في مدينة ما، يوجد فرد ذو تعليم متوسط لا يملك فرصة النفاذ إلى جامعة مرموقة، يعمل بوظيفة بسيطة، ويحصل على أجر يكفي قوته بالكاد، ويحيى في حي فقير.

وعلى مسافة قريبة منه، في أحد الأحياء الثرية بالمدينة، يوجد فرد آخر حاصل على شهادة عليا من جامعة مرموقة، ويشغل وظيفة ذات أجر وفير، ويملك مقدرة اقتصادية عالية للنفاذ إلى كافة وسائل الرفاهية.

ذلك الفرق بين الفردين هو ما يسمى «اللا مساواة في الاقتصاد»، وهي التي تنطوي على عدة أوجه للا مساواة. حيث نجد في هذا المثال لا مساواة في الدخل، ولا مساواة في الثروة، لا مساواة في الفرص، لا مساواة في التعليم، لا مساواة في الخدمات.

تلك الظاهرة (اللامساواة) تعكس السياسة العامة غير العادلة أو الضعيفة التي تحكم المدينة. هل تتخيل ما الخطر الكامن وراء تلك الظاهرة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؟


ما هو مفهوم اللامساواة؟

إن مفهوم اللامساواة متصل بنظريات العدالة الاجتماعية، وهو يشير إلى التوزيع غير المتكافئ للدخول والفرص والثروات بين أفراد المجتمع الواحد. فعلى سبيل المثال يحصل 10% من السكان على 30% من الدخل القومي، ويحصل 50% من السكان على 12% من الدخل. في حين أن الأمثلية تعني أن تحصل كل نسبة من السكان على نسبة متقاربة من الدخل، فيحصل الـ 10% على 10% أو 12% من الدخل، بينما يحصل 50% من السكان على 50% أو 60% من الدخل.

وتتنوع أوجه اللامساواة الاقتصادية لتشمل ما يلي:

1. اللامساواة في الدخل

يشير الدخل إلى كل ما يتلاقاه الفرد بشكل دوري؛ فيشمل الأجور والمعاشات والفوائد المصرفية والعوائد على الأسهم والإيجارات، وتعني اللا مساواة في الدخل التوزيع غير المتساوي للدخول بين أفراد مجتمع واحد.

2. اللامساوة في الدفع/الأجور:

تحدث اللا مساواة في الأجور المدفوعة عندما يتلقى العاملون أجورًا متفاوتة نظير نفس الوظائف، وقد تختلف الأجور من دولة إلى أخرى لقاء نفس الوظيفة، أو تختلف على أساس النوع ذكر أو أنثى.

3. اللامساواة في الثروة

تشير الثروة إلى المبلغ الإجمالي لأصول فرد أو أسرة، وقد يشمل ذلك الأصول المالية؛ مثل السندات والأسهم وحقوق الملكية وحقوق التقاعد الخاصة. لذا فإن عدم المساواة في الثروة يشير إلى التوزيع غير المتساوي للأصول في مجموعة من الناس.

4. اللامساواة في الفرص

تقود اللا مساواة في الحصول على الفرص إلى الأنواع الأخرى من اللا مساواة، فعلى سبيل المثال عندما لا يحصل الأفراد على فرص تعليمية ذات مستوى واحد عالٍ من الجودة، فإنهم لن يحصلوا على فرص متساوية في النفاذ إلى سوق العمل، أو تمويل أعمالهم، مما يُنتِج لا مساواة في الدخول.


كيف تتولد اللامساواة في الاقتصاد؟

تتولد اللا مساواة في الدخل والثورة والفرص من عدة عوامل تتصل بالأفراد أنفسهم، والمؤسسات التي يعملون بها، وتنظيم سوق العمل نفسه، وبالدولة.

1. تفاوت رأس المال البشري

تختلف الأجور التي يحصل عليها الأفراد، أو الثروات التي يكوّنونها باختلاف حجم الاستثمار البشري المقدم لهم، وعليه فإن للتعليم دوره في توسيع نظام العمل المأجور وإعادة إنتاجه.

على سبيل المثال، فإن مستوى الشهادة التعليمية والجهة المانحة لها يحدد نطاق الأجر الذي سيحصل عليه الفرد، وهكذا يلعب التعليم دوره في تضييق الفوارق بين الطبقات إذا ما تساوى مقدار وجودة التعليم المقدمين للأفراد داخل المجتمع واحد.

2. اختلالات سوق العمل

ثمة مستجدات داخل سوق العمل نفسه تؤثر على تفاوت أجور العاملين؛ أولها مستوى تكنولوجيا الإنتاج. فمع التقدم التكنولوجي تصاعد اتجاه استبدال العمال بالأجهزة والمعدات، فأدت التقنيات الجديدة إلى تخفيض الطلب على العمالة ذات المهارة المتوسطة، وارتفاع الطلب على العمالة ذات المهارة العالية، لتتقلص في المحصلة الوظائف المتاحة لمتوسطي المهارة، وينضموا إلى صفوف العاطلين أو عليهم أن يقبلوا بأجور متدنية.

في السياق نفسه، ظهر نمط «تدويل الإنتاج»، فمع اتساع وتطور سياسات التحرير التجاري، والذي يشير إلى تقسيم دولي للعمل، بحيث تتخصص دولة ما في إنتاج قطاع اقتصادي معين أو صناعة معينة دون غيرها، وبالتالي فإنها تخلق وظائف بعينها –يتطلبها هذا القطاع أو تلك الصناعة- فتستقطب العاملين بتلك الوظائف من الدول الأخرى.

وبموجب التقسيم الدولي للعمل تحتفظ الشركات في البلدان المتقدمة بالأنشطة ذات المهارات العالية مع عدد قليل من الموظفين ذوي الأجور المرتفعة، بينما تقلل من الوظائف والأجور للعمال ذوي المهارات المتوسطة والمنخفضة، والذين من المرجح أن يتم نقل وظائفهم إلى البلدان النامية ذات الأجور المنخفضة.

النتيجة في هذه البلدان الغنية هي زيادة في عدم المساواة في الأجور، واستقطاب أعمق للوظائف والمهارات. ومن ناحية أخرى، فإن نمط تدويل الإنتاج ساهم في تعميق اللا مساواة بين الدول الغنية والدول الفقيرة.

3. تراجع المؤسسية

كلما ارتفعت كفاءة التنظيم داخل المؤسسات، كلما حصل العاملون على أجور عادلة. فحين تكون منشأة العمل فاسدة، تُدار وتُحدد فيها الأجور عن طريق الأفراد لا القوانين، قد نجد تفاوتًا غير مُبرر في الأجور بين العمال، بناءً فقط على هوى صاحب العمل.

ناهيك عن أن إضعاف التنظيمات العمالية يقلل من قدرتهم على المساومة أو المفاوضة مع أصحاب الأعمال، مما يعمق من فرص تنامي اللا مساواة.

4. تراجع دور الدولة

إمعان الدولة في رفع يدها عن الاقتصاد أدى إلى تراجع دورها كمدير لعملية توزيع الدخل بين الأرباح والأجور، وإعزازه إلى السوق الحر؛ ما أفضى في المحصلة إلى تفضيل أنماط إنتاجية -يفضلها السوق الحر وأصحاب رأس المال- تعزز من اللا مساواة بين الأفراد. كما أن تراجع نصيب الدولة من الثروة أدى إلى تراجع قدرتها الإنفاقية على علاج اللا مساواة.

ففي القطاع الخاص يتراجع مستوى الأمان الوظيفي للعمال، كما يتراجع حجم العمالة المستخدمة مقارنة بالقطاع العام.


ما هي خسائر اللامساواة؟

إن اللا مساواة تولد تهديدات وخسائر مباشرة وغير مباشرة للاقتصاد. يأتي على رأسها هجرة العقول ورأس المال البشري من الدولة التي تعاني من اللا مساواة، مما يتسبب في خسائر اقتصادية توازي حجم ما كان في استطاعة هذه العقول إنتاجه.

كما أن اللامساواة قد تنتج أعمال عنف وتخريب نتيجة الغضب والحرمان، ما يقود إلى خسائر في الممتلكات والأصول والموارد البشرية داخل الاقتصاد.

غير أن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة استطاع في بداية القرن الـ 21 توليد مقياس جامع للخسائر التي تسببها اللا مساواة، وهو الفرق بين مؤشر التنمية ومؤشر التنمية المعدل.

فيصدر البرنامج مؤشرين الأول هو مؤشر التنمية HDI والذي يقيس مقدار التقدم المحزر في التنمية داخل دولة ما من خلال محاور الصحة والتعليم والدخل، ثم يصدر مؤشر التنمية المعدل IHDI وهو يساوي مقدار التنمية أو مؤشر التنمية مطروحًا منه اللا مساواة. بذلك تكون اللا مساواة هي الفرق بين المؤشرين وتمثل مقدار الخسارة في التنمية البشرية.

على سبيل المثال، يُقدر مؤشر التنمية البشرية للدول العربية مجتمعة في العام 2017 بـ 0.699، بينما يقدر مؤشر التنمية المعدل بـ 0.523، وبذلك تكون خسارة التنمية العائدة إلى اللا مساواة حوالي 25%؛ أي أن 25% من جهود التنمية في الوطن العربية لا تؤتي ثمارها ولا تذهب لمستحقيها بسبب اللا مساواة.


ما هي أوضاع اللامساواة في العالم؟

أشار التقرير الأخير لمنظمة مختبر اللامساواة العالمية (والذي يُعنى بتحليل بيانات الدخل والثروة لدول العالم بهدف إنتاج تقرير مفصل عن أوضاع اللا مساواة في العالم) إلى تنامي اللا مساواة دوليًا خلال العقد الأخير، مضيفًا أن المؤسسات والسياسات العامة تلعب دورًا أساسيًا في تنامي اللا مساواة.

ففي العام 2016، حصل العشير الأعلى (أي أغنى 10% من السكان) على 37% من الدخل القومي في أوروبا، و41% منه في الصين، و46% منه في روسيا، و47% من الدخل القومي في الولايات المتحدة وكندا، و55% منه في جنوب أفريقيا والبرازيل والهند، و61% منه في الشرق الأوسط؛ وعليه فإن إقليم الشرق الأوسط هو الأعلى في اللا مساواة على مستوى العالم.

وبالنظر إلى أوضاع اللا مساواة في العالم في الفترة من 1980 إلى 2016، نجد أن هناك تناميًا في مؤشر اللا مساواة في كل أقاليم العالم، وإن اختلفت حدة هذا التنامي.

حيث ارتفع نصيب أغنى 1% من سكان العالم، من 16% من الدخل القومي عام 1980، إلى 22% عام 2000، ثم انخفض إلى 20% عام 2016. بينما ارتفع نصيب أفقر 50% من سكان العالم من 7% من الدخل عام 1980 إلى 9% عام 2016.

ولبيان مدى قدرة السياسات العامة على ضبط مستويات اللا مساواة، دعونا نتأمل هذه المستويات بشكل مقارن بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. ففي عام 1980 كان نصيب شريحة الـ 1% الأغنى من السكان في كلا المنطقتين يصل إلى 10% من الدخل، ولكن في عام 2016 وصلت هذه النسبة في أوروبا إلى 12%، بينما قفزت إلى 20% في الولايات المتحدة. وفي الولايات المتحدة تراجع نصيب شريحة الـ 50% الأفقر من 20% عام 1980 إلى 13% عام 2016.

تعزى هذه الفروقات إلى السياسات العامة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية أدت اللا مساواة في الحصول على التعليم، وتراجع درجة تصاعدية الضرائب إلى ارتفاع اللا مساواة. على الجانب الآخر ارتفعت اللا مساواة بمعدل أقل في أوروبا نتيجة انحياز سياسات التعليم والأجور إلى الطبقات الوسطى والفقيرة بقدرٍ معقول.


كيف نواجه اللامساواة؟

أما وقد وضح أن السياسات المتبعة خلال العقود الأخيرة قد أدت إلى تنامي اللا مساواة عالميًا، حتى في ظل ارتفاع حجم الناتج الإجمالي، فإن ذلك يدعو إلى حتمية تغيير تلك السياسات.

ويبدو أن نقطة البدء الأفضل والأكثر فاعلية دائمًا هي تفعيل دور الدولة، من حيث تبنيها لسياسات أكثر انحيازًا للطبقات الفقيرة والمتوسطة، من خلال سياسة ضريبية تصاعدية عادلة، وسياسة إنفاق عام عادلة تشمل دعم الطبقات المتوسطة والفقيرة على توفير القدر المناسب من الاحتياجات المعيشية، وتوليد الوظائف من خلال تحسين قدرات القطاع العام.

كذلك يجب أن تحرص الدولة على ضمانة توفير فرص متساوية في التعليم لكل أفراد المجتمع، فالتعليم خدمة عامة ليست محل للمتاجرة، وعلى الدولة أن تضمن ذلك من خلال إرساء قواعد تنظيمية تحد من قدرة القطاع الخاص على جني أرباح خرافية من التعليم، وعلى الدولة نفسها أن تقدم مستوى تعليميًا مستوفيًا للمعايير الدولية وبأسعار زهيدة أو مجانية.

ومن الضروري أيضًا الإشارة إلى أن هناك موروثات من اللا مساواة تنتقل من جيل لجيل بناء على اختلاف الإقليم الجغرافي والجنس والدين، وهو ما يقودنا إلى أن معالجة التهميش الذي تتعرض له فئات معينة داخل الدولة سيكون لبنة أولية لمعالجة اللا مساواة في الدخول والفرص والثروة.

ويبقى القول إن محاربة اللا مساواة تتطلب بيئة مرنة من الحريات العامة، ومستوى عاليًا من الشفافية، ومؤسسات رقابية شعبية ورسمية لا تخاف ولا تفسد.