في سبيل معرفة العلماء كيف يتعامل الجهاز المناعي مع الخلايا السرطانية، ظهرت نظرية تفسر نشوء السرطان وفتحت أبوابًا جديدة من العلاج المناعي. هذه النظرية تُدعى «التحرير المناعي للسرطان» Immunoediting؛ فمتى ظهرت؟ وما هو تفسيرها للسرطان، وما هو مآلها والآمال المعلقة عليها؟

في أواخر الخمسينيات اقترح العالمان «لويس توماس» والسير «ماكفارلين بيرنت» فرضية تُسمى «المراقبة المناعية للسرطان»، وتم تعريفها على النحو التالي:

في الحيوانات الكبيرة طويلة العمر، يجب أن تكون التغيرات الجينية الموروثة شائعة في الخلايا الجسدية، ونسبة من هذه التغييرات سوف تُمثِّل خطورة الورم الخبيث، لذلك هناك ضرورة لتطوير آلية للقضاء على تلك الخلايا الطافرة، وهذه الآلية بكل تأكيد ذات طبيعة مناعية.

كانت تلك النظرية الوحيدة لتفسير ضعف المناعة في مواجهة السرطان، لكن وللأسف لم تلقَ قبولًا واسعًا ووُجِّه لها انتقادات، بل ظلت أهمية الجهاز المناعي في مواجهة السرطان غير موضع تقدير بين العلماء، ولم يلتفت أحد في القرن العشرين لدور المناعة إطلاقًا، حتى تغيَّر الأمر في بداية القرن الحالي، حينما ظهرت نظرية التحرير المناعي على يد العالم «روبرت شرابير» في عام 2001.

في المراجعة البحثية التي نشرها شرابير في مجلة Science عام 2011، تم التساؤل عن كيفية تجاهل العلماء كل هذه المدة دورَ المناعة، وكيف ساهم هو في تقديم إطار علمي جديد يفسر دور المناعة المزدوج في السرطان، فهو لا يستطيع فقط قمع نمو الورم، بل يمكنه أن يساعد في تطوره كل هذا تحت اسم «التحرير المناعي» وتعريفها أنها: «آلية خارجية لقمع الورم، لا تعمل إلا بعد حدوث تطفر خلوي وفشل آليات تثبيط الورم الداخلية»، كما خلص إلى نتيجة مفادها أن الجهاز المناعي يلعب ثلاثة أدوار رئيسية في الوقاية من السرطان:

  1. يحمي الإنسان من العدوى الفيروسية، وبالتالي تثبيط الأورام التي يمكن أن تتكون بواسطة الفيروس.
  2. يمنع إنشاء بيئة التهابية تُسهِّل من تكون الأورام عن طريق القضاء السريع على مسببات الأمراض.
  3. إزالة الخلايا السرطانية في أنسجة معينة، هذا لأن الخلايا الطافرة حديثًا تشترك في التعبير عن روابط لتنشيط المستقبلات على الخلايا المناعية الفطرية ومستضدات الورم.

كانت النقطة الأساسية التي ساعدت روبرت هو وجود مستضدات الورم، وهي مادة تثير استجابة مناعية في الإنسان، كما تعتبر علامة مفيدة على وجود الورم وتحديد كمية خلاياه، وقد تكون موجودة على سطح الخلية السرطانية أو تجري في الدم. وعن طريقها تمكن روبرت من وضع فرضيته، حيث اكتشف عام 2001 أن الجهاز المناعي لا يتحكم في كمية الورم فحسب، بل أيضًا في جودته، واستنتج ذلك من دراسته على فئران التجارب ومستضدات الورم فيها.

كانت فكرة أن المناعة تؤثر في جودة السرطان، محورية بالنسبة له؛ حيث بنى عليها حقيقة الطبيعة المزدوجة للمناعة في محاربة السرطان؛ ففي البداية يحارب الخلايا السرطانية، ثم تحدث بعض المراحل الهرمية تجعله يُعزِّز نموه وتطوره.

المراحل الهرمية للتحرير المناعي

هذه النظرية تفترض أن المراحل عبارة عن سلسلة ثلاثية هرمية، تبدأ بمرحلة القضاء ثم التوازن ثم الهروب. لكن في بعض الحالات، وبتأثير من العوامل البيئية، قد تدخل الخلايا السرطانية في أي مرحلة تريد.

الآن دعنا نتحدث عن كل مرحلة على حدة:

1. مرحلة القضاء:

أفضل وصف لمرحلة القضاء هو أنها نسخة محدثة من المراقبة المناعية للسرطان، حيث يعمل جهاز المناعة الفطري والتكيفي معًا للكشف عن وجود ورم ناشئ وتدميره قبل أن يصبح واضحًا سريريًّا. تبدأ القصة بخلية واحدة يحدث بها طفرة في الحمض النووي الخاص بها ولا تستطيع معالجتها. في تلك الحالة لا نستطيع الجزم بأن تلك الخلية سرطانية، إلا إذا دخلت الخلية في مرحلة التسرطن، وهي عملية تحول الخلية الطبيعية إلى سرطانية، وهذا هو الفيصل بين الورم والسرطان، فالورم كلمة عامة قد يكون ورمًا حميدًا أو ورمًا خبيثًا وهو السرطان.

عملية التسرطن متعددة المراحل: فالأولى تتضمن أن تقوم الخلية بعمل عدد من الطفرات تجعلها موروثة بمعدل ثابت في الخلية العادية، ثم تنقسم الخلايا وتنمو، وعلى مدى أسابيع تقوم الخلية بعمل نسخ فاسدة من نفسها وتحور في حمضها النووي؛ بحيث تمنع الخلية من الموت أو تزيد من الجينات التي تساعدها على التكاثر، وتتحول من مجرد خلية إلى المئات بل الآلاف من خلايا السرطان، وتتوسع لتُشكِّل مجتمعًا وسلالات وراثية مختلفة تعمل وتتنافس معًا، كل سلالة يكون لها التركيب الجيني الخاص بها، وبالتالي طفراتها تكون مختلفة.

لكن هذا التجمع يُشكل ورمًا صغيرًا، ولم يتطور لدرجة أن يكون سرطانًا بعد، فالخلايا بشكل عام تحتاج إلى الغذاء والأكسجين سواء كانت سرطانية أم عادية، هنا تظهر عملية «تولد الأوعية» Angiogenesis، حيث تقوم الخلايا السرطانية بتكوين الأوعية الدموية الخاصة بها التي تمدها بالغذاء والدم وتجعلها على قيد الحياة، وذلك عن طريق إشارات كيميائية تُحفِّز تكوين الأوعية، مما يسمح للورم بالتضخم وغزو الأنسجة المجاورة والتحرك في أنحاء الجسم.

هنا تبدأ أضرار التجمع السرطاني في الظهور؛ حيث تعبث بالأوعية الدموية السليمة وأحيانًا تخنقها، حينها تقوم الأوعية السليمة بإطلاق أجهزة إنذار تُسمى «أنماطًا جزيئية مرتبطة بالضرر» (اختصارًا DAMPs)، وهي عبارة عن جزيئات، بمجرد إطلاقها، تُنشِّط المناعة الفطرية، وتأتي بالخلايا المناعية إلى الموقع المُتضرر. حينها يصبح الموقع المتضرر عبارة عن بيئة يُطلق عليها «البيئة الدقيقة للورم» (اختصارًا TME)، وهو نظام بيئي تتفاعل فيه الخلايا الورمية مع خلايا المناعة في الأوعية الدموية الجديدة، تأتي الخلايا البلعمية والخلايا القاتلة الطبيعية وتبدأ مباشرةً في مهاجمة الورم الناشئ، وتُطلِق إشارات كيميائية تُخبر جهازك المناعي بدق ناقوس الخطر، وتأتي الخلايا الجذعية تقوم بجمع مستضدات الخلايا الورمية الميتة وتنقلها للخلايا التائية المساعدة والقاتلة، التي تذهب مباشرة إلى داخل الخلية السرطانية وتدمرها تمامًا كما تمنع نمو أوعية دموية جديدة، وهذه العملية تُسمى «دورة المناعة السرطانية».

2. مرحلة التوازن:

في هذه المرحلة تعمل المناعة التكيفية فقط، وتُمثِّل المرحلة الأطول نشوء السرطان. في تلك المرحلة يحافظ الجهاز المناعي على خلايا سرطانية متبقية في حالة من السكون الوظيفي، ويكون هناك تحكم كامل في الورم.

قولنا إن الخلايا السرطانية لا تمتلك نفس الحمض النووي، بل تكون سلالات مختلفة في جيناتها؛ فما يحدث أن الخلايا المناعية تقتل الخلايا، لكن تظهر خلايا مختلفة في تكوينها الجيني وقادرة على التكيف، وحدث أن أفلتت من خلايا المناعة، بل اكتسبت مقاومة لها، فتُقرِّر تلك الخلايا الانقسام والتكاثر مرة أخرى.

تحدث الدورة المناعية السرطانية ثانية، لكن تحدث بعض التغييرات، كأن لا تستطيع الخلايا المناعية التعرف على الخلايا الجديدة بسبب فقدان المُستضد التي ترتبط به، وتتهرَّب من نقاط التفتيش المناعية التي هي عبارة عن بروتينات طبيعية في الجهاز المناعي، يتمثل دورها في منع الاستجابة المناعية للخلايا السليمة، وأن تكون قوية فلا تهاجمها الخلايا التائية، ويكون التفاعل كالتالي: على سطح الخلايا السرطانية هناك نقاط تفتيش حين تأتي الخلايا التائية لترتبط بها، تبعث نقاط التفتيش تلك بإشارات إيقاف، مما يُعيق عمل الخلايا التائية، وبذلك تتهرَّب الخلايا السرطانية من المناعة.

من خلال تلك الطريقة تتحول الخلايا السرطانية لخلايا لديها القدرة على قتل الإنسان، ما دامت تستطيع الهرب من الجهاز المناعي. فالخلايا السرطانية لم تعد تتعرَّف عليها المناعة التكيفية، وتُحفِّز حالة مثبطة مناعية داخل البيئة الدقيقة للورم، وبذلك تدخل مرحلة الهروب الجديدة.

3. مرحلة الهروب:

في تلك المرحلة تصبح الخلايا السرطانية مختلفة عن ذي قبل، لقد تحايلت على الجهاز المناعي وجعلته ضد الجسد الذي تعيش فيه، وعندئذٍ لا تستطيع أن تحارب السرطان، فتظهر الأعراض السريرية للسرطان على حسب نوعه.

في تلك الحالة تقوم الخلايا السرطانية بقمع الاستجابة المناعية بطريقة جديدة عن طريق الخلايا المثبطة للورم (Immunosuppressive Cells) التي تتواجد في البيئة الدقيقة للورم، ولها أنواع عديدة، مثل الخلايا البلعمية المرتبطة بالورم (TAMs)، وهي أكثر الخلايا وفرة، وتتمايز إلى نوع جديد يُعزِّز تكوين الورم ويساعد علي انتشاره ويمنع استجابة الخلايا التائية القاتلة؛ وأيضًا الخلايا الكابتة المشتقة من النخاع (اختصارًا MDSCs)، وهي عبارة عن خلايا غير ناضجة مُشتقة من الخلايا الجذعية المكونة للدم الموجودة في نخاع العظام، وتكون وظيفتها هنا هي تثبيط نقاط التفتيش الخاصة بالمناعة، وتُدعِّم تكوين الأوعية الدموية الورمية، والخلايا التائية التنظيمية (Tregs) تُثبِّط العمل المناعي المضاد للورم، عن طريق منع الخلايا التائية القاتلة.

العلاج المناعي

يتم وصف العلاج المناعي على أنه الركيزة الخامسة لعلاج السرطان، وذلك لأن الأدوية المُعزِّزة لجهاز المناعة أظهرت قدرتها على تقليص الأورام، بل حتى استئصالها. في ضوء ما سبق، ظهرت محاولات أكثر استنارة للسيطرة على السرطان عبر وسائل مناعية، عن طريق زيادة جودة أو كمية الخلايا المناعية، أو القضاء على الآليات المثبطة المناعية التي يُسبِّبها السرطان، أو عن طريق نوع جديد من العلاج يستهدف هندسة الخلايا المناعية للمرضي وهو العلاج بخلايا (CAR-T).

منذ عام 2017، وافقت إدارة الغذاء والدواء (FDA) على ستة علاجات بخلايا (CAR-T) لسرطان الدم، هذه الخلايا التائية المسئولة عن قتل الخلايا المُصابة بالسرطان يتم استخراجها من المريض وإعادة هندستها جينيًّا في المختبر، وذلك لإنتاج بروتينات على سطحها تُسمى مستقبلات المستضد الخيميري (CAR)، وتستهدف بروتينات معينة على سطح الخلايا السرطانية وترتبط بها حتى تقتلها.