقترض من الأفراد والبنوك لتتمكن من الإنفاق على الحرب. وبعد انتهاء الحرب كان لزامًا على الدول أن تستأنف نشاطها الاقتصادي ولكن النقود كانت كثيرة وليس لها ضابط بسبب الإجراءات السابقة، وعلى إثر ذلك عُقد مؤتمران الأول في بروكسل عام 1920 والثاني في جنوة 1922، وانتهيا إلى ضرورة العودة إلى قاعدة الذهب، ولكن بشكل تدريجي، وعبر خفض وزن العملات، وذلك لتقليل التضخم وتثبيت سعر الصرف.

ولكن أبت بريطانيا أن تُخفِّض وزن عملتها، وعملت على العودة بشكل مباشر وكامل إلى قاعدة الذهب، وهو ما حذر منه الخبراء حينئذ، مما أثر سلبيًا على اقتصادها.

فأصبحت صناعتها لا تقوى على منافسة الصناعات الأخرى، وانعدم الربح وتعطلت المصانع وزادت البطالة وارتفعت الضرائب وتوقفت التجارة البريطانية، وتأثر الكثيرون بما حدث فقاموا بسحب أموالهم من إنجلترا لإيداعها في دول أخرى. ازداد الأمر سوءًا حتى عام 1931، حيث بلغ عجز الميزانية ما لا يقل عن 120 مليون جنيه، فلم يكن أمامهم سوى إصدار قانون 21 سبتمبر 1931 لإيقاف العمل على قاعدة الذهب مرة أخرى.

أمّا ألمانيا، الدولة المهزومة، فقد أُنهك اقتصادها، وفقدت عملتها (المارك) الكثير من قيمتها أثناء الحرب وحتى عام 1923، حيث زاد إصدار المارك، فكثّف المنتجون إنتاجهم في محاولة منهم لانتهاز هذه الفرصة وتحقيق أرباح طائلة، فارتفعت الأسعار وهرع الأفراد للشراء والاستهلاك وأسرفوا في شراء السلع حتى ولو كانت كمالية ولم يكونوا في حاجة لها، لكن قيمة نقودهم صارت تقل يومًا بعد يوم، كما أقبلت الدول على انتهاز الفرصة هي الأخرى وقامت بشراء المصنوعات الألمانية للاستفادة من هبوط قيمة المارك.

وانتهز أصحاب المصانع الفرصة وتمت مضاعفة القوة الكهربائية ونشطت صناعة المواد الكيميائية بنسبة 172%، ولكن في نهاية الأمر كانت هذه أرباحًا وهمية لا وجود لها في الواقع. وعندما أدركوا هذا الخطر، طلبت الحكومة من المتعاملين مع الخارج أن يدفعوا بالجنيه الإنجليزي أو بالدولار الأمريكي، كما وضعت سعرًا رسميًا للصرف، وفرضت عقابًا على كل من يخالف ذلك، ولكن المارك برغم هذه السياسات أخذ في الاحتضار.

وراح العمال يطالبون برفع أجورهم بسبب غلاء نفقات المعيشة وتزايدها يومًا بعد يوم، لأنه في أوقات التضخم تقع أسوأ النتائج على كاهلهم، فالأجير الذي يقبض كل شهر يُضار أكثر من الذي يقبض أجره كل يوم، ذلك بسبب الارتفاع المتزايد يومًا بعد يوم وحتى في اليوم الواحد.

لم تلبث أن أعلنت الحكومية الألمانية إفلاسها عام 1923 بعد أن اختلت ميزانيتها وازداد الفارق بين الإيرادات والمصروفات في كل شهر، وفي نهاية الأمر قامت بالاقتراض بقيمة 800 مليون مارك لتنظيم عملتها على قاعدة الذهب.


التضخم في مصر خلال الحرب العالمية الثانية

في فترة وضع الكتاب (1944)، يؤكد مهران أن النقود المتداولة في مصر قد ازدادت فوصلت إلى 112 مليون جنيه، كما زادت ودائع البنوك بشكل ملحوظ إلى 52 مليون جنيه بعد أن وصلت إلى 7 ملايين تقريبًا عام 1939. وكان ذلك يحتم سؤالًا هامًا: هل هذا تضخم؟ واقترن هذا السؤال بموجات الغلاء التي انتشرت وارتفاع نفقات المعيشة.

انقسمت الآراء حول إجابة هذا السؤال؛ فوزير المالية قال إنه ليس تضخمًا بالمعنى المتعارف عليه، وأيدته في ذلك اللجنة المالية بمجلس الشيوخ المصري، ولكن كان لبعض الاقتصاديين رأي آخر، فرأوا أن هذا هو التضخم بعينه، تطبيقًا لنظرية كمية النقود السابق ذكرها، ومستندين في ذلك إلى مقال تم نشره في مجلة الإيكونميست، جاء فيه: أن ما تنفقه الجيوش الإنجليزية في مصر سبّب لها تضخمًا، وهناك رأي آخر يتوسط الأمرين فهو يرى أن هذا تضخم لكنه غير ضار.

ويخلص الكاتب إلى أن مصر في هذه الفترة شهدت بالفعل تضخمًا اقتصاديًا، عُرف باسم «تضخم الحرب».

ونتيجة لذلك، قامت الحكومة بتسعير بعض السلع وحددت كمية المستهلك من بعضها، كما فرضت ضريبة الأرباح الاستثنائية لتمتص بها الأرباح غير الطبيعية بسبب الحرب. وقامت باتباع سياسات أخرى كالاقتراض وبيع الذهب، ولكن كيفية تطبيقهما لم تكن كافية أو مجدية لامتصاص هذه الزيادة.

لأن الاقتراض حوّل الدين القديم إلى دين جديد، فلا فرق بين النقود المودعة في البنك لحساب الأفراد وبين المودعة فيه لحساب الحكومة، وكان الأولى توجيه هذه الأموال المتكدسة إلى المشاريع وتشغيلها أو شراء البضائع من الخارج بها. أما بالنسبة لبيع الذهب، فكان عملًا تجاريًا أكثر منه وسيلة لامتصاص الزائد من النقود.


وبذلك قام زكريا مهران بعرض مبسط لمفاهيم اقتصادية معقدة وهامة، مؤكدًا على أهمية النظر إلى دروس التاريخ وضرورة التعلم منها والاستفادة من تلك الظروف لكي تنهض الدول.

ومن هنا ندرك أن كثرة النقود والمعادن لا تجلب الرخاء دائمًا، وأن التضخم ليس له حل جذري، فكما رأينا أن ما تطبقه دولة ما من سياسات لمواجهة التضخم قد لا يكون مناسبًا لدولة أخرى، وتصحبه نتائج عكسية وتتضاعف الأزمات، وهذا يحتم ضرورة أن تقوم كل دولة بدراسة موقفها وظروفها جيدًا، ومن ثَمَّ تتخذ ما يناسبها من إجراءات لمواجهة أزماتها.