محتوى مترجم
المصدر
Muftah
التاريخ
2016/04/06
الكاتب
Sam Hamad

كتب الناقد الشهير لإسرائيل نورمان فلنكشتاين ذات مرة أن طقس العبور لـ «مرتدِّي اليسار»، أي أولئك الذين تخلَّوا عن مبادئهم اليسارية، تمثَّل في انتقادهم نعوم تشومسكي. وكما لاحظَ فلنكشتاين، فإنَّ تشومسكي يمثل «انعكاسًا لماضيهم الفكري وحاضرهم الباهت، تذكيرًا لا يرحم بأنهم كانوا فيما مضى أصحاب مبادئ بيعَت بينما تمسك هو بها».

وفلنكشتاين محق بطريقة ما. فنعوم تشومسكي صمد سياسيا؛ ولم تُبدل مواقفَهُ السياسية، العوامل المختلفة، أو يغيرها الزمن، وإن تصادمت مواقفه مع الكثير من الآراء المغايرة. وبينما لا شكَّ عندي في أن سياسات تشومسكي نابعة من معارضة أصيلة وضرورية لسياسات الولايات المتحدة الخارجية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنَّ الركود الذي يميز أسلوبه قد تركه عاجزًا عن تقدير تعقيدات الربيع العربي ومتناقضاته على النحو الصحيح.

وركود تشومسكي إزاء الحالة السورية لأشدُّ الأمثلة وضوحًا على ذلك. وكما صرح أثناء مقابلة عقدت في معهد هارفارد للسياسات في أيلول سبتمبر سنة 2015، ومرارا في مقابلات أخرى، فإن تشومسكي يرى بأن اقتراف تدخل إنساني في سوريا رنجةٌ حمراء (الرنجة الحمراء: اسم لحيلة كان يستخدمها الفارون من العدالة لتضليل كلاب الحراسة التي تتبعهم)، فتقريبًا،«كل استخدام للقوة يُنعَت بالتدخل الإنساني». وأغلب التدخلات الإنسانية لا يمت للإنسانية بصلة، واقع الأمر «أنها تدخلات تخدم مصالح منفذيها» على حد تعبيره. من وجهة نظره، فيما يتعلق بالتدخل في سوريا، فإن الولايات المتحدة قد اقترفت ما يفوق دعم القوات التي تنتج وتُديم الحراك «الجهادي» في البلاد.

وبينما قد يَعتبِر الداعمون لوجهة نظر تشومسكي، مناصري الثورة أمثالي، «محافظين جدد» أو «مناصرين للإمبريالية»، فإنَّني أعدُّهم هم واقع الأمر أحقّ الناس بهذه النعوت.


معالم موقف تشومسكي من الوضع السوري

خلال محاضرة ألقاها في هارفارد شهرَ أيلول سبتمبر 2015، سُئل تشومسكي فيما إذا كان يعدُّ انتشار القوات الروسية في سوريا إمبرياليًا. وفي معرض رده،كرر تشومسكي زعمهُ المتلوِّن بأنَّ جُلَّ المعارضة السورية إمَّا هي جزءٌ من تنظيم داعش، أو مغايرٌ ما للقاعدة.

وكما يعرف أشد المتابعين العرضيين للشأن السوري، فإنَّ هذا الادعاء عارٍ عن الصحة. فالمؤلِّف الرئيسي لقوات الثوار في سوريا ليس «الجهاديين» بأي شكل. حتى ضمن أولئك الإسلاميين منهم، ثمة من يدعم حكومة ديمقراطية، بصيغةٍ ما، وهُم أشبه بحماس منهم بتنظيم داعش أو القاعدة.

وبدل أن يأخذ في الحسبان هذه الحقائق وسواها في الثورة السورية، دعم تشومسكي ضمنًا منطق «الحرب على الإرهاب»، في اتفاق مع من لا يرون مشكلة في التحالف مع الديكتاتوريات بهدف هزيمة الإرهاب.

في لقاء سابق مع قناة الجزيرة على سبيل المثال، سُئل تشومسكي فيما إذا كان سيدعم الولايات المتحدة إن انضمت لنظام الأسد في محاربة داعش. وفيما وصف الأسد بالـ «وحشيّ» (اعتراف سيجعل استنتاجه أسوأ)، زعم تشومسكي أنه سيكون من المستحيل «محاربة كل من داعش ونظام الأسد» بذريعة ألا صلة بينهما.

وهذا التعليق صادم على نحو الخصوص، إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ نظام الأسد قد عزز من تقدم داعش على نحو مؤثر . كما فسر دومينيك تيرني Dominic Tierny في صحيفة الأتلانتيك:

يستفيد الأسد من الاستقطاب الملازم للحرب الأهلية، بوصفها حلقةً من الفظاعات والأعمال الانتقامية التي تدفع كل الأطراف نحو الحدّ الأقصى. وقد فاقمَ النظام التطرف بصورة أكبر بتسليطه النيران على الأعداء الوسطيين، بالتزامن مع إطلاق سراح الجهاديين من السجون وشراء النفط من داعش.

سنة 2014، في ذروة توسع تنظيم داعش، كان نصيب التنظيم من هجمات النظام 6%، في الوقت الذي تركزت فيه 64% من ضربات تنظيم داعش على الثوار. وقد كان ثمة حالات لا تحصى تحالف نظام الأسد فيها مع داعش، يغطّيهم القصف الروسي، عوضَ صدّه التنظيم. من الجلي أنَّ النظام السوري الطائفي الإجرامي، والذي تدعمه إيران وميليشياتها، قد ساهم في دعم غير مسبوق لداعش. وهو ما يجعل دعم تشومسكي لتحالف مع بشار الأسد ضد داعش مثيرا للسخرية في أفضل حالاته، ومتهافتًا في أسوئها.


دوافع تشومسكي

في مقابلة أجرتها معه مجلة جاكوبين Jacobin، يوردُ تشومسكي لمحة عن الأسباب العميقة التي تدعم موقفه إزاء سوريا. ففي معرض رده على تساؤل بشأن موقفه من القصف الغربي لداعش. أشار تشومسكي إلى أنَّ «الصراعات الطائفية التي تمزق المنطقة هي جوهريا نتيجة لغزو العراق».

بالنسبة لتشومسكي، ولغيره من اليساريين أيضًا، فإنَّ مداناة الولايات المتحدة، التي يعتقدون بها، للصراع (أو الاعتقاد الباثولوجي بأن الولايات المتحدة مسؤولة عن الحرب المدمرة) قد أدت إلى تشكّل ملامحالعدوانية واللامبالاة إزاء الثورة السورية. بكلمات أخرى، لأنَّ الولايات المتحدة تناوئ نظام الأسد، يرى اليسار نفسه مضطرا إما لتجاهل الثورة أو معاداة أعداء النظام.

في حالته، فإن تشومسكي قد عبر عن تحقير أيدولوجي لقوى الثورة بدعمه إبادتها التامة. في ذات المقابلة مع مجلة جاكوبين، قال تشومسكي بأنَّ الناتج في سوريا «في حال انتصر الجهاديون المدعومون من تركيا وقطر والسعودية لن يقل سوءًا عن الناتج في حال [انتصار داعش]»ويضاهي تصريحه هذا موافقة ضمنية على الحرب التي تشنها روسيا وإيران والأسد ضد العناصر المسماة «جهادية».

إنما، كما توضح تصريحات أخرى لتشومسكي فيما يتعلق بالشأن السوري، فإنَّ المناداة بـ «تدخل امبريالي» أمرٌ يبعث على السرور، حينما يكون لصالح الجماعات المسماة يسارية. في مقابلة على قناة الجزيرة، عبر تشومسكي جهرًا عن دعمه الضربات الجوية الأمريكية نيابةً عن الأكراد. ولليساريين، أدرجَ تشومسكي «الأكراد» مرادفًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) أو فرعهم السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي يتحكم في المنطقة السورية الشمالية المعرَّفة بـروج آفا. وبينما استخدم تشومسكي الجدالات الإنسانية لتبرير تلك الضربات، فإنه صرح أيضا لمجلة جاكوبين بأن حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD) يبدو «أنه يُطوِّر، كما كنت لتفعل في هذه الظروف، مجتمعًا منصفًا عادلًا، مختلفًا عن أي شيء آخر في سوريا… وهم دون سواهم الجديرون بالدعم».

ونتاجُ تصريح تشومسكي جلي. إذ بـنحو 250.000 قتيل و13 مليون نازح بفعل قصف قوات الأسد وحلفائه، فإن «الأكراد» وحسب مَن يستحقون اهتماما خاصا. وعلى نحو مماثل، فإنَّ أي سوري عربي (أو حتى كردي يقطن في حلب الثورة) لا يستحق الدعم،أولئك القاطنون في مناطق حزب الاتحاد الديمقراطي فقط هُم مستحقوه.

غيرَ أنّ مصير السوريين القابعين في المناطق التي تقع تحت سيطرة الثوار يجب أن يلهم هؤلاء التقدميين المزعومين كأمثال تشومسكي، للتعبير بلا تردد عن التضامن معهم ودعمهم. لقد قامت في الكثير من تلك المناطق لجان تعاونية ثورية محلية ديمقراطية مقام الحكومة، ووفرت خدمات اجتماعية وعامة، وأتاحت للناس خبرتهم الأولى بحرية حقيقية للتعبير.

مما لا شك فيه، أن الثوار ليسوا مثاليين بأي شكل، إنمّا في أي منطقة يحكمونها كان قد ثبت أن أسوأ من فيهم أفضلُ من الطواغيت المتعاقبين لنظام الأسد. لهذا السبب ينزح سكّان المناطق التي يقترب منها النظام. ولهذا السبب أيضا موجات النزوح الأكبر للسكان هي من مناطق الأسد وداعش، لا من مناطق الثوار.


اليسار المحافظ

فيما مضى، كان ركود تشومسكي السياسي باعثًا على الرضى بالنسبة لي. إنما في ضوء موقفه من الثورة السورية، قد بات جليا على نحو محزن بأن سياسات تزمتية، أحادية البعد، رجعية، باتت تستشري في اليسار.

ومع أن تشومسكي وفئات عريضة من اليسار قد لا يروقهم ما سأقول، إلا أنّ الدور الذي يلعبونه في ثورة سوريا المحتدمة قد وسم اليسارية بالعار. ولا يختلف هؤلاء بذلك عن «الاشتراكيين» الذين دمروا اليسارية لأجيال بولائهم الأعمى لكابوس الستالينية.

من المحزن، أنَّ الوضعية المحافظة والاستشراقية والمربكة من سوريا، والتي عبر عنها تشومسكي وأنصاره، هي عوارض يساريةٍ لم يعد لها سبب لأن توجد في نقطة أبعد من المساحات الضيقة لثقافتها الثانوية.