يبدو أن مصر مُبتلاة بالسذاجة الاستراتيجية، ومُبتلاة أكثر بعدم التعلم من التاريخ، فقبل أكثر من 80 عامًا تقريبًا، انهارت أساطير النيوكلاسيك في التوازن التلقائي للاقتصاد، وفي ضرورة توازن الموازنة، وأصبح الاقتصاديون يتحدثون عن دور الموازنة في دعم نمو الاقتصاد؛ باعتبارها مجرد أداة من أدوات توازنه؛ بحيث أصبح في عداد البديهيات تقديم توازن الاقتصاد على توازن الموازنة، أو بمعنى أدق تقديم النمو الاقتصادي والتوازن الكلي على الانضباط المالي والتوازن الصوري.

لكننا ها نحن بعد كل هذه التجربة العريضة، نعاني من إدارة اقتصادية تتصوّر الحنكة في «الضبط المالي»، بضيق أفق محاسب لا يغادر كشوف «منه – له»، أو جداول «المدين – الدائن» المحاسبية، التي لا تعدو قيمتها تقرير الوقائع وإثبات العمليات وتأكيد الحقوق وملء الخزينة، دون أن تتجاوز ذلك إلى وعي مدير مالي يفهم في التخطيط الإستراتيجي ويعي أبعاد الربح الكلي، ناهيك عن وعي اقتصادي ماكروي-استراتيجي بقضايا «النمو الاقتصادي» و«التوازن الكلي» و«التكلفة الاجتماعية» و«التطوّر الهيكلي».

ولم ينتج هذا عن صدفةِ أو جهل مثلاً، فالأمر أخطر من ذلك، حيث نتعامل مع دولة طرفية أصبحت مهمتها إدارة السوق الهامشية وتفريغها لحساب رأس المال العالمي وذيله المحلي، ولو على حساب حاجات النمو والتطور المحلي، ما تجسّد في رضوخ الحكومة المصرية لبرنامج صندوق النقد الدولي، المعني أولاً وأخيراً بـ «تأمين حقوق الدائنين» بتكريس المالية العامة -المسحوبة من دم وثروات الشعب – لهم (فأصبحت مُستحقات الديون أكبر من الأجور والدعم معًا!) وخلق الفرص للمستثمرين (بانسحاب الدولة حتى من القطاعات الإستراتيجية للاقتصاد والمجتمع كالبنوك التي خُصخص الكثير منها والسكك الحديدية المُنتوى خصخصتها مثلاً!).

وفي سياق تكريس المالية العامة هذا، أصبح طبيعيًا تجاهل كافة حسابات التكلفة والعائد (هانحن نتحدث اقتصادًا فقط ولا نذكر حاجات الفقراء الذين لا يطيقون ذكرهم ولا رائحتهم!) على مستوى الاقتصاد؛ فالإدارة أصبحت معنية وفقط بملء الخزائن لصالحها ولصالح دائنيها، ولو خرّبت الاقتصاد وأهلكت النسل والعباد!

ولسنا بالغرور الكافي ولا السذاجة الزائدة لنعتقد أن المشكلة مجرد مشكلة فهم؛ فنقرر مثلاً إعطاءهم دروسًا في الاقتصاد كتحليل اجتماعي شامل يتجاوز كثيرًا تفاهة التحليلات المالية قاصرة الفهم قصيرة النظر للاقتصاد البرجوازي الرسمي؛ فنحن نعرف أيّ مصالح يخدمون؛ لهذا لن نخاطب فيهم رحمتهم بالمُستضعفين، مُكتفين بالحديث عن التكاليف والعوائد مما يدّعون أنه أكبر همّهم ومبلغ حلمهم!!

وما نأمله فقط أن يعيّ ضحايا تلك السياسات الأبعاد الحقيقية لخسائرهم منها، والتي تحمل خسائر كلية غير مباشرة تتجاوز بكثير الخسائر الجزئية المباشرة من جيوبهم.


الموقع الهيكلي لقطاع النقل من الاقتصاد

يعرف أي طالب مبتدئ في الاقتصاد أن النقل ينتمي للخدمات، مما يعني ببساطة أنه قطاع لا ينتج سلعة مادية مباشرة، بل يعتمد على السلع المادية في تقديم منفعة «تُنتج لحظة استهلاكها وتُستهلك لحظة إنتاجها»؛ فهي توجد في «الحاضر» فقط؛ أي أنها بعبارة أخرى سلعة مُهذبة لا ماضي لها، لكنها كذلك سلعة عاقر لا تنجب نتاجًا ماديًا؛ مما جعلها في نظر الاقتصاديين الكلاسيك عمومًا، عملاً غير مُنتج؛ كونه لا يدخل في الثروة، وأصبحت المنفعة اللحظية للخدمة عملاً مُنتجًا يقدم منفعة لمُستهلكه؛ مما يسهم بشكل غير مباشر في خلق الثروة من خلال استفادة هذا المُستهلك منها، وخصوصًا إذا كانت خدمة إنتاجية، لا استهلاكية.

والخدمة الإنتاجية هي خدمة يشتريها المنتجون لا المُستهلكون بالأساس، كخدمات التخزين للحفاظ على السلع، والنقل لتوزيعها عبر الأسواق، والتأمين للتحوّط ضد المخاطر المُعتادة …إلخ، وهي لهذا تُسهم في خلق القيمة (أو على الأقل نقلها أو الحفاظ عليها في الزمان والمكان)، لكن ليس بشكل مباشر، بل عبر خدماتها للقطاعات الإنتاجية السلعية، وتأخذ مقابل إسهامها هذا جزءًا من عوائد إنتاج تلك القطاعات؛ مما يعني أنها تعتمد كليًا على استقرار ونمو تلك القطاعات نفسها.

ويعني هذا أن قطاعًا كالنقل، خصوصًا النقل العام المُخصص للجمهور العام، أي قوة العمل بالأساس، هو قطاع دعم اقتصادي مهم ذو تأثير بعيد المدى في تكاليف كافة القطاعات تقريبًا؛ مما يعطي أهمية خاصة لتخطيطه وسياساته، باعتباره قطاعًا رأسماليًا اجتماعيًا، أي قطاع «محيطي» يؤطر الاقتصاد، ويمثل إحدى وسادات مرونة حركته ونموه؛ مما يعني باختصار أن أي اختناقات به ستنعكس سلبًا على باقي القطاعات وعلى الاقتصاد بمجمله، ويشمل هذا بالطبع التكاليف العزيزة جدًا على أصدقائنا الليبراليين في حكومة المحاسبين.

وهنا تظهر السطحية المختبئة خلف السياسات والدعاوى العريضة؛ فالتكاليف المعنية لديهم هي فقط التكاليف المالية المُدرجة في كشوف الحسابات، كما لو كانت الحكومة شركة خاصة معنية فقط بربحيتها وتغطية تكاليفها، مُنبتة الصلة بباقي الاقتصاد، بينما الحقيقة أن إدارته الكفؤة هي قضيتها الأساسية، لا إدارة أرصدتها المالية وكشوفها الحسابية الأقل أهمية بكثير.

فإذا نظرنا للتكاليف الناتجة عن رفع أسعار الوقود وتذاكر المترو خارج التكاليف المالية المباشرة؛ فسنجد أمامنا أكثر من تكلفة غير مباشرة، أهمها:

  1. تكلفة النقل ضمن تكاليف كافة القطاعات التي تستخدم خدمات النقل بكثافة؛ مما يزيد تكاليفها ويقلل إنتاجها ويرفع أسعارها؛ فينعكس على مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي، خصوصًا مع عمومية وتشعّب الأثر بفعل المضاعف الناتح عن الترابطات والتشابكات بين قطاعات الاقتصاد المختلفة، وما تحمّله لبعضها البعض من تكاليف.
  2. تكلفة النقل ضمن أجور القوة العاملة؛ مما سيرفع متوسط أجر الكفاف كونها تكلفة أساسية في تفعيل قوة العمل اجتماعيًا؛ مما سيتم على حساب مستوى معيشة القوة العاملة من خلال التأثير على صافي الأجر الحقيقي، وعلى مستويات تكاليف القطاعات المستخدمة لقوة العمل هذه من خلال اضطرارها لرفع الأجور جزئيًا، وسيخضع توزيع العبء النهائي لأوضاع القوى النسبية التي ستحمّل كل طرف نصيبه من الزيادة في التكلفة.
  3. يؤدي الأثر المزدوج سالف الذكر، عن ارتفاع التكاليف في القطاعات كثيفة الاستخدام لخدمات النقل ومن ثم ارتفاع أسعار منتجاتها، وعن نصيب قوة العمل من الزيادة في تكلفة النقل؛ إلى خفض صافي الدخل الحقيقي لمعظم القوة العاملة؛ بما يؤدي لخفض الطلب خصوصًا في القطاعات الفقيرة الواسعة منها (وهي الغالبة)؛ ومن ثم المساهمة في خفض التشغيل وزيادة البطالة بنسبة لا بأس بها.

ما لا تراه عدسة المُحاسبين الضيقة

وربما يعتقد البعض في ضآلة هذه الآثار بدعوى صغرها النسبي كتكاليف مالية، مُتجاهلاً دورة الآثار الكمّية والكيفية في مُجمل الاقتصاد، والتي من أهمّها:

1. الأثر الكمّي

مضاعف التكاليف؛ فمثل مضاعف الاستثمار، هناك مضاعف للتكاليف يعمل في الاتجاه العكسي، ولتبسيط الفكرة للقارئ، مضاعف الاستثمار هو الأثر الاستثماري الكلي الناتج عن جرعة استثمارية أوّلية، فعندما ننفق جنيهًا واحدًا «استثمارًا مستقلًا» في الاقتصاد، فإنه ينتقل من يد إلى يد ومن قطاع إلى قطاع بحسب الروابط الاستهلاكية والتكاملية بين القطاعات، وبمعدل معين يرتبط بالميل للاستهلاك، بحيث يستتبع معه «استثمارًا تابعًا»، قد يبزّه أضعافًا، وبتصوّر العملية عكسيًا، أي سحب هذا الجنيه كاقتطاع تكاليفي مُستقل، أي أوّلي مُستجد؛ لنا أن نتخيّل كذلك الآثار «التكاليفية التابعة» الناتجة عن حاصل ضرب هذا الاقتطاع التكاليفي الأوّلي في مضاعفه في اقتصادنا المعني.

وهكذا فوفر مالي للحكومة انعكس في صورة تكاليف تحمّلها المجتمع بقيمة مليار جنيه فقط؛ قد يعني تكلفة إجمالية على الاقتصاد بخمسة أو عشرة مليارات جنيه بحسب معدل المضاعف الذي يختلف من حالة لأخرى، والذي غالبًا ما يزيد مع ارتفاع الميل للاستهلاك (الذي يزيد كلما انخفض الدخل كما هو حالنا)، ولا يعالج هذه الخسارة سوى الكيفية التي سيُستخدم بها ذلك الوفر، هل ستُستخدم في إنفاق جارٍ كدفع أرباح وأجور وسداد ديون، أم تُستثمر بشكل إنتاجي حقيقي غير مُنتظر في دولة ملتزمة بالسوق الحرة ولا بقطاع عام حقيقي بها عاجلاً أو آجلاً.

2. الأثر الكيفي

هيكلة الخدمة؛ ارتباطًا بهيكلة التكاليف، فعندما ترفع الحكومة سعر خدمة وسيلة نقل ما بنسبة أكبر من رفعها لوسيلة نقل أخرى، خصوصًا إذا كانت وسيلة عامة كمترو الأنفاق كما جرى مؤخرًا؛ فإنها عمليًّا تعيد هيكلة نمط تقديم الخدمة نفسه، بتوجيه المستهلكين للانتقال من وسيلة النقل التي أصبحت أغلى نسبيًا إلى الوسيلة التي أصبحت أرخص نسبيًا؛ وهو ما يكون له آثار عديدة متداخلة ذات طابع كيفي وهيكلي (كالزحام والتلوّث وخسائر وقت وطاقة قوة العمل..إلخ)، تنعكس في صورة تكاليف كيفية وكمّية كذلك، لكنها ليست مباشرة ولا واضحة في دفاتر الحسابات الحكومية والمالية العامة؛ لتعترف بها حكومة المحاسبين، تلك الحكومة طويلة اليد ماليًا، عديمة البصر اقتصاديًا.


طوبوغرافيا التحضّر العشوائي

ولا ترى حكومة المحاسبين ضيقة الأفق سوى التوصيات الفضفاضة السطحية لصندوق النقد الدولي، تلك التوصيات التي تزعم أنها تصلح لكل زمان ومكان، كما لو كانت كتابًا مُقدسًا، دونما مراعاة ودراسة للأوضاع المحلية الخاصة، فلا تاريخ ولا اجتماعًا إنسانيًا خاصًا يُؤخذ بالاعتبار؛ وهكذا يجري تجاهل نمط التحضّر الخاص بمصر، الذي على أساسه يتحدد النمط الأكثر ملاءمة للنقل عمومًا، وهل يُفضل أن يكون نقلاً عامًا أم خاصًا؟ كذا كيفية وأولويات إدارته، من حيث تغطية التكاليف المباشرة، أو التركيز بشكل أكبر على التكاليف غير المباشرة.

وبالنظر لنمط التحضّر المصري، فهو ككل أشكال التحضّر «العالمثالثي» المُشوه، نمط انفجاري شديد الكثافة السكانية، سببه الرسملة المُعجلة للزراعة دونما جاهزية كافية من الصناعة؛ مما خلق بطالة هائلة في الريف، دفعت بجموع قطعانية للهجرة الداخلية؛ بما تسبّب في تضخّم انفجاري في المراكز الحضرية عمومًا والعاصمة قاهرة المدن خصوصًا، وتركّزت القوة العاملة في الخدمات الهامشية والقطاع غير الرسمي؛ بحيث بلغ نصيب القاهرة الكبرى وحدها ثلث سكان مصر في الوقت الحالي، فضلاً عما لا يقل عن مليوني عامل وموظف ينتقلون يوميًا من وإلى القاهرة.

ومع هذا التركيب كمّيًا (ثلاثين مليون نسمة تقريبًا في العاصمة)، وكيفيًا (قوة عاملة يعمل أغلبها في تشغيل فقر بأجور شديدة التدنّي بوظائف غير منتظمة ولا آمنة)؛ يصبح واضحًا مدى ضرورة وجود نظام نقل عام واسع الانتشار ومنخفض التكلفة؛ بحيث يدعم استمرار قوة العمل هذه (المطحونة فعليًا) والقطاع الذي تعمل به (المستمر بالكاد كوسادة تمتص آثار هشاشة وضعف الاقتصاد الرسمي) مؤقتًا بشكل معقول حتى يستطيع الاقتصاد الرسمي النمو والتطور صناعيًا واستيعاب وتطوير القطاع غير الرسمي؛ ومن ثَمَّ انتشالهم وتشغيلهم في وظائف لائقة، يصبح ممكنًا عندها الحديث عن اقتصاد سلعي قادر على تحمّل قطاع نقل أكبر بأسعار أعلى وكفاءة أكبر، لا استباق الأوضاع وتحميل الاقتصاد البائس الحالي بقطاعه غير الرسمي الهش وقوة عمله التي على حافة الجوع بقطاع نقل عالي التكلفة ليصبح عبئًا عليه.


التكلفة كخطاب سياسي: تكلفة منْ؟!

ولا ننهي هذه العجالة قبل تأكيد أن ما سبق مما يبدو حماقة محاسبين لا يرون أبعد من دفاترهم، ليس كذلك في الحقيقة، فاختيار تكلفة وتجاهل أخرى ليس مجرد قصور حسن النية في النظر، بل هو اختيار وانحياز اجتماعي وسياسي مُسبق، بناءً على مصالح لقوى اجتماعية مُحددة، فالتكلفة ليست مفهومًا نظريًا يسبح في سماوات المجرد، بل هو مفهوم اجتماعي؛ ومن ثَمَّ خطاب سياسي.

وهكذا لا نعجب أن نجد تناقضات يشيب لها الولدان في منطق التكلفة الذي تطرحه الحكومة، فيتحدث الرئيس عن معضلة تدبير 30 مليار جنيه لتطوير المترو الذي يخدم عشرات الملايين، بينما يعتمد ميزانية تريليونية بها مئات المليارات للأمن وبناء السجون ومراقبة الإنترنت وحجب المواقع، كما يعترف محافظ البنك المركزي – ببساطة – بأنهم يطبعون ما يحتاجونه من نقود.

وفي قضيتنا المعنية، تنشغل البيروقراطية الحكومية بماليتها، ورأس المال بمزيد من كعكعة خدمات النقل وغيره… إلخ؛ فيجري التركيز على التكاليف المحاسبية المباشرة، وتجاهل التكاليف الاقتصادية والاجتماعية غير المباشرة، التي لا يتحمّلها سوى الفقراء.