حرب سنة 56 أسرارها كلها ما اتعرفتش إلا السنة اللي فاتت.. اتنشرت السنة اللي فاتت بعد 10 سنين، حرب سنه 67 مش حنقدر نعرف أسرارها كلها دلوقت، حنعرف أسرارها بعد سنوات، ولكن أمريكا لعبت دور في هذا العدوان، الكثير من هذا الدور مازال غامض.
من خطاب الرئيس جمال عبد الناصر فى ذكرى ثورة 23 يوليو 1967

وجوه مكفهرة، وأعصاب على وشك الانفجار، غرفة احتشد سقفها بأسئلة قيادة تائهة ضاقت رؤوس أعضائها بالأسئلة فخرجت منها كالدخان بلا إجابة. ما أشقها من مسؤولية، استُدعوا للوزارة في أحد أسوأ الأوقات التي مرت بها مصر في تاريخها. يتصدر المائدة رجل وعد الجميع بمجدٍ لم يحلموا به ففوجئوا بنكسة هوت به من مقام الأنبياء إلى قاع البشر.

إنه أول اجتماع عقده مجلس الوزراء بعد هزيمة 5 يونيو التي حولت معركتنا مع إسرائيل من إطار قومي (حق الفلسطينيين) إلى بُعد وطني (استرداد سيناء)، والذي أمر بتشكيله الرئيس جمال عبد الناصر عقب عودته من قرار التنحي استجابة لمظاهرات 9 و10 يونيو، فماذا دار فيه؟

اجتماع مجلس الوزراء

التاريخ: 20 يونيو 1967

الحضور: 29 وزيرًا يرأسهم عبد الناصر شخصيًا، بعد ما قرر الجمع بين سُلطتي رئاسة الجمهورية والوزراء، في مساعيه لإعادة لملمة البلاد من فاجعة سيناء.

بطبيعة الحال والظرف التاريخي، كان عبد الناصر مهيمنًا على الاجتماع، حتى يمكننا اعتباره خطبة طويلة لم تُلق للجماهير وإنما للوزراء الجُدد. وبالرغم من أنه قبل النكسة بيوم واحد، أكّد عبد الناصر أنه «على أحر من الجمر في انتظار هذه المعركة.. لكي يعلم العالم من هم العرب ومن هي إسرائيل»، إلا أنه بملامحٍ منهكة تشي بقسوة الأيام التي يمر بها بدأ كلامه بأننا «محناش أول الناس اللي بيهزموا»، وأن مصر كلما نهضت ورفعت رأسها وجّهت لها قوى الاستعمار ضربة، إلا أن ما حدث لن يجعله يسمح بتحويلها إلى «مستعمرة أمريكية» مهما حدث، وهم وإن تمكنوا من «التخليص على الجيش» إلا أن هدفهم الرئيسي لم يتحقق وهو إسقاط النظام بأسره، ومن بعدها كشف عن أسماء الدول التي تآمرت مع إسرائيل ضد مصر، وهي أمريكا بالطبع، ومثلها ألمانيا الغربية وهولندا التي زودت تل أبيب بطائرات «مستير».

بحسب محضر الجلسة الذي أورده مصطفى بكري في كتابه «هزيمة الهزيمة»، استطرد عبد الناصر في ذِكر بعض أسباب الهزيمة، فأكد أن القيادات العسكرية كانت لا تتخيل أبدًا أن الإسرائيليين سيهجمون، بالرغم من تحذيراته المتتالية لهم بأن ضربة عبرية وشيكة في الأفق، لكن الجميع كانت لديه قناعة «إزاي اليهود يهجموا علينا؟! دا احنا هنعمل وهنسوي فيهم»، مضيفًا: «أما اليهود وصلوا مكانش فيه ولا طيارة موجودة، ضربوا المطارات، وكانوا عاملين حفلة للطيارين سهرانين لغاية الساعة 4 الصبح».

وأكد أيضًا أن جهودًا حثيثة تجري من أجل إعادة باقي العسكرييين العالقين في سيناء ولم يُؤسروا بعد، باستعمال مراكب صيد ووسائل أخرى لم يُسمِّها، لكنها تؤمِّن عودة ألف عسكري و100 ضابط كل يوم تقريبًا.

كما كشف عن المزيد من طبيعة الموقف العسكري، قائلاً: «الروح المعنوية منحطة جدًا … ودفاعنا الجوي كان تمثيلية.. مفيش دفاع جوي الحقيقة». وفي ظل الانهيار التام للدفاعات الأرضية المصرية، «اليهود بهدلونا بهدلة لا أول لها ولا آخر».

كما أكّد في الاجتماع الوزاري الثالث أنه طالب بأن تكون جميع المطارات الحربية عندنا مصنوعة على شكل ملاجئ كي تحمي الطائرات إلا أن أحدًا لم يستجب له، وكانت النتيجة أن اليهود اصطادوا مقاتلاتنا «زي البطل، وأسهل».

لازم نوطي شوية

بصرف النظر عن المعركة العسكرية وما حصل، الفلاسفة كتير دلوقتي، وأنا النهاردة بيجيلي تقارير وجوابات كل واحد بيتفلسف، أنا مش عايز فلاسفة، الفلسفة انتهى أوانها ومالهاش مجال، وباستمرار، بعدما تقع الكارثة يظهر الفلاسفة.
جمال عبد الناصر في اجتماع مجلس الوزراء

وأعرب وزير الدولة أمين هويدي – أصبح لاحقًا رئيس المخابرات العامة ووزير الحربية – عن مخاوفه من أن تستغل إسرائيل أي عُذر لخرق وقف إطلاق النار، كي تعبر البر الشرقي للقناة وتطهرها، كي لا تُعطل حركة الملاحة الدولية وهو أكثر ما يهم الأوروبيون من الصراع بهذه المنطقة، ولا بد وأن نعيد بناء قواتنا بسرعة كي يعلم اليهود أن قيامهم بمثل هذه الخطوة سيكلفهم الكثير جدًا.

وهنا حرص عبد الناصر على تأكيد: «بقول هذا الكلام، ومش عايز كلمة منه تتقال بره، وإلا هيبقى مفيش فايدة في مجلس الوزرا والكلام فيه، وأنا بِدي أحطكم في الصورة كاملة».

تدخل كمال الدين رفعت، وزير العمل وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، في الحديث قائلاً: «لازم نضرب اليهود في سيناء، لو خرجوا بواسطة الأمم المتحدة ستكون ضربة لينا كجيل وكشعب». وهو ما أجاب عليه عبد الناصر: «لازم نوطِّي شوية لغاية ما يوصلنا سلاح، خلينا ساكتين، أنا لا يمكن أتكلم عن تحرير سيناء وأنا مش قادر أدافع عن القاهرة».

وعن إمكانية اللجوء للحلول الدبلوماسية أكد الرئيس أنه لا توجد حتى الآن أي مباحثات مع أمريكا أو إسرائيل لكن «لو عملوا معانا اتصال، هنعمل». هنا، عقّب وزير الخارجية محمود رياض بأن السياسة لن تصل بنا إلى أي شيء الآن، وأن المتاح أمامنا فقط هو أن نناور في اجتماعات الجمعية العامة لكسب المزيد من الوقت لإعادة القوات إلى غرب القناة، ملخصًا تعقيدات الموقف بأسره في عبارة وجيزة واحدة: «أي حل يحقق لنا فائدة، أمريكا لن تقبل به».

وفي ختام الاجتماع الأول، اعتذر الرئيس لوزرائه عن عدم تبليغه إياهم بتكليفهم للوزارة، طالبًا منهم اعتبارها أمرًا عسكريًا، منهيًا لقاءه بهم بقوله: «ربنا ادانا درس، هنعدي إن شاء الله، أنا متفائل».

كم خسرنا؟

بيقولوا النهاردة، أعداءنا، إن إحنا كمان ٥ أشهر أو ٦ أشهر بهذا الشكل مش حنلاقي فلوس نشتري بها قمح، وحيجوع الشعب المصري. احنا بنقول ان احنا حنناضل نضال اقتصادي، يعني إيه نناضل نضال اقتصادي؟ يعني حنجيب القمح.. ومش حنجوع، وحنستغنى عن حاجات أخرى قد تكون أقل ضرورة من القمح.
جمال عبد الناصر في خطابه أمام مجلس الأمة بعد الهزيمة

في خطابه الأول عقب الهزيمة في مجلس الأمة يوم 23 نوفمبر، أكد عبد الناصر أنه يشعر أننا نمر بـ «مصيبة كبيرة»، وأن حالنا «زي حال الراجل اللي طلع في الشارع خبطته عربية أو خبطه تروماي أصبح عاجز عن إنه يتحرك، اترمى على الأرض مش عارف يعمل إيه»، ثم أضاف في موضعٍ آخر أننا خسرنا 80% من عتادنا العسكري في معركة الأيام الستة.

أما في اجتماعه الوزاري الأول فقال: «معادش فيه أسلحة خالص، حتى الأسلحة الخفيفة معندناش»، وتابع: «المقاومة الشعبية ضعيفة جدًا، أما الحرس الوطني فلم يكن تدريبه على المستوى أبدًا وتحول إلى عبء علينا»، ثم اختتم هذه الجزئية في كلماته بقوله: «طبعًا أخطأنا، ولكن اللي فات مات».

وهي نقطة مقاربة عبّر عنها في الاجتماع الوزاري الثالث، بتأكيد على أنه خلال معركة العش، هربت كتيبة حرس وطني من الإسماعيلية بعد أن تركوا سلاحهم من فرط حالة الذُعر التي استولت على الجميع.

الاجتماع الثالث لمجلس الوزراء الناصري الذي عُقد بتاريخ 2 يوليو 1967، استعرض بشكل رقمي التداعيات الاقتصادية لخسارة مصر. شرح حسن عباس زكي، وزير التجارة والاقتصاد، عددًا من الإحصائيات المروعة، بالرغم من تبنيه وجهة نظر متفائلة قوامها أن سيناء ستعود والقناة ستعمل مجددًا خلال عامٍ واحد، وبالطبع فإن جميع الجالسين لم يكونوا يعرفون أننا لن نبدأ خطوات استعادتها إلا بعد 6 أعوام بحرب 1973، وأن شبه الجزيرة كاملة لن تُرد لنا إلا بعد 15 عامًا إضافية، وتحديدًا عام 1982.

تمثلت أرقامه في الآتي: 117 مليون جنيه نقصاً في الصادرات الزراعية والصناعية، علاوة على 35 مليون جنيه خسارة حصيلة مرور السفن في قناة السويس التي كان متوقعاً تحصيلها بقية العام، و60 مليون جنيه عجزاً في النقد «الكاش» التي يمكن استخدامها في استيراد السلع، وحدوث عجز آخر «كبير» لم يحدد قيمته في قطاع البترول، نتيجة خسارة تدفقات حقول سيناء.

بينما تابع نزيه ضيف، وزير الخزانة، مسيرة الخسائر: 82 مليون جنيه خفضاً في ميزانية الخدمات، مضافًا إليها حزمة نواقص أخرى في أرباح السياحة والضرائب وغيرها، ليكون مجموع النقص الكلي في إيرادات الميزانية 137 مليون جنيه، فجوة مرعبة تزامنت مع زيادة مطلوبة في مصاريف القوات المسلحة قدرها 60 مليون جنيه، ومع وجود عجز حقيقي ومستتر في ميزانية «ما قبل العدوان» الأصلية.

تكوّمت كل هذه الأرقام فوق بعضها لتصنع بالميزانية عجزًا فلكيًا قدره 317 مليون جنيه، ترتب عليه بالطبع اقتراح إجراءات تقشفية لخفض المصروفات عن طريق تقليل العلاوات والرواتب والتموين، وزيادة الإيرادات عبر فرض المزيد من الضرائب والرسوم، وهو ما منحه جمال عبد الناصر في خطابه بذكرى الثورة لقب «النضال الاقتصادي».

لقد هُزمنا… فماذا نحن فاعلون؟

ناقش الاجتماع الأول بعض جهود إعادة بناء الجيش التي أعلنها عبد الناصر، فالروس وافقوا على إعادة تعويضه بكامل الأسلحة التي يريدها، وأن المطارات الحربية تستقبل تقريبًا طائرة أسلحة كل 10 دقائق، وأنهم منحونا الكثير من الدبابات والطائرات تعويضًا عما خسرناه في الحرب، مؤكدًا «خلال يومين هيكون عندنا 600 دبابة، لكن العملية مش بالعدد، العملية هي ناس».

أما في الاجتماع الثالث، فأكد عبد الناصر أنه بالرغم من أن السوفييت زودوا الجيش بأحدث مقاتلة لديهم وهي «ميج 23»، إلا أنها لم ترُق أيضًا للعسكريين المصريين، لأن مدى القصف بها لا يشمل كافة أنحاء إسرائيل، ولما عرض الرئيس للروس هذه الرؤية وأن مقاتلتهم ليست فعالة كفاية كـ «الميراج»، قالوا له: «روح اشتريها!».

لم تشمل بالطبع إعادة البناء القطاعين العسكري والاقتصاد وحدهما، وإنما كانت لها أذرع أخطبوطية عدة تشعبت في مجالات متعددة، وعلى رأسها الإعلام.

وحينما قيل له بأن أهل القناة ينتقدون القاهريين بقولهم: «احنا في جبهة القتال، والقاهرة اللي ينزلها كأن مفيش حاجة»، اعترض على ذلك بقوله: «هيعملوا إيه يعني؟ هتيشقلبوا؟ ماهي لازم الحياة تمشي، يعني أمريكا في الحرب كان فيه كام مليون أمريكي في الحرب؟ هل أمريكا كانت عايشة ولا مش عايشة، وهوليوود موجودة والسينما بتطلع والناس بتطلع». وهو ما ينسجم مع ما قاله في الاجتماع الأول بأنه مَن أعطى الأوامر بإضاءة القاهرة مجددًا «على أساس أقولهم الحرب انتهت ومستنين الأمم المتحدة».

فبالنسبة للإذاعة مثلاً، رفض عبد الناصر استمرار حالة الحزن التي يعيشها التلفزيون والإذاعة، داعيًا إلى «عدم قلبها محزنة» باستمرار عرض الأناشيد المتتالية دون توقف، مضيفًا: «الواحد كل أما يفتح الراديو يلاقيه بيقول: إلهي ليس لي إلا عونًا سواك. ومفيش.. باين خالص إن إحنا واقعين خالص»، ثم أضاف: «الحقيقة أنا خايف إن أي واحد عاوز يسمع حاجة خفيفة يتجه لإذاعة لندن، وبكدا تاخد المستمعين بتوعنا».

وعندها تدخَّل محمد فائق وزير الإرشاد القومي (الإعلام) بأن في هذا الأمر رأيين منقسمين، فبينما البعض يطالبه بما يعرضه الرئيس الآن، هناك آخرون يطالبونه بألا «يفقد إحساس المعركة» وألا يعرض رواية رومانسية على الشاشات، بينما هناك معركة تدور داخل البلد. وهو ما عقّب عليه عبد الناصر: «انتَ مسكين في العملية دي».

وهنا قال ثروت عكاشة، وزير الثقافة، مؤيدًا الرئيس في كلامه: «ميصحش ننسى الفن والترفيه والتسلية»، ضاربًا المثل باستعانة الحلفاء بالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن في رفع معنويات الجنود. كما اقترح فكرة «عدم عمل نقلة مرة واحدة» وإنما أن يكون الانتقال من «الحزايني» إلى الوضع العادي بشكل تدريجي كي لا يشعر الناس بصدمة مرة واحدة، وهو الاقتراح الذي نال مباركة الجميع.