منذ أعوام، لا تكاد مراكز الطقس العالمي تتوقف عن التحذير من اضطراب المناخ، وارتفاع درجات الحرارة، بسبب ما يُسمى بـ«ظاهرة الاحتباس الحراري»؛ وهي ظاهرة نشأت في الأصل من جور الإنسان على الطبيعة؛ برًا وبحرًا، وعدم تقيّد الأقطاب العالمية الكبرى باتفاقية بيئية ذات معايير متفق عليها للحفاظ على البيئة.

سبب ذلك؛ هو الخشية من كبح جماح صناعاتهم، واقتصادياتهم القائمة على استنزاف الطاقة والمادة بكل أشكالها، وهي خشية في الأصل على منظومة الرأسمالية الاستهلاكية، فلم تتقيد دول عظمى مثل الولايات المتحدة بأي اتفاقية منذ كيوتو وإلى كوبنهاجن وما بعدها!.

ومثل هذا الموضوع يطرح تساؤلًا مهمًا: كيف نظر المسلمون إلى الطبيعة؟ وكيف تعاملوا مع الموارد البيئية في تاريخهم الطويل باعتبارهم حضارة راقية سادت العالم لمدة قرون عديدة؟

وللإجابة على هذا السؤال؛ يجب الغوص في مصادر التاريخ الإسلامي منذ العصر النبوي لنرى أن الإسلام وحضارته أسّسا قيمًا وأخلاقًا في التعامل مع البيئة والكون المحيط، لم تهتدِ إليها أرقى الدول والحضارات إلى اليوم، وهو ما سنقف معه في هذه السلسلة من المقالات التالية!.


الطبيعة والإسلام

إن الإسلام لم ينظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة على أنها علاقة صراع وتضاد، بل جعلها علاقة تكامل، لأن الكون والحياة هي من خلق الله تعالى مثل الإنسان. سخّر الله سبحانه الكون لصالح الإنسان، وأناط بالإنسان عمارة الأرض، قال تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. [سورة إبراهيم 32-33]

وقال تعالى في موضعٍ آخر:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. [سورة البقرة 30].

وعمارة الأرض تقتضي الحفاظ عليها، وعدم الإفساد فيها لا ماديًا ولا معنويًا، قال تعالى:

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. [الأعراف 56].

هذه النصوص القرآنية وأمثالها تكفي وحدها لبيان نظرة الإسلام إلى الطبيعة والبيئة، وتدل على ضرورة الحفاظ على البيئة وحرمة الإخلال بتوازنها تجعل المسلم يحرص كل الحرص على عمارة الأرض، وحسن القيام عليها، وعلى مصالحه فيها.

غير أنه وردت نصوص شرعية كثيرة في القرآن والسنة تتعلق بتفاصيل الحفاظ على البيئة. كما تدل على أن الإسلام لم يكتفِ بالخطوط العريضة في ذلك؛ بل تعداها إلى التفاصيل. حيث يحُول بين الناس وإفساد البيئة وتلويثها، ولا يترك تقدير تعامل المسلم مع الطبيعة لأهوائه الفردية يتصرف حسب مصالحه دون مراعاة لها ولحياة الناس فيها، ونحن نذكر طرفًا من الأحاديث النبوية كأمثلة على غيرها[1].

– ففي التعامل مع الماء:

ما جاء من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» (البخاري ومسلم). وما رواه معاذ بن جبل (رضي الله عنه) عن النبي ﷺ أنه قال: اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» (أبو داود وابن ماجه).

وما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه): «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» (ابن ماجه).

– وفي أمر الزرع والنبات:

قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (البخاري). وقال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» (أبو داود وأحمد). وقال ﷺ: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» (أحمد). وكان النبي ﷺ يوصي أصحابه حينما يبعثهم للجاهد فيقول: «انطلقوا باسم الله، وفيه: ولا تعقرن شجرة إلا شجرة يمنعكم قتالًا، أو يحجز بينكم وبين المشركين» البيهقي.

– وفي أمر الحيوان والطير:

وما جاء عن «ابن عمر» (رضي الله عنهما) أن رسول الله ﷺ قال: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (البخاري).

وما جاء عن «أنس» قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ». (مسلم)، ومعنى تُصْبر: تُوثَقُ ثُمَّ تُقْتَلُ رَمْيًا وضَرْبًا.

وقال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا».

فهذا غيض من فيض النصوص الشرعية المتعلقة بالبيئة، وهي تظهر في مشهد فريد مدى اهتمام الإسلام بالطبيعة وتري أن الله خلق الطبيعة وسخرها للإنسان وجعله حارسًا لها يستمتع بها لا مدمرًا لها[2].


عصر الأمويين الأخضر

سار صحابة النبي ﷺ على دربِهِ في العصر الراشدي، أما بداية النظر إلى البيئة كمنظومة متكاملة تخدم دولة مترامية الأطراف، فقد تجلى منذ عصر الدولة الأموية وما تلاها، وهي دولة لم تناهز قرنًا من الزمان (من عام 40 هـ حتى عام 132هـ).

اهتم «معاوية بن أبي سفيان» بالاستثمار والنماء حيث أمر باستصلاح الأراضي البور وبتجفيف المستنقعات كالتي كانت بين البصرة والكوفة في جنوب العراق

ومنذ تولي «معاوية بن أبي سفيان» (رضي الله عنه) لمقاليد الخلافة. فقد اهتم بالاستثمار والنماء، حيث أمر باستصلاح الأراضي البور، واهتم بتجفيف المستنقعات كتلك التي كانت بين البصرة والكوفة في جنوب العراق.

وحفاظًا على الموارد المائية؛ فقد بنى «معاوية» (رضي الله عنه) السدود في جبال عسير كسدّ «عبد الله بن معاوية» قرب الطائف، وقد كتب عليه بالخط الكوفي المحفور على الحجر حتى يومنا هذا:

هذا سد «عبد الله معاوية» أمير المؤمنين. بناه «عبد الله بن إبراهيم». وكان ذلك سنة 58هـ، وقد أقيم بالحجارة وحدها، فلم يضع مهندسه، «عبد الله بن إبراهيم» مادةً من مواد البناء مثل الملاط، أو الطين وما شابه ذلك بين الحجارة لتثبيتها، وضمها بعضها إلى بعض حتى تتماسك، فتكون كأنها قطعة واحدة، ولا يزال هذا السد في حالة ممتازة يتحدث عن نفسه حتى يومنا هذا وعن قدرة المهندس الذي أقامه في هذا المكان[3].

وقد وجدنا «يزيد بن معاوية» يوسع نهيرًا نبطيًا في مدينة دمشق. فكانت سعته بعد التجديد 6 أشبار، وعرضه وعمقه 6 أشبار وله ملء جنبتيه، وما كان ذلك إلا لأجل سقاية أراض واسعة في منطقة خصبة مرتفعة في دمشق، وقد سُمي هذا النهر بعد ذلك بـ«نهر يزيد»[4].

وفي عهد «عمر بن عبد العزيز» -رحمه الله- نجده يهتم بالأراضي الخربة لتعميرها عن طريق الزراعة. هذا الأمر هو استثمار مهم لموارد البيئة، فقد كتب إلى عامله على الكوفة «عبد الحميد بن عبد الرحمن»: “أن انظر الأرضَ، ولا تحمل خرابًا عَلَى عامر، ولا عامرًا عَلَى خراب، وانظر الخراب فإن أطاقَ شيئا، فخُذ منه ما أطاق وأصلحه حَتَّى يعمر، ولا تأخذ من عامر لا يعتمل شيئًا، وما أجدب من العامر من الخراج فخذه في رفق وتسكين لأهل الأرض”[5].

وقد أمر «هشام بن عبد الملك» ولاته بتطهير المياه وإنشاء القناطر والسدود والجسور. ففي العراق وجه الوالي «خالد بن عبد الله القسري» (105 – 120هـ) جل عنايته إلى تطهير المياه واستثمارها ونمائها. فقد حفر الأنهار مثل نهر «الجامع»، وأصلح الجسور، وأقام القناطر مثل قنطرة «الكوفة»، وقنطرة «دجلة»، كما أنشأ السدود لمنع مياه دجلة من الفيضان[6].

كما اهتم الأمويون بحماية الحيوانات بكافة أنواعها. فقد أنشؤوا ما يُسمى بـ«الحير»، وهو مكان متسع جدًا ومحصن يمكن أن يستعمل في بعض الأوقات كحظيرة تتمركز فيها قوة عسكرية ضاربة، أو تلجأ إليها في حالة معينة، لكن الغالب على هذه الأحيرة أنها كانت لغرض حماية كثير من الحيوانات المعرضة للانقراض والضعيفة والجميلة.

كما أن المهندسين في العصر الأموي لم يغفلوا ما يحتاجه الحيوان من رعاية في هذا المكان. فوفروا فيه الماء والكلأ والظل والحماية، فاستطاعت الحيوانات أن تحيا في «الحير» كما كانت تعيش في البرية لكن ضمن جدران. ولا يقفُ الأمر عند قصر الحير الغربي والشرقي، بل أكثر القصور الأموية كانت تحملُ نفس التقسيمات والحدائق والأعمال المائية.

إضافة للمسجد والحمام بنيت بطريقة متشابهة، فقصر الحلابات شرقي عمان ألحق به حائر لنفس الغرض يظهر هذا من الأعمال المائية كالبركة القريبة من قاع القصر، وشرقها منطقة مليئة بالأحجار الكبيرة المتقاربة الحجم لم تكن من المنطقة بل مجلوبة إليها لأجل الحيوانات[7].

وفي فضائل «عمر بن عبد العزيز» لـ«ابن عبد الحكم» أنه كتب إلى صاحب السكك (مدير إدارة المرور والسير)، ألاّ يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل، ولا بنخسها بمقرعة في أسفلها حديدة. وكتب أيضًا، إلى عامله (واليه) بمصر:

بلغني أن بمصر إبلًا نقّالات يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يُحمل على البعير أكثر من 600 رطل. وأمر «المحتسب (الشرطي) أن يمنع تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، ولديه الصلاحية لتأديب ومعاقبة من يراه يفعل ذلك.

وذكر أحد المقربين من «عمر بن عبد العزيز»، «أبو عثمان الثقفي»: أنه كان لـ«عمر بن عبد العزيز» غلامٌ يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاء يومًا بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل ! أجمه (أي أرحه) ثلاثة أيام[8].

المراجع
  1. مجلة الوعي الإلكترونية، مقال بعنوان «مشكلة البيئة من إفرازات الرأسمالية الجشعة أسبابها وكيفية معالجتها في نظر الإسلام» –العدد 278، مارس 2010م.
  2. السابق.
  3. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 12/ 208.
  4. ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 2/ 369.
  5. أبو يوسف: الخراج ص93.
  6. البلاذري: فتوح البلدان 2/ 351.
  7. الحوليات السورية الأثرية، مقال بعنوان: حدائق الحيوان في زمن الأمويين. د. فواز طوقان.
  8. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص141.