لا يمكن فهم نشأة حزب الله في لبنان إلا من خلال فهم سياق كامل من علاقات التواصل والانقطاع المتفرقة بين الماضي والحاضر في المجتمع الشيعي، فكما شرح الكاتب اللبناني وضاح شرارة في كتابه «دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلامياً»، وُلد تنظيم «حزب الله» من أحشاء مجتمع مزقته الحرب الأهلية، وقد حرص الحزب لذلك على تكريس النظام السياسي الطائفي في لبنان عبر تحويله جزءًا كبيرًا من مجتمع الجنوب إلى مجتمع مغلق نقيض لباقي المجتمع اللبناني بمختلف طوائفه، خلال مسيرته التي توجت بتحول الحزب نفسه بنهاية المطاف إلى دولة داخل الدولة.

في مقدمة العوامل التي أدت إلى نشأة الحزب كان بالطبع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، واستيلائها على السلطة هناك، ومحاولة قادتها تصدير الثورة في المشرق العربي من خلال دعمهم للنشاط الدعوي والسياسي الشيعي، وتقديم المال والسلاح والتدريب للمجموعات الشيعية، لا سيما بعد نشوب الحرب العراقية – الإيرانية التي تزامنت مع الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في عام 1982، وأعقبتها نشأة المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني المحتل. في هذا السياق، أدّت دعوة آية الله الخميني المتمحورة حول فكرة «ولاية الفقيه» إلى تقديم علماء الدين الشيعة القيادة السياسية والاجتماعية والثقافية على غيرهم في قيادة المجتمعات الشيعية.

عامل آخر لا يقل أهمية كان هو الوضع المضطرب في لبنان والمنطقة، جراء الحرب الأهلية اللبنانية والصراع العربي الإسرائيلي، والحرب العراقية – الإيرانية، فضلًا عن انعكاسات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على الأوضاع في الشرق الأوسط، وتأثيرات الحرب الأهلية اللبنانية علي شتى فئات المجتمع اللبناني، نتيجة لانهيار الجهاز العسكري والأمني والتعليمي، والهجرات القسرية، وانتشار البطالة، وتشكل روابط اجتماعية جديدة من شراذم المهجرين ذات طابع مذهبي.

لعب تصدع حركة «أمل» التي أسسها موسى الصدر بسبب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان كذلك دورًا مهمًا في انقطاع فئة عمرية كاملة من الشيعة المولودين بعد عام 1960 عن التقاليد الاجتماعية اللبنانية التاريخية القائمة على العيش المشترك، بسبب الحرب الأهلية وحوادثها البارزة وما نجم عنها من هجرات وتشريد، وما رافقها من اشتباكات وعداء حاد بين مختلف الطوائف.

أتى ذلك في إثر تراجع المرجعية الشيعية اللبنانية منذ عام 1920، في مقابل صعود المرجعية في العراق وإيران، وترك الكثير من أبناء الأسر اللبنانية الشيعية في الجنوب طلب العلم الشرعي وفق المذهب الإمامي منذ عقود، والتحاق العلماء المحليين بمراجع يقيمون في العراق، واستغلال الإيرانيين أزمة السلك الديني تلك في لبنان، واختراقهم للمجتمع الشيعي هناك من هذا الباب عبر الدعم المالي والاجتماعي؛ الأمر الذي أدى إلى قلب الأوضاع السابقة ظهرًا على عقب، حيث ارتفع لاحقًا عدد علماء الدين الشيعة بصورة كبيرة، وارتفعت مكانتهم الاجتماعية، وتكونت في هذا السياق طبقة جديدة من رجال الدين الشيعة الأثرياء المرتبطين بالحوزة في إيران.

مجتمع «حزب الله» النقيض

أضفى تراث المظلومية الشيعي التاريخي على مشروع الثورة الإسلامية الذي انتقل إلى لبنان، المتأثر بأفكار حزب الدعوة العراقي وآية الله محمد باقر الصدر، من خلال مخزون هائل من الرموز والصور والطقوس، طابعًا دينيًا موصولًا بالماضي على خطاب ومشروع «حزب الله» المرتبط بالولي الفقيه في طهران نائب إمام الزمان وواسطته. في هذا السياق تشكلت صحوة دينية يهيمن عليها نمط تدين جديد في الأوساط الشيعية، يغلب عليه الطابع العرفاني الذي يتوسل بالرؤى والمنامات والإشارات، التي تتحرك بين عالمي الغيب والشهادة بحسب شرارة.

في المركز من كل هذا يقبع الإمام أو الولي الفقيه أو المرشد الأعلى، الذي لا يختص هنا فقط بشئون الدين والعالم الغيبي، بل يتحكم كذلك في الأجهزة البيروقراطية والأمنية، ويقود الجيوش والمقاتلين؛ هنا انعكست تلك البنية على مشروع «حزب الله»، نواة الأمة الجديدة والمجتمع النقيض، الذي تولت الثورة الإسلامية إنشاءه في المجتمع الشيعي في جنوب لبنان، عبر بنائها تنظيمًا إداريًا حديديًا ذا طابع لينيني أو ستاليني يختفي خلف الشعار الشيعي الديني.

أدت زيادة عدد رجال الدين الشيعة الدارسين في الحوزة الإيرانية أو المتأثرين بها، إلى إعداد قاعدة جماهيرية وتنظيمية شيعية كبيرة مرتبطة بالقيادة المركزية في طهران، من خلال اعتماد تلك القاعدة على إيران في أمور المعتقد والمعاش اليومي.

في هذا السياق اقتسمت المساجد والحسينيات في الجنوب اللبناني سواء في الريف أو المدن، دور الوجهاء والأعيان ومجالسهم ودور المدارس الرسمية والخاصة ودو النوادي والبلديات والمقاهي، وسحبت بالتدريج من دور الإدارة العامة في التعليم والقضاء والأشغال العامة والتوظيف والضمان الاجتماعي، ولمع اسم رجال الدين مثل موسى الصدر وغيره في مقابل تراجع العائلات والشخصيات السياسية الشيعية التقليدية.

كرس هذا الواقع الجديد في المجتمع الشيعي الجنوبي في لبنان من الحالة الطائفية، وساعد على تقطيع أواصر الاجتماع اللبناني التاريخي المشترك، الأمر الذي أدى إلى خلق جروح اجتماعية وسكانية غائرة، ما لبثت أن حولتها الحرب الأهلية إلى بتر كامل في جسد المجتمع اللبناني، من خلال التشريد والهجرة القسرية على أسس طائفية، وبناء التضامن والتعاون بين السكان والأقارب والجيران المهجرين في أحيائهم وبلداتهم الجديدة على أسس مذهبية بحتة.

خدم هذا الواقع الاجتماعي الجديد محطات إعلامية وصحفًا ومجلات وإذاعات تعتمد على الطائفية في التعبئة السياسية والاجتماعية والدينية، مثل محطة «المنار» وإذاعات صوت المستضعفين وصوت الإيمان وصوت الإسلام التي خلفها كلها إذاعة «النور» بعد عام 1991، وصحف ونشرات مثل «المجاهد» و«أهل الثغور» و «العهد» و«المنطلق»،هذا فضلًا عن الصحافة الإيرانية المباشرة الموجهة بالعربية مثل صحيفة «كيهان العربي» و«سروش- للعالم العربي» و«الوحدة الإسلامية».

حرب يوليو/تموز عام 2006

في الطبعة الرابعة من كتابه «دولة حزب الله»، يقدم وضاح شرارة فصلًا جديدًا كاملًا عن حرب يوليو/تموز 2006، يتناول فيه فكرة رئيسية مفادها أنه رغم التمايز بين دولة «حزب الله» في جنوب لبنان والدولة اللبنانية بشكل عام، واستقلال قيادة الحزب بقرار الحرب والسلم بعيدًا عن القيادة السياسية الطبيعية في لبنان في الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية، إلا أن لبنان كله دفع ثمن تلك الحرب.

يقول شرارة في هذا السياق: إنه رغم اتصال «حزب الله» بالدولة اللبنانية عن طريق جمهوره المباح للقصف والنزوح والعدوان الإسرائيلي، ورغم دعوته للدولة والحكومة من خلال مسئوليتها الوطنية والسياسية لحماية جمهوره بواسطة العلاقات الدولية والحق الإنساني، فإنه يتحصن من القانون الدولي بسرية جيشه ودبلوماسيته الخاصة والمستترة. التي تعبر عن حقيقة كونه دولة داخل الدولة أو ربما حتى فوق الدولة.

يقول شرارة في هذا الفصل أيضًا: إن إمكانيات «حزب الله» العسكرية تفوق طاقة حركة سياسية عادية، بل تفوق طاقة شيعة لبنان جميعهم في ما تحتاجه من موارد للإنفاق على التسليح والتدريب والتمويل. ثم يستعرض السياق الذي نشأت فيه قوة الحزب وصيرورتها على هذه الشاكلة غير التقليدية.

حيث يبدأ هذا السياق من الوصاية السورية على لبنان في عام 1976، وتقويض السياسة السورية في الداخل اللبناني لموازين علاقات الجماعات المذهبية بعضها البعض، الأمر الذي أدى إلى استيلاء تنظيم «حزب الله» المسلح على الشيعة، وتوحيدهم في هوية وكتلة سياسية جديدة، وإخراج الكتلة الشيعية من الاجتماع السياسي اللبناني المشترك بين باقي الطوائف، وصولاً للحظة الصدام السياسي عشية مقتل الحريري، بين حزب الله وقطاع سياسي وطائفي عريض في لبنان.

هنا تحول «حزب الله» في لبنان بعد إخراج الوجود السوري من لبنان، إلى رأس حربة في المواجهة مع إسرائيل، كجزء من السياسة الإيرانية الإقليمية، وإحدى أدوات سياستها الخارجية، وتحول إِلى وريث للقبضة الأمنية السورية، بعد انسحاب الجيش السوري وجهازه الأمني واستخباراته من لبنان.