العقد الاجتماعي القائم في مصر بين الشعب والحكومات المتوالية يرتب الكثير من الواجبات على المواطن والقليل النادر -وأحيانا المنعدم- من الحقوق للمواطن، هذا هو الحال في بر مصر عامة، لكن الأطراف والأقاليم قد يكونون الأكثر تضررا من هذا العقد، في ظل بُعد الكاميرات والأضواء عنهم، وبناء على ذلك قامت علاقة الدولة بالصعيد على أساس التهميش الواضح بلا مشاريع أو خدمات، كما يظهر ذلك في مؤشرات التنمية والسيطرة الناعمة أو الخشنة إن تطلب الأمر وفقا للظروف وتوازنات القوى والأجواء السياسية.

قد يبدو الصعيد إذن أنه من الأطراف التي لا وزن لها عند الدولة، لكن الحقيقة أن الأطراف التي لا وزن لها هي في قلب العاصمة حيث تقل أو تكاد تختفي الروابط الحقيقية بين المواطنين، فيصبحون عاجزين عن تكوين أو تجمعات تستطيع أن تطالب بحقوقها، أما في الصعيد فإن قوة الروابط العشائرية مع الإصرار على بعض الحقوق واستخدام الأدوات المتاحة من المجالس المحلية إلى المحافظة إلى الاتحادات الطلابية إلى المنظمات والجهات الداعمة للصعيد، كل هذا ساهم في حل عدد من مشكلات الصعيد بقوة المجتمع لا القانون.

ثلاث تجارب من الصعيد، وبالأخص من جنوب الصعيد، من أسوان، ربما لم تسمع عنها من قبل، لكنها قد تعطيك صورة مقربة عن المجتمع في الصعيد الذي قد لا نعرف عنه شيئا.


مدينة كوم أمبو

شكل مصنع السكر في كوم أمبو عامل الجذب للمدينة لما له من أهمية اقتصادية كبيرة؛ لكن بعد سنين أصبح المصنع نقمة على أهل مدينة كوم أمبو، حيث تخرج من مداخن المصنع كميات ضخمة يوميا من (الهفت الأسود) الذي يسبب أمراض الصدر. يقول لي الحاج محمد صديق أحد أهالي القرية: «إحنا هنا في كوم أمبو التلوث عندنا في البر والبحر والجو»، يقصد بالبحر نهر النيل.

اشتهرت المنطقة السكنية المجاورة لمصنعي السكر والخشب بهذه الأمراض الصدرية، وكانت نصيحة الأطباء المعتادة للمرضى من أهل هذه المنطقة أن يتركوا منازلهم ويبتعدوا قدر الإمكان عن أدخنة مصنعَيْ السكر والخشب.

احتج الأهالي وناشدوا وزراة البيئة لسنوات لحل هذه المشكلة إلى أن نجحوا في إلزام إدارة مصنع السكر بإعمال الفلاتر التي كانت موجودة بالفعل لكن لم تكن إدراة المصنع تقوم بإعمالها نظرا لأنها تحتاج لتكلفة وجهد زهدت إدارة المصنع أن تتكلف بهما! وكذلك الحال في مصنع الخشب؛ فقد أعيد العمل فيه مطلع الشهر الجاري بعدما كان متوقفا عن العمل بسبب تركيب الفلاتر التي ألزم المصنع بتركيبها بعد سنوات من تضرر الأهالي.

هذا بالنسبة للجو أما البحر -نهر النيل- فإن مخلفات مصنع السكر تصرف بمقربة من معبد كوم أمبو، عن طريق ترعة خاصة بالمصنع، والتي يقول الأهالي أنها لا تقل ضررا عن ترعة كيما.

وبمقربة من هذا المصرف توجد محطات رفع تغذي ترعتي كاسل والجنابية، والتي تُسقى من مائهما الأراضي الزراعية في كامل مركز كوم أمبو حتى مركز نصر النوبة (التهجير). اهتم الأهالي بهذه الكارثة لكن وللأسف فحتى الآن يتم صرف مخلفات المصنع في النيل.

لكن على الرغم من ذلك فقد نجح الأهالي في إلزام المصنع بتغطية الترعة وإنشاء حديقة فوق الترعة.

المثير هو أن رئيس المجلس المحلي لمركز ومدينة كوم أمبو عندما علم بذلك حاول أن يستغل مساحة الترعة في إنشاء سوق وبدأ فعلا في تحويل الحديقة؛ لكن بالطبع اعترض عليه الأهالي وأزالوا تعديات المجلس وأعادوا تشجير الحديقة بتكلفة تتجاوز المئة ألف جنيه بالجهود الذاتية.


قرية بلانة

محرقة نفايات طبية غير مطابقة للمواصفات تبعد عن مساكن القرية ثلاث كيلو متر فقط، ينبعث منها غاز الديوكسين. يذكر الأهالي أن ستين طفلا تعرضوا (للعضِّ) من الكلاب المسعورة التي تأكل من هذه المخلفات. بداية من سنة 2013، احتج الأهالي على هذا الأمر وقاموا بعرض مشكلتهم على المحافظ اللواء مصطفي يسرى. قام الأهالي بتفويض مجموعة من الشباب، وفيما بعد قاموا بتوثيق هذا التفويض بختم من المحكمة.

تكونت مجموعة الشباب المتحدثة باسم أهالي قرية بلانة من نوبيين وصعايدة على السواء اجتمعوا أكثر من مرة بالمحافظ والسكرتير الخاص به ومجلس محلي مركز نصر النوبة، وكانت آخر هذه الاجتماعات يوم 14/ 5/ 2014، وعدهم فيه المحافظ بنقل محرقة النفايات إلى منطقة العلاقي جنوب أسوان خلال شهرين من تاريخ الاجتماع. لكن الشهرين أصبحا خمسة أشهر ولم ينقل شيء فقرر الأهالي إغلاق محرقة النفايات. اعتصم الشباب عند المحرقة لأكثر من خمسين يوما دعمهم فيها الأهالي بـ (الحُصر) والطعام وحتى السجائر، ليبقى الوضع على ما هو عليه من تعليق العمل بمحرق النفايات حتى الآن وانتظار تفعيل حقيقي لمحرق النفايات الطبية في منطقة العلاقي.


قرية جزيرة سهيل

تبدو الطرق الممهدة (المسفلتة) بطريقة غير جيدة مزعجة عند السير عليها؛ فما بالك بالطرق الترابية غير الممهدة من الأساس؟!

كانت من أهم المشاريع في جزيرة سهيل رصف طريق دائري يحيط بالجزيرة ويربطها ببعضها و(معدية) لمرور السيارت من وإلى الجزيرة. لكن هذه المرة لم يكن المشروع بتمويل الأهالي بل بتمويل من البنك الدولي عن طريق الصندوق الاجتماعي لكن هذا التمويل لا يجب أن يقلل من جهد الأهالي في هذا المشروع لأن مجرد وصول المنحة لمستحقيها ومتابعة المشروع إلى إتمام تنفيذه يعد نضالا حقيقيا! لأن المشروع من تنفيذ الصندوق الاجتماعي. من المشاريع الأخرى التي قام بها أهالي الجزيرة إنشاء مضيفة لاستقبال الزوار من خارج القرية وذلك بتكلفة ستة وعشرين ألف جنيه، وبالجهود الذاتية.

يحكي لي الحاج محمد سيد عن أمنية والده رحمه الله بإدخال صندوق انتخابي للجزيرة تسهيلا على الناخبين من أهل الجزيرة! يحكي لي بفخر كيف أنه نجح في ذلك بمساعدة أحد المحامين وأنه يشعر بالرضا لتحقيق أمنية والده التي لم يستطع أن يحققها قبل وفاته.

ومن الجزيرة إلى القاهرة.

قام الأهالي بشراء سكن خاص بهم في القاهرة يستخدمه المرضى الذين يسافرون للعلاج في القاهرة وليس لهم سكن. للمفارقة فإن جزيرة سهيل لم تسجل تجربة غير ناجحة إلا وكان السبب وراء ذلك هو الحكومة المصرية غالبا!

عمل أهل الجزيرة على إعداد مشروعين أحدهما يحل مشكلة الصرف في الجزيرة -والذي يُصرف في النيل مباشرة!- عن طريق تقنية الغاز الحيوي. والمشروع الثاني هو إنشاء محجر للجرانيت أحد أهم موارد الجزيرة. تدخلت وزارة البيئة معترضة على المشروعين بدعوى الحفاظ على البيئة؛ فمشروع الغاز الحيوي سيُموَّل عن طريق بيع شجر السنط وكأن مياه النيل ليست من البيئة!


لماذا نجحت هذه التجارب؟

نجحت تجارب الأهالي من هذه القرى وغيرها لأسباب من أهمها:

التنظيم والمتابعة

على الرغم من الانطباع المسبق فهذه القرى على قدر كبير من التنظيم فهناك مجموعة لرفع الشكاوى إلى المسؤولين وعقد الاجتماعات معهم وأخرى لمتابعة سير الأعمال وأخرى لها مهمة التصعيد إذا لزم الأمر وأهم هذه المجموعات هي أصحاب النفوذ والقوة من أهل القرية

شدة الانتماء العشائري

يحدثنى أحد أبناء الجعافرة عن مرشح الإخوان من عشيرته في انتخابات مجلس الشعب 2011-2012 وكيف أن كل العشيرة تكاتفت لإنجاحه وهو ما كان، ثم تخلو عنه ببساطة بعد 30/6 معللًا ذلك بأنهم لم يدعموه لأنه من الإخوان بل دعموه لأنه منهم، أبناء العشيرة من الرافضين لنهج الإخوان بل حتى الفلول منهم وقفوا بجانبه عندما مثّل مصالحهم. يعتبر المجتمع المدني هو الحيِّز الذي تذاب فيه الانتماءات الدينية والقبلية و… لكن الوضع ليس كذلك في الصعيد فالانتماء العشائري له سيطرة على مساحات -يمكن أن توصف بالواسعة- من المجتمع المدني.

اتحاد الطلبة

يفترض في اتحادات الطلبة أن تكون شديدة المدنية -لاحكومية ولا دينية ولا عشائرية- لكن وبحسب أحمد عبدالشكور -نائب رئيس اتحاد طلاب كلية الهندسة جامعة أسوان- فقد سيطر على عملية الانتخابات في بعض الكليات الانتماء العشائري، فإن الطلاب من الأصول القناوية في كلية الحقوق جامعة أسوان قاموا بدعم صديقهم القناوي بطريقة مقصودة لا لشيء إلا لأنه قناوي فهو يمثلهم. وكذلك الحال بالنسبة للطلبة من أبناء مركز إدفو، محافظة أسوان، في كلية الطب.

شركاء النجاح

قرية بالنة الصعيد
يعتبر المجتمع المدني -في أفضل أحواله- شريكا في النجاح؛ لكنه ليس بأي حال بديلا عن المجتمع الأهلي الخدمي في الصعيد.

أيضًا من أهم شركاء النجاح الجهات الدولية المانحة ويعتبر مكتب التعاون الدولي بالسفارة السويسرية من أهم هذه الجهات في محافظة أسوان. ومن المشاريع التي يمولها المكتب برنامج المياه و مشروع خلق فرص العمل ويساهم في تنفيذ المشاريع جهات محلية ولا يتعامل المكتب بتاتا مع الصندوق الاجتماعي.

في كل محافظة من محافظات الصعيد، الكثير والكثير من هذه التجارب الجديرة بالنشر والدراسة لأنها ذات دلالات مهمة تساعد في فهم أفضل للصعيد.