الفقر معادلة اجتماعية-اقتصادية صعبة الحل.
المفكر الاقتصادي «سمير صبح»

فارق كبير بين أن تشعر بالفقر لأنك دائمًا ما تمد عينيك لما في يد الآخرين، وتُكثِر المقارنات مع من هم أكثر حظًا منك في المال، وبين أن تكون محرومًا فعلاً، لا تجد قوت يومك أو حتى غير قادر على أن تعيش على حد الكفاف.

بيد أن الحاجات البشرية غير متطابقة، وأن ما تعتبره مجتمعات من الضروريات التي لا يستقيم العيش إلا بها، قد تراه أنت كماليات. لكن الحرمان الحقيقي الذي لا يختلف عليه أحد، أن يظل رب الأسرة يدور في ساقية البحث عن لقمة «العيش»… نعم، جلُ ما يريد هو أن يوفر «العيش» لأسرته حتى وإن كان مُجردًا من أي شيء بجواره. فهو كافِ بالنسبة له كي يسد جوع أفواه مسئولة منه.

تحدث المفكر الاقتصادي جلال أمين في مقال له بعنوان «عن التمييز بين الفقر والشعور بالحرمان»، عن فكرة الحراك الاجتماعي السريع، الذي جعل الناس دائمي المقارنات مع من كان في الماضي القريب في نفس مستواهم الاجتماعي، ثم أضحى أكثر ثراءً منهم، فيتنامى لديهم الشعور بالنقمة و«عدم الرضا بالنصيب» ويتطور إلى الشعور بالحرمان لمجرد أنه يركب المواصلات العامة وغيره يمتلك سيارته الخاصة.

بيد أن هؤلاء لا يعرفون قيمة ما هم فيه، ولا يستوعبون حقيقة أن هناك من لا يمتلك النقود التي بها يركب المواصلات العامة، بل هناك من لا مأوى له فيضطر لأن ينام هو وأسرته على أرصفة الطريق. ذلك الفقر المدقع لا يحرمهم فقط من عيش حياة كريمة بل يدمر صحتهم النفسية ويؤثر سلبًا على سلامة أدمغتهم ومستقبل أبنائهم.


أدمغة المهمشين اقتصاديًا

عند تعريف «التهميش الاقتصادي» نجد أنه عملية يتم من خلالها إقصاء مجموعة من الناس دون غيرهم وإيلائهم أهمية أقل من الآخرين. فهي ظاهرة اجتماعية ظلت البشرية تعاني منها لقرون عديدة، ولطالما استخدمت سلاحًا فتاكًا بغرض قمع واستعباد جماعات كبيرة من البشر. وقد أسفرت تلك الظاهرة على مر التاريخ، عن الكثير من المعاناة والنتائج المأساوية والانفصال، لجماعات شعرت بالرفض السياسي والمجتمعي نتيجة تعرضها للاستعباد والتهميش.

ولا تزال تلك الظاهرة إلى الآن موجودة، لكن بصور مختلفة؛ كأن تتجنب الدولة احتياجات بعض مواطنيها وتحرمهم من أبسط حقوقهم وهو الحق في عيش حياة كريمة. ذلك التهميش، إلى جانب أثره السياسي والاجتماعي السلبي بجعل الفقراء يشعرون بالنقمة والرفض للنظام السياسي الحاكم. فهو على المدى البعيد يدمر نفسية وعقول أولئك الذين يعانون منه هم وأطفالهم.

يتحدث الكاتب «أوسكار لويس» في دراسة له عن المجتمع المكسيكي، عن الفقر باعتباره ليس فقط مجرد حرمان اقتصادي أو تفكك اجتماعي، لكنه كذلك يخلق أسلوب حياة لها صفة «الانتظام والرسوخ». ويجعل الفقراء مائلين أكثر من غيرهم للانزواء وعدم الانخراط في الأنظمة الاجتماعية الرئيسية في الدولة، مع وجود أنماط خاصة بهم للحياة العائلية وأساليب للتنشئة الاجتماعية تجنح بهم نحو اللامبالاة والاستسلام للواقع والمستقبل المنبثق عنه.[1]

وقد وثّقت عشرات الأبحاث العلاقة العكسية بين زيادة الحرمان الاقتصادي وتراجع الأداء الذهني للمُعانين منه. فالأشخاص الذين يعانون من ضغوطات مادية كانخفاض دخل الأسرة وانعدام الرعاية الصحية الملائمة وغيرها،مُعرضون بشدة للاضطرابات الجسدية والعقلية، وانخفاض مستوى التحصيل العلمي وتراجع الأداء الذهني ونسب الذكاء.

وفي دراسة قام فيها الباحثان «سنديل موليناثان» و«إلدار شافير» بقياس الأداء العقلي لمجموعة من المزارعين مرة قبل شهر من حصادهم، أي في الوقت الذي يكونون فيه في أمس الحاجة إلى المال، ومرة أخرى بعد الحصاد حينما توفر المال. توصل فيها الباحثان إلى أن أداء المزارعين قبل الحصاد عندما كانوا يمتلكون القليل من المال كان أسوأ بكثير من بعد الحصاد، وخرجت الدراسة إلى أن الفقراء عندما يفكرون في المسائل المالية يكون أداؤهم الذهني سيئًا على عكس الأثرياء. إذ يسير الفقر والتوتر والإجهاد النفسي والذهني جنبًا إلى جنب، ذلك الإجهاد المزمن قد يجعل الكثير من المهمشين اقتصاديًا أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب والسكري، كما يؤثر على الدماغ بدرجة قد تجعلهم أكثر عرضة لاضطراب ما بعد الصدمة وضمور الجزء «الحصين» من أدمغتهم.


ليس البالغون فحسب، الأطفال كذلك

عند دراسة آثار فقر الطفولة على نمو الدماغ، اكتشف الباحثون أن النمو في بيئات محرومة يعرقل العمليات المعرفية لدى الأطفال مقارنة بأقرانهم ممن ينشؤون في بيئات تمنحهم كافة متطالباتهم. وأن الذاكرة معرضة بشكل خاص إلى التقلص لأولئك الأطفال الذين يعانون من الحرمان. ولعل أهم العوامل المؤثرة سلبًا على ذاكرة أولئك الأطفال هي عدم قدرة الوالدين على الاستجابة لمتطلباتهم في ظل ظروف الفقر المدقعة. يكبر الطفل وتظل ذاكرته غير محتفظة بشىء من ذكريات الطفولة، سوى تلك المرات التي أبلغه فيها والديه بضيق ذات اليد، و بأن الظروف لن تسمح لهما بشراء ملابس جديدة أو حذاء جديد له عوضًا عن ملابسه المرقعة وحذائه البالي.

تشير الدراسات إلى أن الفقر في السنوات الأولى من الطفولة قد يكون أكثر ضررًا من الفقر في أي وقت لاحق، إذ يعتبر الباحثان «جارسيا كول» و«كاثرين ماجنوسون»، أن أول خمس سنوات من العمر هي الفترة الأكثر حساسية للتأثيرات الضارة للحرمان الاقتصادي، وأن انخفاض دخل الأسرة قبل السنة الخامسة يظل حاضرًا في ذهن الطفل إلى أن يكبر، حتى وإن تحسن مستوى المعيشة بعد ذلك.

إذ يعاني الأطفال الفقراء من إجهاد ذهني مزمن في الجزء «الحصين» من أدمغتهم والمسئول عن تنظيم الاستجابات العاطفية والمشاعر والانفعالات. فيواجه أولئك الأطفال مستويات عالية من التوتر نظرًا لنشوئهم في وضع صادم لا تتحمله أدمغتهم، كأن يعيشون في أحياء شعبية عنيفة ينتشر فيها الجريمة، أو أن تضطرهم الظروف للعمل في إشارات المرور وتحمُل الإهانات، أو التعرض للطرد من منازلهم عشرات المرات، لأن من قرروا أن يأتوا بهم إلى الحياة غير قادرين على تحمل أعبائهم.


الخوف من العودة إلى الفقر

خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، أكثر من مليار شخص استطاعوا انتشال أنفسهم من براثن الفقر المدقِع.

رئيس مجموعة البنك الدولي «جيم يونغ كيم» في تقرير صادر عن البنك الدولي لعام2018

يشهد العالم انخفاضًا في أعداد الفقراء رغم تباطؤ معدل ذلك الانخفاض، ففي فترة السنوات الخمس والعشرين الماضية من عام 1990 إلى 2015،انخفضت النسبة المئوية لمن يعيشون في فقر مدقع في العالم من 36% في عام 1990 إلى 10% في عام 2015. لعل الفضل في ذلك يرجع إلى الحراك الاجتماعي وما منحه التعليم المجاني من فرصة للفقراء بأن يمنحوا لأبنائهم الفرصة لعيش حياة أفضل.[2]

فبالرغم من الكم الكبير الذي يتسرب من التعليم لضيق ظروف العيش، فإن هناك من يفعل المستحيل كي يكمل أبناؤه تعليمهم، طمعًا في مستقبل أفضل لهم. يكبر الأبناء ويتخرجون في جامعاتهم ويصلون بجد واجتهاد إلى فرص تجعلهم ينتقلون بأسرهم إلى مستوى مادي أعلى. لكن المشاعر السلبية تظل تحوم حولهم لتُذكِّرهم بماضيهم القاسي وكل ما كابدوه هم وأسرهم في تلك الحياة، فتظل مشاعرهم متأرجحة بين الخوف من العودة إلى الفقر والرغبة في تعويض ما فات.

يحكي الكاتب «ترينت هامم» في مقال له بعنوان «الخوف من العودة إلى الفقر»، قصة حياته هو وأسرته، وكيف عاشوا على حافة الفقر حين طُرد والده من عمله بالمصنع الذي كان يعمل به، واتجاهه للعمل بالصيد وبيع الأسماك، وأمه التي اضطرتها الظروف للعمل ككاتبة بريد. يتحدث عن أنه لا يزال يتذكر خلافات أبويه اليومية بخصوص المال. تلك الحياة أثرت في خيارات «هام» المالية، فعند التخرج كان لديه رغبة قوية في «الظهور» وفي أن يصبح غنيًا. أراد بشدة أن يرى نفسه ويقدم ذاته إلى الآخرين شخصا ناجحًا ميسرًا ماديًا، تلك الرغبة العارمة دفعت به فترة طويلة إلى الشعور بالخوف العميق من العودة إلى الفقر. الأمر الذي دفعه نحو الاجتهاد الشديد في العمل وتقليص نفقاته حتى يتمكن من الادخار.

كان يتجنب الانفاق تمامًا، فيحكي «هام» أن ذلك التصرف قد أثّر بشكل كبير على حياته الاجتماعية وتسبب في نفور من حوله منه. وهو ما دفعه إلى التغيير من نفسه، لكنه تلك المرة انطلق إلى أقصى اليسار فأصبح ينفق المال بطريقة غير عقلانية كي يجعل نفسه يبدو غنيًا في أعين الناس، ويجذب من حوله إليه مرة أخرى. ومع مرور السنوات، توصل هام إلى أن الحل هو «التفكير» والبعد عن الحلول المتطرفة؛ فلا الإسراف الشديد فيندم، ولا التقتير الشديد فينفر الناس منه.

بيد أن ترينت هام ليس وحده من يعيش بتلك الأفكار والهواجس، بلإن هناك الكثير ممن منحتهم الحياة الفرصة في تحسين مستواهم المعيشي وظل شبح الفقر يسيطر على تفكيرهم، ويؤثر سلبًا على سلوكياتهم وقراراتهم المالية وعلاقاتهم بالآخرين.

المراجع
  1. طالب عبد الرضا كيطان، ثقافة الفقراء وآلياتت التكيف: رؤية أنثروبولوجية اجتماعية لواقع فقراء المساكن العشوائية، رسالة دكتوراه، جامعة المنصورة، كلية الآداب، 2013، ص10.
  2. جلال أمين، ماذا حدث للمصريين، مكتبة الأسرة، 1999