في قسم كتب الأطفال كان الكتاب ذو الغلاف الأحمر اللافت قابعًا في رف سُفليّ، وعلى عكس باقي الكتب من حوله لم تتهافت الأيدي عليه. كان الغلاف مرسومًا عليه طفلة صغيرة ترتدي رداءً أعلاه مخطط ومن الأسفل بمربعات وفي قدميها حذاء منقط، وتحمل فوق شعرها المشعث المتناثر عصفورًا، كانت تجري فاتحة ذراعيها على أقصاها وراء فراشة ملونة. كان الكتاب عنوانه: «الحرية.. ما هي؟»

كتاب الحرية ما هي؟
كتاب الحرية ما هي؟

كان الكتاب مختلفًا عن باقي الكتب في المكان، الآن تفهم لماذا كان مركونًا في زاوية مهملة فقلما تجد من يهتم بحرية الصغار في مجتمع يعتبر حرية الصغار سوء سلوك يجب تقويمه أو (قلة أدب) تستحق العقاب!

يطرح الكتاب في أحد فصوله سؤالًا على الطفل:

هل لك الحق في أن تكون حرًا؟

وتِباعًا لكل جواب للطفل بنعم أو لا، يستمر في طرح سلسة من الأسئلة لمستويات أعمق من الحق في الحرية على نهج الفلاسفة.

يأخذ الكتاب في الطفل الصغير في رحلة التفكير بداية من «حدود حريته الشخصية» و«حرية الآخرين»، مارًا بالقيود التي يفرضها الجهل والفقر على الحريات حتى الوصول لحرية الجموع وحقها في الحرب والموت في سبيل الدفاع عن تلك الحرية. فأحد أهم أهداف التعليم النظامي للدول الكبرى السيطرة على الجموع، و السيطرة الأكثر تأثيرًا دومًا هي تشكيل الوعي وليست السيطرة البدنية، فالسيطرة على العقول تضمن لك انعدام المقاومة من أجل الحرية.


التعليم العام والأغراض السياسية

أول ما يوفر هذه السيطرة هو العمل على تجريد الشعوب المراد استعمارها من هويتها المتمثلة في تقاليدهم وثقافتهم ولغتهم وتراثهم جنبًا إلى جنب مع دفع نموذج آخر للتقدم يصدر التحضر والتقدم بصورة تتوافق مع سياسة المستعمر.

في فترة بعد الحرب العالمية الثانية بدأ مصطلح «ما بعد الاستعمار» في الظهور وهو يشير إلى مدرسة فكرية واسعة ومتنوعة تسعى في المقام الأول إلى تحليل آثار وأهمية استعمار أجزاء كبيرة من أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا وكندا والشرق الأوسط، ثم تبعها بعد ذلك بعض حركات التحرر من آثار الاستعمار التي هدفت إلى تخليص المجتمعات منها وإعادة نقب موروثاتها التاريخية والثقافية من جديد حتى تتغلب على السيطرة العقلية التي لجمتها من قبل.

لكن هذه الحركات لم تمنع بشكل تام النهج الاستعماري للتعليم وآثاره عليه حتى يومنا هذا، فما زالت المؤسسات التعليمية النظامية تنتهج أساليب السلطة المطلقة والقمع وكبح جماح العقول كلما رغبت في الشرود والتحليق والتساؤل خارج الإطار التي تحدده.

ما زال المعلم يمارس دوره كمصدر أوحد للتعلم وممثل السلطة التي لا يصح نقدها إلا همسًا، بل وأحيانًا ممثل السلطة القضائية والتنفيذية التي تنفذ العقوبات البدنية والنفسية على رعيتها، لا شك في بيئة مجتمعية كهذه أن ينقسم الجموع لقسمين: أحدهما فئة الصفوة تتمتع بامتيازات طبقًا لرضا السلطة عليهم وتتمثل في مهام خاصة كالإذاعة المدرسية (الإعلام) أو المهام الخاصة بالمكتبة (الثقافة) أو الوقوف على رأس زملائهم للوشاية بهم إن أخطئوا (أذرع النظام)، والأخرى فئة عموم الشعب التي يكمن دورها في تشغيل عجلة تلك المنظومة، فلن يكون هناك سلطة دون رعية!

ولأن أعمدة التعليم الثلاثة (المتعلم، المعلم، البيئة التعليمية) ورابعها (المنهج التعليمي) فستجد غالبية المناهج المستخدمة في المؤسسات التعليمية النظامية ترمي إلى أهداف سياسية ودينية أكثر منها أهداف تعليمية ويبذل الكثير من الجهد فيها لتكوين عقلية الشعوب بصورة تحفظ استقرار النظام، والمشكلة الكبرى أن كل هذا يتم في مرحلة الطفولة وبدايات الشباب وهي المرحلة التي يتكون ويتشكل فييها بنيان الفرد وذاته وقيمه وتوجهاته فتنتج سلسلة لا نهائية من الأجيال التي تفتقد لأبسط قواعد الحرية.

إن ثقافة الأبوية ودعم التسلطية في التعلُّم وتخليق المواطنة السلبية المطيعة لهي فرصة ممتازة لتحويل المتعلم إلى سلعة استهلاكية وتغذية ما يسمى (بيزنس التعليم).


بيزنس التعليم

عندما يكون لديك طفل ستجد الدولة تخبرك أن التعليم هو حق لكل الأطفال وإلزامًا عليك كوالد أن توفر له تعليم يستحقه، وعلى الجانب الآخر تجد التعليم المجاني المتوفر مفتقدًا لأبسط متطلبات الإنسان! فضلاً عن متطلباته التعليمية.

والتعليم الآخر المودود: تعليم مشاريع المستثمرين -مجازًا سنسميها مدارس خاصة – فهم يطالبونك بمبالغ ضخمة مقابل مقعد دراسي قلما يوفر لطفلك حدًا أدنى من تعليم، كل ما يفعله أنه يرفعه من هوة (الجاهل) إلى فئة المتعلم – مجازًا كذلك.

فالزمان الآن يحتاج إلى مُفكرين ومُبتكرين وليس مُؤَديين يمكن الاستعاضة عنهم بالإلكترونيات الأعلى كفاءة وسرعة من البشر، المؤديين الذين يصمّون ويحفظون من أجل ورقة تسمى الشهادة حتى وإن كانت شهادة عليا، كل هؤلاء لا مكان لهم أو دور، ففي كل عام تزداد أعداد المدارس الخاصة ومع ذلك تزداد بشكل مطرد تكاليف التعليم ويُشتَرط على الأطفال شروط مجحفة للالتحاق بها. فالطفل عليه أن يكون متعلمًا بالفعل حتى يُقبل ليتعلم! ولا يكفي ذلك فالقبول بأسبقية الحجز من قبل العام الدراسي بشهور قد تصل لعام دراسي آخر!

والآباء وسط ذلك يشهرون أسلحتهم، لكنهم لا يدرون هم جنود في أي معركة؟ هل عليهم أن يكونوا حراسًا لحرية أطفالهم؟ أم مشاركين في المعارك الدائرة التي وجدوا أنفسهم فيها تروسًا تدور كلما ظلت المعارك دائرة.

وبالفعل ليس هينًا تعطيلها، لكننا نملك المفاتيح التي تفتح أبوابًا ينطلق منها أطفالنا بحرية فاتحين ذراعيهم على أقصاها فوق رأسهم عصفور ويجرون وراء فراشات ملونة، فحرية الأطفال تستحق الدفاع عنها وحراستها فهي ليست «قلة أدب» لأن من أراد شعبًا حرًا فليعلم طفلًا حرًا.