للعناصر المُصنّعة تاريخ قصير نوعاً ما، فقد انتظرت البشرية حتى عام 1936 ليتم الإعلان لأول مرة عن اكتشاف عنصر عن طريق صناعته، كان ذلك عن طريق الصدفة وكان هذا هو عنصر التكنيتيوم Tc. وسيتطلب التصنيع المتعمّد للعناصر المزيد من الانتظار حتى عام 1944 حين تم تصنيع الكيوريوم والأمريسيوم على يد جلين سيبورج و فريقه.

أما الطبيعة، فقد استغرق منها الأمر 3 دقائق بعد الانفجار الكبير لتبدأ أولى خطواتها نحو تصنيع العناصر .

في عام 1948 نشر جورج جاموف مع هانز بيته ورالف ألفر ورقة بحثية بعنوان «أصل العناصر الكيميائية The origin of chemical elements » تشرح -باستخدام النسبية العامة والرياضيات- كيف يمكن أن تتسبب التفاعلات النووية في تكوين العناصر الخفيفة خلال فترة مبكرة للغاية من عمر الكون. منذ وقت نشر هذه الورقة وحتى الآن، مرت نظرية تخليق أنوية العناصر Nucleosynthesis بالعديد من المراجعات و التعديلات مما أدى لتبلور النظرية و توسعها لتشمل طرق تخليق أخرى بجانب الانفجار الكبير بالإضافة لاختبارها ومقارنة تنبؤاتها بالبيانات المقاسة لتصبح في النهاية نظرية واضحة إلى حد بعيد.

يجب التنويه قبل الخوض في هذه الرحلة على أن العناصر التي كونت الأرض، الكائنات الحية و كل ما هو موجود حولنا من غازات وجو، هي عناصر أتت من نجوم شديدة البعد عنا (ليس من بينها الشمس بأي حال) ومن أزمان سحيقة بالمعنى الفلكيّ للكلمة، ملايين وبلايين السنين، بعد أن قذفتها انفجارات النجوم العنيفة في أحداث كونية رهيبة كالمستعرات العظمى و غيرها.

لعجب الكيميائيين، يطلق الفلكيون على كل ما هو ليس هيدروجين أو هيليوم لقب “معدن”، أي أنه بالنسبة للفلكي تعتبر غازات مثل الكلور والنيون معادن.
سنتناول ما حدث في أعماق هذه النجوم في الجزء الثاني من هذا الحديث. أما الآن، فعلينا قصّ حكاية العناصر الأقدم في تاريخ الكون، عناصر يقدّر عمرها بأكثر من 13 بليون سنة.


الانفجار العظيم و تخليق أنوية العناصر الخفيفة

بدأت خطوات تخليق العناصر الأولى بتكوين الأنوية أولًا. استلزم هذا أن يبرد الكون بما يكفي و تهبط درجة حرارته لمستوى يسمح للبروتونات والنيوترونات* بالارتباط لتكوين أنوية مستقرة وهو ما حدث عند وصول الكون لدرجة حرارة تقارب البليون درجة كلفينية (نعم يسمّون ذلك انخفاضًا. تختلف مقاييس الكون اختلافًا شديدًا عن مقاييسنا – نحن البشر المتواضعين – خلال شهر أغسطس).

هناك قاعدة ذهبية في الكيمياء تقول بأن الحالة ذات الطاقة الأقل هي الحالة الأكثر استقرارًا لذا هي الحالة المرجّح لها أن توجد إن لم يطرأ شيء ما لمنعها . لنواة الهيليوم 4He طاقة أقل من مجموع طاقات نيوتروناتها و بروتوناتها منفردة لذا يعتبر تكوينها سهل نسبيًّا وتميل مكوناتها للارتباط سويًّا، إلا أن التفاعل لا يحدث بالانتقال من «نيوترونات + بروتونات» إلى 4He مباشرة، بل عليه أن يمر بتكوين الديوتريوم أولًا.

تعرف هذه المرحلة باسم “مأزق الديوتريوم”، حيث أن نواة الديوتريوم لا تعدّ مستقرة إلى حد كبير (ليست مستقرة ولكنها ليست مشعة أيضًا) ويتطلب تكوينها بكميات كبيرة انخفاضًا أكثر في درجة الحرارة؛ لذا برغم سهولة ارتباط نواتيْ ديوتريوم لتكوين نواة الهيليوم فإنه من الصعب تكوين الديوتريوم من الأساس، على الكون أن ينتظر بعض الوقت ليبرد أكثر ليتمّ تكوين كميات كبيرة من الديوتريوم وبالتالي الهيليوم. لذا سنقنع بتكوين كميات ضئيلة من أنوية الهيليوم تم تكوينها من أنوية ديوتريوم، أسعفها الحظ لتتكون حتى يصل الكون لدرجة الحرارة المنتظرة؛ درجة 109 كلفن.

بمجرد وصول درجة الحرارة إلى بليون درجة كلفن – بعد مرور ثلاث دقائق على الانفجار الكبير- سيتم تكوين كميات ضخمة من أنوية الديوتريوم عن طريق اندماج نيوترون و بروتون و إنتاج فوتون جاما طبقًا للمعادلة:

1

ثم تندمج أنوية الديوتريوم سويًّا لتكوين أنوية التريتيوم 3H (نظير آخر للهيدروجين وهو نظير مشع) الذي يتفاعل مع نواة ديوتريوم أخرى لتكوين نواة الهيليوم، كما يتضح من التفاعل التالي:

2

بالإضافة لهذا التفاعل نجد سبلًا عديدة يسلكها الديوتريوم و نواتج تفاعلاته لإنتاج أنوية أخرى، فمثلا بإمكان نواتيْ ديوتريوم الاندماج لتكوين نظير الهيليوم 3He، أو أن تتفاعل نواة ديوتريوم مع بروتون لتكوين نفس النظير. أما النواتج فمن الممكن أن تتحد نواتان من أنوية نظير الهيليوم 3He لتكوين نواة الهيليوم 4He. وهكذا تتعدد الطرق الجانبية المؤدّية لنفس النواتج و الكثير الكثير من الجسيمات تحت الذرية وفوتونات جاما.

من المهم الإشارة هنا إلى أن بعض الكمّيات الضئيلة من أنوية الليثيوم والبريليوم تمّ تكوينها أيضًا عقب الانفجار الكبير. حيث نتج الليثيوم عن صدفة تلاقي نواة التريتيوم النادر مع نواة الهيليوم 4He، كما نتج البريليوم من تفاعل نواة الهيليوم 4He مع نواة نظيره 3He.

حتى هذه النقطة، سيكون الكون قد تمكن من تكوين أنوية العناصر و النظائر الآتية فقط: الهيليوم 4He و نظيره 3He، الديوتريوم 2H وبعض الكميات الضئيلة من الليثيوم والبريليوم و نظائرهم و بعض الأنوية المشعة مثل التريتيوم (نظير الهيروجين المشع )، بالإضافة للبروتونات التي بقيت كما هي دون اندماج. هذه البروتونات ستصبح هي «الهيدروجين»، العنصر الأكثر تواجدًا في الكون ولكن بعد 379000 عام آخرين حين يرتبط أول إلكترون بأول نواة مكونًا أول ذرة هيدروجين في تاريخ الكون.

للأسف لن تستمر هذه التفاعلات النووية لوقت طويل؛ فبعد مرور 20 دقيقة على تكوين الكون ستصبح درجة حرارته أقل مما يسمح لتفاعلات الاندماج النووي بالاستمرار، لذا ستتوقف ليتجمد معها كل شيء على ما هو عليه و تتوقف عملية التخليق إلى حين ظهور النجوم. كان هذا هو ما يطلق عليه Big Bang Nucleosynthesis.

نلتقي في حديثنا القادم مع التخليق النجمي.

المراجع
  1. Harry Y. McSween Jr Jr, Gary R. Huss-Cosmochemistry-Cambridge University Press (2010)
  2. Dieter Rehder-Chemistry in Space- From Interstellar Matter to the Origin of Life -Wiley-VCH (2010)
  3. R. A. Alpher, H. Bethe, and G. Gamow- The Origin of Chemical Elements-APS-1948
  4. Focus: The Universe Goes Nuclear