في سياق رسمته الديكتاتورية في دول العالم الثالث، تعيش الشعوب معضلة كبيرة مع حكامها، في ظل غياب تام للوطنية في نفوس الحكام، والتخطيط الممنهج، وسيادة الضعف السياسي وسوء الحالة الاقتصادية وتدهور الحياة الاجتماعية وبلورة التعامل مع الشعوب في امتهان حريتهم والتخطيط من أجل قمعهم، مما يجعل هذه الشعوب في حاجة لنماذج حقيقية ووطنية عملت على نقل تاريخهم من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الحقيقية، وتعد تجربة خوان كارلوس ملك إسبانيا الذي عاش في طيات الظلم والمنفى خارج بلاده ليعود إليها في زي السياسي المتحضر والاقتصادي الدارس والجنرال العاقل لينقل مسيرة بلاده من الديكتاتورية في تجربتها الأولى نحو الجمهورية إلى تجربة فريدة من نوعها نحو الديمقراطية فيما يسمى بالمسيرة الخضراء.


الصراع على الجمهورية الإسبانية

خلال فترة حكم الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر، اشتعل الصراع بين مؤيدين للحكم الملكي في إسبانيا، ومناهضين له ينادون بإلغاء الملكية وإعلان الحكم الجمهوري، فعقدت الانتخابات للفصل في هذا الصراع عام 1931م، وجاء صوت الأغلبية مع الحكم الجمهوري وإلغاء الملكية، إلا أن الملك رفض الاستجابة لصوت الشعب بالتخلي عن العرش، فقام الجيش الإسباني برفع الحماية عنه، فما كان منه إلا أن يغادر إسبانيا بلا رجعة، وذلك في 14 إبريل 1931م حيث سافر إلى روما وأكمل حياته هناك إلى أن توفي عام 1941م.

لم تدم سعادة الشعب طويلا بإعلان إسبانيا جمهورية، وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فالحكم الجمهوري الذي كان حلما للإسبان، تحول فجأة إلى كابوس، حيث أحكمت الجبهة الشعبية اليسارية قبضتها على السلطة، الأمر الذي قدّم لـ فرانسيسكو فرانكو تبريرا للانقلاب العسكري والوثوب على السلطة في الثامن عشر من يوليو عام 1936م، حيث أعلن رفضه لحكم الجبهة الشعبية التي تحكم إسبانيا، وهددها بتكوين جيش ضخم من الضباط المغاربة الذين قدم لهم العديد من الإغراءات لينضموا إلى جيشه، إلا أن الجبهة الشعبية رأت أن فرانسيسكو لن يفلح أبدًا في خطته، ولن يستطيع ضم ولو عشرة ضباط إلى صفه، بحجة أنهم سيرفضون الانضمام لقوات الاستعمار.

http://gty.im/89778236

لكن خابت ظنونهم واستطاع فرانكو تكوين جيش من 50 ألف جندي مغربي بقيادة المارشال محمد مزيان الذي كان بمثابة يده اليمنى، وساعده بشكل رئيسي في جذب الضباط المغاربة وإقناعهم بالانضمام إليه.

بدأت المواجهات العسكرية بين الجبهة الشعبية التي كانت تضم الشيوعيين والاشتراكيين، والجبهة القومية بقيادة فرانسيسكو وجيشه إلى حد أن تحولت إلى حرب أهلية، انتهت بانتصار فرانسيسكو وجيشه الذي قضى على الجبهة الشعبية، وذلك بمساعدة ودعم من عمالقة الطغيان في أوروبا آنذاك؛ موسوليني وهتلر.

انتهت الحرب عام 1939م بعد صراع دام 3 سنوات، وراح ضحيتها ما يقارب 500 ألف مواطن، فضلًا عن الآلاف التي نزحت بسبب الحرب التي طالت كل شيء، فالحرب قد حولت مدينتي مدريد وبرشلونة إلى حرائق لا تنطفئ، لدرجة أنه كان يُشار إلى الحرب بأنها أولى معارك الحرب العالمية الثانية، وفي الأول من أبريل عام 1939م تم إعلان فرانسيسكو فرانكو رئيسا للجمهورية الإسبانية.

تولى فرانسيسكو حكم إسبانيا ليكتمل بذلك مثلث الطغيان في أوروبا آنذاك، ضلعاه الآخران هما هتلر وموسوليني، اللذان تأثر بهما فرانسيسكو تأثرا واضحا وملحوظا، فكان أول ما قام به بعد توليه الحكم مطاردة الشيوعيين والاشتراكيين وتصفيتهم، ما دفع الكثيرين للهرب خارج البلاد، كما أطلق هتلر على نفسه لقب «الفوهرر» أي القائد، وسمى موسوليني نفشه «الدوتشي» أي الزعيم، لقب فرانسيسكو نفسه «الكاوديو» أي زعيم الأمة.

تحولت إسبانيا خلال فترة حكمه إلى دولة بوليسية تتبع سياسات التعذيب ضد مواطنيها، تحديدا الموالين للمعسكر الشرقي. يكاد يكون الشيء الوحيد الذي لم يقلد فيه فرانسيسكو هتلر وموسيليني، هو إعلانه حياد إسبانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي مكنه من البقاء في الحكم لمدة 38 عامًا حتى موته في 1975م. ومن الجدير بالذكر أن فرانسيسكو فرانكو أعاد إسبانيا للحكم الملكي عام 1947م واستطاع أن يقضي تماما على الحماس عند الإسبان للجمهورية.

لم يكن نظام فرانسيسكو كارهًا للحرية فقط، بل كان كارها للفن والثقافة أيضا، فخلال الحرب الأهلية قامت قواته بإعدام الشاعر الإسباني «لوركا»، بتهمة أنه مؤيد للجبهة الشعبية، في مشهد تاريخي لا ينسى، وظلت هذه الجريمة تطارده حتى وفاته سنة 1975م.

http://gty.im/89538131


خوان كارلوس والمرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية

ولد خوان كارلوس ألفونسو فيكتور ماريا دي بوربون يوم 5 يناير 1938م في روما بإيطاليا وكانت عائلته آنذاك في المنفى، حيث كانت تقيم العائلة المالكة الإسبانية بعد إعلان الجمهورية الثانية في إسبانيا عام 1931م، ثم انتقل في عام 1946م للعيش في البرتغال مع والديه.

عاد خوان كارلوس من البرتغال إلى بلاده للمرة الأولى وحيدا وهو في العاشرة من عمره، ثم سافر إلى سويسرا لتلقي تعليمه الأولي، وفي 18 يناير 1955م عاد إلى بلاده حيث بدأ دراسته في الأكاديمية العسكرية الإسبانية، ومدرسة البحرية، والأكاديمية الجوية. وأنهى في العام الدراسي 1960-1961 تكوينه العلمي في جامعة كومبلوتينسي بمدريد، التي درس فيها القانون السياسي والدولي والاقتصاد والمالية العامة.

وفي يوم 22 يوليو 1969م صادق البرلمان الإسباني على أن يصير خوان كارلوس وريثًا للعرش بدلًا من والده خوان دي بوربون الذي كانت علاقاته سيئة بفرانكو. وأقسم الأمير الشاب في ذلك اليوم على رعاية وتنفيذ القوانين الأساسية للمملكة الإسبانية ومبادئ الحركة الوطنية «أي أيديولوجية فرانكو»، ولكنه مع ذلك اعتمد على الصلاحيات التي منحتها له تلك القوانين للدفع قدمًا باتجاه تغيير «النظام الدكتاتوري» وتمهيد الطريق أمام إحلال الديمقراطية محله.

http://gty.im/110133154

وبعد وفاة فرانكو يوم 20 نوفمبر 1975م، أصبح خوان كارلوس الأول ملكًا على إسبانيا وتم تنصيبه الملكية يوم 22 نوفمبر 1975م. كانت أولى خطوات الملك خوان كارلوس لتشجيع إحلال الديمقراطية في البلاد هي تأييده لقانون الإصلاح السياسي الذي وافق عليه البرلمان يوم 18 نوفمبر 1976م بأغلبية كاسحة (94%) في استفتاء شعبي، وكان العلامة الفارقة التي أعلنت بدأ ما يُعرف باسم «المرحلة الانتقالية» الإسبانية نحو الديمقراطية، وفي عهده أقِر الدستور الإسباني الذي حدد مهام وصلاحيات الملك، ومنع صاحب التاج الملكي من أي مشاركة سياسية، واعتُرف به وريثًا شرعيًا لسلالة بوربون التاريخية المالكة، وحوّل إسبانيا إلى نظام الملكية البرلمانية على الطراز الأوروبي.

سمح الملك كارلوس بحرية الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الشيوعي الإسباني، وأفرج عن المعتقلين السياسيين، وطبق سياسة لامركزية في الحكم. كما انفتح على السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي لاحقًا) للتغلب على تخلف إسبانيا الاقتصادي، وإخراجها من عزلتها السياسية، مما أدى إلى انضمامها إلى تلك السوق عام 1986م.

استمر في انتهاج سياسة سلفه فرانكو في الصداقة والتعاون مع الدول العربية، وأكمل انسحاب إسبانيا من الصحراء الغربية. كما واصل مبدئيا رفض إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لكن الأمر تبدل لاحقًا حين أعلنت مدريد رسميا في 17 يناير 1986م إقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب.

كان دور الملك خوان كارلوس الساعي إلى اندماج إسبانيا في الاتحاد الأوروبي وإقامة الديمقراطية فيها سببًا في نيله اعترافًا دوليًا واسعًا، وحصوله على عدد من الجوائز الدولية وشهادات الدكتوراه الفخرية من نحو ثلاثين جامعة إسبانية ودولية ذائعة الصيت.

وخوان كارلوس الذي اكتسب مكانة مهمة على الساحة الدولية، قام بزيارات إلى المغرب والصين والولايات المتحدة، واعتبر بمثابة «سفير فوق العادة لإسبانيا»، كما يؤكد لويس بالاثيو بانويلوس، استاذ التاريخ في جامعة ري خوان كارلوس في مدريد.


كيف تعامل كارلوس مع الانقلاب على الديمقراطية؟

كانت أكثر اللحظات خطورة في عهد الملك خوان كارلوس هي تلك التي شهدت محاولة انقلابية جرت يوم 23 فبراير 1981م، عندما استولت قوة من الحرس المدني «الدرك الإسباني» على البرلمان وعلى استوديوهات التلفزيون الإسباني في مدريد، واحتلت قوة من المنطقة العسكرية الثالثة في فالنسيا (شرق إسبانيا) شوارع المدينة بالدبابات.

ولكن الخطاب المتلفز الذي ألقاه الملك من قصره رافضًا الانقلاب على الديمقراطية قضى على أي دعم ممكن للانقلابين الذين كانوا يعتقدون أن القصر الملكي سيكون إلى جانبهم.

http://gty.im/108564408

ازدادت شعبية الملك بين مختلف قطاعات الشعب بعد مناصرته للديمقراطية، وأدى موقفه ذلك إلى ترسيخ النظام الملكي في إسبانيا، مع نقل الحياة السياسية فيها من «الدكتاتورية» إلى الحياة «الديمقراطية المستقرة».

وكان كارلوس جاهزًا لتلك اللحظة حيث يقول: «كنت أعلم أن العسكريين سينصاعون للأوامر لأنني عينت من قبل فرانكو ولأنني كنت على مقاعد الأكاديمية العسكرية ولأنني كسبت صداقة معظمهم»، وأضاف: «وخصوصا لأنني كنت القائد الأعلى للقوات المسلحة».


كيف تعامل كارلوس مع قضية المغرب؟

العلاقات بين خوان كارلوس والمغرب قديمة، وبدأت تأخذ شكلًا رسميًا وحميميًا في نهاية الستينات عندما عين الجنرال فرانسيسكو فرانكو، خوان كارلوس ليكون ملكًا على إسبانيا بعد وفاة هذا الدكتاتور. ومنذ تلك الفترة، بدأ خوان كارلوس يعزز علاقاته مع الملك الحسن الثاني، ويطوِّر العلاقة بين العائلتين الملكيتين.

http://gty.im/104408396

وحرص الجنرال فرانكو على ترك خوان كارلوس بعيدا عن المشاكل مع المغرب في لمحة من الإقصاء للأمير الشاب. وشاءت الصدف أن أول ملف يتولى خوان كارلوس معالجته بصفته المسؤول الأول عن إسبانيا، كان هو ملف الصحراء المغربية، وتلك الفترة أن كارلوس ينوب عن فرانكو حينما كان في غيبوبته.

وفي يوم 2 نوفمبر 1975م، وفي ظل توتر شديد بين المغرب وإسبانيا ومفاوضات سرية ستحدد الحرب أو السلام في الصحراء، حلّ الأمير خوان كارلوس فجأة بصفته رئيسًا مؤقتًا للبلاد ورئيسًا للأركان العسكرية بسبب غياب فرانكو المريض، ويسافر خوان كارلوس إلى مدينة العيون في الصحراء التي كانت تحت الاستعمار الإسباني.

وألقى خوان كارلوس خطابًا لرفع معنويات الجيش هناك للتصدي لأي محاولة عسكرية مغربية. تفاجأ الملك الحسن الثاني بالخطوة التي أقدم عليها الأمير وقتها ووصفها بالغباء والاستفزازية في اجتماع مع مساعديه. وقتها واجهت الملك الحسن الثاني شكوكا قوية بشأن دور غامض لخوان كارلوس في الصحراء، حتى اعتقد أن كارلوس يرغب في البحث عن شرعية عبر بوابة الصحراء بتنسيق مع الجناح المتشدد في الجيش الإسباني الذي لا يرغب في الانسحاب من الصحراء.

ولاحقا، أكدت المعطيات، أن ظنون الملك الحسن الثاني لم تكن صحيحة، حيث أن زيارة خوان كارلوس كانت مجرد إجراء لتهدئة الجيش الإسباني في وقت كانت تستعد فيه البلاد للانتقال الديمقراطي، ووُصف كارلوس في هذا المشهد بالسياسي الديمقراطي، والقائد العسكري القوي.


كارلوس ينهي مسيرته الملكية باعتذار للشعب

الملك خوان كارلوس، فاجأ البلاد في 18 أبريل 2012م حين ظهر بصحة ضعيفة أمام وسائل الإعلام في مستشفى بمدريد قبل أن يقدم اعتذاراته التاريخية قائلًا: «أنا آسف كثيرًا، لقد تعرضت للخداع وهذا الأمر لن يحصل مجددًا»، وكان ذلك ردًا على قول أنطونيو ديل مورال الخبير في شؤون الملكية الاسبانية في ربيع 2012م: «إن ميثاق الصمت الذي كان سائدًا حول الملكية لم يعد قائمًا»، وذلك لما كان في الداخل الملكي من مشاكل عائلية، وما تعرضت له البلاد من أزمة اقتصادية.

http://gty.im/450851154

وهكذا أنهى القائد مسيرته باعتذار للشعب الذي عاش لأجله سنوات عديدة وأنهى مسيرته التي سميت بالمسيرة الخضراء باعتذار لشعبه الذي أعاد الحلم له بعد فقد الجمهورية لأحلامها في عهد فرانكو، وتنحى في يوم 2 يونيو 2014م، حيث تخلى خوان كارلوس عن العرش لابنه فيليبي السادس ليصبح ملكا لإسبانيا، وهو ابنه الوحيد والثالث في الترتيب بعد شقيقتيه إيلينا وكريستينا، من الملكة صوفيا اليونانية الأصل.

المراجع
  1. Juan Carlos I of Spain
  2. 50 Truths About the Spanish King, Juan Carlos I de Borbón
  3. King Juan Carlos
  4. Spain King Juan Carlos Paternity Suit Under Investigation In Latest Royal Family Scandal
  5. King Juan Carlos of Spain: a Profile Last European King to Have Executive Power