قبل قرابة 10 آلاف سنة تغيرت حياة البشر من نمط «الصيادين – جامعي الثمار» إلى الزراعة. وفي وقت مقارب تغيرت علاقتهم بالعديد من الحيوانات من علاقة «مفترس-فريسة»، إلى «علاقة تعاون» يضمن فيها البشر لتلك الحيوانات المأوى والغذاء والحماية من المفترسات، بينما توفر الحيوانات تحت الرعاية البشرية لحومها وألبانها وقوتها الطبيعية لمساعدة البشر في المضي قدمًا نحو ثورة الاستقرار والزراعة، وهو ربما حمل بدوره تغييرًا تتدريجيًا في نظرتنا العامة للحيوانات من كائنات مكافئة تتشارك معنا الأرض وتهبنا الحياة، تنقش على جدران الكهوف لمكانتها الفريدة، إلى كائنات من الدرجة الثانية، تقتصر أهميتها في الحياة على تقديم «المنفعة العامة» للبشر[1].

فضلًا عن سائر الحيوانات، كان «للبقريات» مكانة مميزة وقصة فريدة مع البشر، فقد صور الثور البري «الأُرخُص» -المنقرض حاليًا- منذ آلاف السنين على جدران الكهوف من فرنسا حتى شمال أفريقيا، وفي مصر توجد رسومات بارزة له في كهوف «القرطة» بين محافظة الأقصر وأسوان يعود تاريخها لـ18 ألف سنة مضت. وتزخر «محمية الجرف الكبير» في أقصى الجنوب الغربي برسوماته كذلك.

محمية الجرف الكبير، البقر، الماشية، فراعنة
محمية الجرف الكبير، البقر، الماشية، فراعنة

ومع ازدهار فجر حضارة وادي النيل، احتلت البقريات مكانة عالية، حيث أسبغ الملوك على أنفسهم قوة ذلك الحيوان الكاسر، كما يظهر في «لوحة نعرمر» التي تعود إلى ما يزيد على 3 آلاف سنة قبل الميلاد، والتي تجسد الملك «مينا» مؤسس الدولة الموحدة في صورة «ثور» يهدم حصون الأعداء.


80 بقرة

يمكن أن يعزا «جنون البشرية بالبقر» وتقديسهم لدى الحضارات القديمة من مصر إلى الهند، إلى الدور الكبير الذي لعبته في دفع عجلة الحضارة البشرية دونًا عن سواها من الماشية. فإلى جانب كونها مصدرًا أكبر للبروتين والحليب مقارنة بالخراف أو الماعز، وتستخدم جلودها في صناعات مختلفة، وكذلك فضلاتها كمصدر للطاقة، كانت الأبقار أولى الحيوانات المشاركة في حراثة الأرض خلال الثورة الزراعية، وهي مساهمة كبيرة أعادت صياغة تاريخ البشر إلى الأبد.

إلا أن قصة انحدار الأبقار من الشكل البري الضخم الذي يصعب السيطرة عليه أي «الأُرْخُص – Bos primigenius» إلى الحيوانات المستأنسة الودودة مع البشر التي نعرفها اليوم، لم تبدأ على كل حال في مصر. ويعود أصل كل أبقار العالم -المستأنسة- إلى 80 بقرة عاشت في إيران قبل قرابة 10 آلاف عام،وفقًا لدراسة نشرت عام 2012 في دورية «البيولوجيا الجزيئية والتطور»، شارك فيها باحثون مميزون من مختلف أنحاء العالم.

الأمر مدهش، أليس كذلك؟ ستزداد تعجبًا عندما تدرك أن السلف البري للأبقار استوطن تقريبًا كل زوايا العالم القديم، وعاصر البشر لفترة طويلة، إلا أن ذلك المكان بالتحديد مع هذا الحجم الصغير من القطيع وحده اجتاز الخط الفاصل بين البرية والاستئناس، ليكون صديقًا دائمًا للبشر.

البقر البري، الأُرْخُص
البقر البري: الأُرْخُص

إلا أن الأمر لا يبدو مدهشًا لـ«جاوشيم بارجر» عالم الأنثرولوجيا الألماني المشارك في الدراسة، حيث يوضح أن السلف البري للأبقار «الأرخص»، يختلف تمامًا عن الأبقار الحالية، كان ضخمًا صعب المراس، وحتى إن نجح البشر في أسره حيًا، فإن مهمات تربيته وتدريبه ستكون صعبة جدًا، إلا إذا بدأوا بأعداد قليلة كما حدث في إيران.

لذا ربما حاول أجدادانا التمكن من ذلك الحيوان القوي في مواقع أخرى، إلا أن إتمام استئناسه لم يحدث إلا في ذاك الموقع. ويعيش اليوم تحت رعاية البشر أكثر من بليون بقرة -مستأنسة- من نوعين رئيسيين هما التورين الآسيوي وهو الأكثر شهرة، والآخر هو «الزيبو الهندي» الذي يتميز بلدغ طويل أسفل رقبته، بينما تقلصت أعداد السلف البري الذي أهمله البشر، حتى مات آخر أفراده عام 1627 في بولندا.


مسافة قريبة

لنتمكن من فهم حجم التغيير المذهل الذي مر به أسلاف البقر عندما تركوا الطباع البرية إلى حالة الاستئناس الودودة مع البشر، علينا أن نتوصل إلى تعريف مناسب لمفهوم «الاستئناس» أو «التدجين – domestication».

يعرف العلماء «الاستئناس» بأنه عملية تطورية تمر بها مجموعة من الحيوانات الأسيرة عند البشر، بحيث تستطيع التكيف على وجوده وعلى البيئة التي يفرضها، وهو ما يشمل خليطًا من التغييرات الجينية والبيئية تحدث مدار عدة أجيال.

قد تشعر الآن أنها عملية معقدة، إلا أنها في الواقع من السهولة بمكان أن أسلافنا قاموا بها ببراعة مع العديد من الحيوانات من الكلاب إلى الخنازير والماشية، دون اكتمال إدراكهم لكيفية حدوثها.

وقد استشهد عالم التاريخ الطبيعي المرموق «تشارلز داروين» باستئناس الحيوانات في مقدمة كتابه الأشهر «أصل الأنواع»، كمثال بسيط على التغيير المذهل الذي يمكن أن يحدث لنوع معين، عندما يقوم البشر بانتقاء صفات محددة فيه على مدار أجيال -الانتقاء الاصطناعي- ليتحول إلى نوع جديد مختلف بشكل كبير عن أسلافه في فترة قصيرة نسيبًا تقدر بآلاف السنين، وهو ما يمكن أن تفعله الطبيعة على إطار أوسع، فهي تقوم بانتقاء الصفات الأنسب على مدار ملايين السنين -الانتقاء الطبيعي.

لزيادة فهمنا لعملية الاستئناس قبل العودة للبقر، علينا المرور بأهم تجربة في العصر الحديث تناولت تلك العملية، وهي تجربة عالم الوراثة الروسي «ديميتري بيلاييف» عندما حاول إعادة رسم تطور -استئناس- الكلاب من الذئاب، باستخدام نوع مميز من «الثعالب الحمراء» في براري سيبيريا. بدأ «بيلاييف» تجربته في خمسينيات القرن الماضي، بمجموعة مختارة بعناية من الثعالب استقدمت من مزرعة فرو إستونية، 100 من الإناث و30 من الذكور اختيروا وفقًا لسمة وحيدة بسيطة وهي «اللطلف مع البشر»، حدد «بيلاييف» معيار تلك السمة من خلال قياس «مسافة القرب»، وحدها الحيوانات التي تستطيع تقبل اقتراب البشر منهم دون الهروب أو الهجوم سمح لها بالتوالد على مدار عدة أجيال.

الثعلب الروسي المستأنس

بعد مرور عدة أجيال كانت النتائج أكثر من مذهلة، بدأت الثعالب البرية بالتلويح بذيلها لمدربيها ولعق بعضها البعض ككلابنا الأليفة، وما لبثت أن ارتخت آذانها والتف ذيولها، تغيرت ألوانها للأبيض المرقط والأبيض اللامع، قصرت خطومها واتسعت وجوهها، طالت مدة تزاوجها وزادت قدراتها على قراءة تعبيرات البشر.

لقد كان من المدهش أن تحدث ككل تلك التغييرات في ظرف أجيال معدودة، وأن يكون انتقاء صفة بسيطة كالاقتراب من البشر كافيًا لإحداث تغيير شامل مشابه لما حدث مع الكلاب وغيرها من الحيوانات المستأنسة. لقد لاحظ داروين من قبل أن كل الثدييات المستأنسة تجمعها عدة صفات أو تغييرات مميزة عن أسلافها البرية، بجانب قدراتها الاجتماعية الأكبر، فعادة ما يقل حجم أسنانها وأدمغتها وتقصر أطرافها وتتمد فترة ما قبل البلوغ، وهو ما حدث أيضا مع البشر، حيث يفترض البعض أننا استأنسنا أنفسنا في فترة ما في تاريخنا!

لنعد الآن إلى وحوش البقريات بعد أن استطاع البشر التمكن منها، فقد غيرها الاستئناس إلى حيوانات أليفة تقوم بسلوك اللعلق واللحس لبعضها البعض، وحُولت إلى أكثر الآلات البيولوجية كفاءة، بعضها آلات إنتاج للألبان على مدار العام، حيث يمكن لبعض السلالات أن تنتج كميات تقدر بعشرات آلاف الكيلوهات سنويًا مثل الماشية النرويجية الحمراء، والآخر لإنتاج كمية أكبر من اللحوم من مثل السلالات الأفريقية، كما صغر حجمها نسبيًا عن أسلافها وضؤلت قرونها أو اختفت. ويمكنك أن تدرك حجم التأثير المذهل للاستئناس إذا شاهدت الطواعية التي تتحرك بها البقرة مرتين يوميًا إلى ردهة الحلب لتقف بكل سكون لعشر دقائق أو أكثر حتى يأخد الراعي ما يحتاجه منها.


من الحب إلى العبودية

الثعلب الروسي المستأنس
الثعلب الروسي المستأنس

كما غيرت علاقتنا المميزة بالبقريات مصيرهم إلى الأبد، فإنها تركت بصمة لا تمحى في تاريخنا وطبيعة مجتمعاتنا بل حتى في جيناتنا. وأشهر الأمثلة على ذلك هي الطفرات الجينية التي تمكنا من هضم سكر الحليب «اللاكتوز» حتى بعد الفطام، وهو ما يميزنا عن أغلب الثدييات. ويشير العلماء إلى أن تلك الطفرات ظهرت في وقت مقارب بعيد تأنيس البقريات، ويزداد توزيعها جغرافيًا قرب المناطق التي عرفت الاستئناس منذ القدم.

تشير دراسة أخرى، إلى أن عملية الاستئناس قد تركت أثرها أيضًا في تكوين أدمغتنا وأدمغتهم، بحيث عززت المسارات العصبية لهرمون «الأوكسيتوسين» الذي يلعب دورًا هامًا في الارتباطات الاجتماعية ويعرف باسمه الأشهر «هرمون الحب».

إلا أن الجميع لا يشترك في تلك النظرة الوردية لتاريخ صداقتنا مع البقريات وسواها من الحيوانات المستأنسة. لقد جلب اقترابنا الوثيق منهم فرصة تناقل أمراض جديدة منا وإليهم، سواء بشكل مباشر أو عن طريق الحشرات أو البيئة الرطبة في الحظائر والمزارع.

وعلى مستوى التركيب الاجتماعي، رغم أن البقريات أسهمت في دوران عجلة الحضارة مع الخدمات التي قدمتها من الغذاء إلى الزراعة كما ذكرنا آنفًا، ويؤكد ذلك ظهور أولى مناطق الحضر «المدن» بالقرب من مناطق الاستئناس، إلا أن عالم الأنثروبولوجيا المميز «تيم إنجولد» يشير إلى أن الاستئناس وقدرتنا على إخضاع كائنات كبيرة تحت إمرتنا، زادت نرجسيتنا وحولت نظرتنا لسائر أشكال الحياة إلى حياة من «الدرجة الثانية».

فوق ذلك يضيف عالم الآثار «جياليرمو ألجيز» أنه عندما تغيرت نظرتنا إلى الحيوانات بعد استئناسها تغيرت نظرتنا لبعضنا البعض كذلك، وعليه فإن أولى المدن التي ظهرت في حضارات ما بين النهرين نقلت أساليب السيطرة على الحيوانات إلى البشر، كما تُظهر المخطوطات القديمة التي تساوي بين «عمال المعابد» والماشية كممتلكات للدولة.

في عصرنا المولع بالتقنيات الحيوية، يمكننا التلاعب بجينومات البقريات مباشرة دون المرور برحلة طويلة من «التدجين» أو «التهجين»، خلال عام 2011 تمكن باحثون صينيون من تعديل سلاسة بقرية جينيا لتنتج حليبًا بشريًا، وسريعًا تزيد التكنولوجيا قدراتنا لبداية عصر مختلف من التدجين والسيطرة، إذا كانت وجهة نظر «إنجولد وألجيز» سليمة، فعلينا أن نقلق بشدة من الآثار اللامنتهية لعلاقتنا العريقة مع حيواناتنا المفضلة «البقريات».

المراجع
  1. الحيوانات والبشر: تناغم مصري قديم، فرانسواز ديناند وروجيه – الفصل الثاني