محتوى مترجم
المصدر
The conversation
التاريخ
2018/11/27
الكاتب
أندرياس وينكلر

في ظل أهرامات الجيزة الثلاث، تقبع مقابر رجال البلاط وكبار الموظفين، بينما ترقد جثامين الملوك في تلك المباني الشاهقة. لقد كان هؤلاء الموظفون هم المسئولين الحقيقيين عن بناء الأهرامات، فهم المعماريون وقادة الجيش والكهنة وكبار موظفي الدولة، وهؤلاء الأخيرون بالذات هم من أداروا اقتصاد الدولة، واضطلعوا بمسئولية استمرار قدرته على تمويل بناء تلك المقابر الملكية الخالدة.

ففي الدولة القديمة، التي استمرت نحو 500 عام (من 2686 إلى 2181 قبل الميلاد)، كان الاقتصاد زراعياً بدرجة كبيرة، ومن ثَمَّ، كان يعتمد بشدة على مياه نهر النيل، وكان النهر يغمر في فيضانه الأراضي الزراعية فيرويها ويمدها بالطمي الخصب، وساعد النيل أيضاً على نقل البضائع بطول البلاد.

وتشير الأبحاث إلى أن أغلبية الأراضي المزروعة كانت تقع في زمام الملك نفسه، أو المعابد المختلفة، أو كبار الملاك الذين كانوا في الغالب من كبار موظفي الدولة.

ولا يمكن اعتبار تلك الزمامات منفصلة عن بعضها بعضاً، وإنما كانت متداخلة، إذ كانت تشترك غالباً في شبكة واحدة تعيد توزيع عائداتها على المنتفعين منها، وتتبع في النهاية ملك البلاد، وكانت تعتمد، إلى حد ما، على إدارة الدولة المركزية، كما كانت تلك المنظومة جزءاً من الشبكات الرسمية وغير الرسمية التي تعيد توزيع العائدات الاقتصادية والحظوة السياسية والخدمات الشخصية، وارتبط المجتمع في ذلك العهد بنظام إقطاعي يشبه النظام الإقطاعي الذي كان موجوداً في أوروبا خلال العصور الوسطى.


نظام ضريبي معقد

بوجه عام، كانت الإقطاعيات الزراعية والمدن هي الوحدات الأساسية للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي لمصر القديمة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الملك لم يكن يفرض ضرائب على الأفراد -الفلاحين على سبيل المثال- إذ كان ذلك يمثل معضلة لوجود تفاصيل كثيرة يعجز الجهاز الإداري عن معالجتها على مستوى الدولة ككل. وبدلاً من ذلك، فقد حمّل التاج الإقطاعيين مسئولية توصيل عائدات إقطاعاتهم إلى الخزينة الملكية، وضمان تحقيق فائض الإنتاج المتوقع في الأراضي الخاضعة لهم، تحت طائلة العقاب الجسدي إذا أخفق أحدهم في ذلك.

وكان الملك يجري إحصاءات دورية لحساب عائدات كل إقطاع وحجم الضرائب المفروضة عليه، وكان هذا الإحصاء يحسب السلع الخاضعة للضريبة مثل الماشية والأغنام، وكذلك بعض المنتجات المصنعة مثل الأقمشة والمشغولات اليدوية، وليس وفق عدد الأشخاص.

وكانت الضرائب التي تفرضها الدولة تُجمع في الصوامع والخزائن، ثم يُعاد توزيعها على الإقطاعات المختلفة أو على مشروعات البناء بأنواعها، مثل تشييد المقابر الملكية أو الإنفاق على الشعائر الجنائزية. ووُجدت في أبو صير نصوص توضح كيفية إدارة الشعائر الجنائزية الملكية في مصر، وأفعال الكهنة وتصرفاتهم، وكيف كانت عبادة الملك بعد وفاته مرتبطة بالبلاط الملكي ووجود الإقطاعيات الزراعية التي تنفق على المعابد.


العمليات السلسة

كان الإقطاعيون أثرياء، ولكنهم عملوا بكد للوصول إلى تلك الثروة، إذ كانوا مسئولين عن ضمان سير العمل بسلاسة في إقطاعاتهم، وتوفير الغذاء والملبس والمسكن للفلاحين الذين يعملون دون أجر، وفي منطقة الأهرامات بالجيزة، كان يُقدم للعمال اللحم البقري والسمك وخمر الشعير، ولعل ذلك كان إحدى المميزات المقدمة للعاملين في بناء الأهرام، الذين اسُتقدموا من مناطق مختلفة لبناء المقابر الملكية.

ويُشير نص وجد في أبيدوس بصعيد مصر، كتبه قاض وقائد عسكري يدعى «ويني»، إلى أن تعبئة الجنود كانت تجري بنفس الطريقة التي يُجمع بها العاملون بالسخرة، وكانوا يشاركون في الحملات العسكرية التي تشنها الدولة إلى المناطق الحدودية الغنية بالمعادن ولجلب المواد الخام مثل النحاس وأخشاب البناء. وكانت تجلب السلع الفاخرة إلى وادي النيل أيضاً، مثل الحيوانات والنباتات النادرة، والعبيد الذين يعملون في الترفيه في البلاط الملكي.

وعُثر في وادي الجرف جنوب السويس، والذي وُجد به ميناء كبير في عهد المملكة القديمة، على برديات تُوثق فترة الملك خوفو، وتحتوي على سجلات لربان يدعى «ميرير» ونشاطه في نقل الرجال والبضائع من مصر وإليها، وتخبرنا تلك السجلات بمشاركة ميرير ورجاله الأربعين في أعمال بناء الأهرام من خلال نقل الحجارة من المحاجر إلى مواقع البناء في الجيزة.

ويُفترض أن تكون تلك المشاريع قد ساعدت الجهاز الإداري للدولة على تحسين أدائه وتقوية الاقتصاد المصري، وكان ميرير يعمل في الإدارة الملكية المسئولة عن الإنشاءات الكبرى في البلاد، مثل الإقطاعيين الكبار، والتي تولت أيضاً عمليات إنشاء الأهرامات الضخمة في الجيزة وسقارة.

لقد خدمت القوى العاملة، سواء الموظفون الملكيون أو العمال اليدويون، التاج المصري، الذي كان بدوره يعيد توزيع الغذاء والسلع الأخرى على رؤساء العمال الذين يتولون توزيعه إلى الدرجات الاجتماعية الأدنى. ولكن الشعائر الجنائزية التي تنفق عليها الدولة كانت من نصيب الأشخاص الموجودين في أعلى السلم الاجتماعي، الذين يُمنحون مقابر مجاورة لقبر الملك.