نشاهد ونسمع الكثير والكثير عن التوراة، ويعتبرها البعض كتاب الألغاز، ويربطها البعض بسيدنا موسى- عليه السلام- ولكن كما أثبت الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في كتابه «اللاهوت والسياسة» أن موسى ليس مَن كتب التوراة، وأن هناك أكثر من كاتب كتبها، وأولهم والأكثر شهرة هو عزرا الكاتب، ولذلك سنجد أكثر من نسخة وترجمة للنص الأصلي للتوراة المتداولة حاليًا بين يهود العالم باختلاف طوائفهم ومعتقداتهم؛ حيث مرت التوراة بمراحل متعددة لتأخذ في النهاية شكلها الذي يطلع عليه الباحثون ويقرأه أصحاب السبت.

تأثر محررو التوراة بالشعوب المجاورة لهم، فأصبح الكتاب مليئًا بالألغاز والحكايات التاريخية والأساطير، فظهر التأثر البابلي والسومري بحكايات الخلق والتكوين، وتأثرهم بالديانة المصرية القديمة وتقديم القرابين والكهنوت، والأكثر بالديانة الكنعانية والأضحيات البشرية التي ميزتها عن غيرها من شعوب المنطقة، ومن هنا بدأ المحرر التوراتي يأخذ من كل حضارة ما يناسب فكره وأيديولوجيته، وشرع في كتابة كتابه الديني الفريد.

وهنا يجب الإشارة إلى أن العهد القديم ليس هو التوراة فقط، بل هي جزء منه، فالعهد القديم يتكوّن من 3 أجزاء: التوراة + أسفار الأنبياء (18 سفرًا) + المكتوبات (12 سفرًا).

مع العلم أن مصطلح «العهد القديم» أصلاً لقب أطلقه المسيحيون على كتاب اليهود المقدس للتفرقة بينه وبين «العهد الجديد»، أما اليهود فيُسمّونه بـ«التناخ».

نختصُّ في حديثنا هنا تحديدًا بالتركيز على التوراة بأشكالها المختلفة التي عرفناها.

التوراة السامرية     

 
Daderot / wikimedia

بحسب المعتقد السامري، فكاتب التوراة السامرية هو «ابيشع بن فينحاس بن العازار بن هارون»، ابن شقيق موسى، عليه السلام، وكُتبت بعد دخول بني إسرائيل الأراضي المقدسة بثلاث عشرة سنة، وهي مكتوبة باللغة العبرية القديمة، وبحسب اعتقادهم فهي أقدم نسخة مخطوطة للتوراة في العالم، ويعود تاريخها إلى عام 1615 قبل الميلاد.

سُمِّيت التوراة السامرية بهذا الاسم نسبة إلى طائفة السامريين الذين يؤمنون بها، وسُموا بهذا الاسم، نسبة إلى مدينة السامرة التي سكن بها مجموعة من بني إسرائيل في ذلك الوقت.

فبعد انقسام المملكة الموحدة بعد وفاة سيدنا سليمان- عليه السلام- اعتاد سكان كل مملكة تسمية سكان المملكة الأخرى تسمية جغرافية سياسية فأطلق سكان إسرائيل تسمية «يهودي» على سكان مملكة يهوذا (نسبة لتسمية المملكة)، أما سكان مملكة يهوذا فأطلقوا التسمية «سامري» على سكان مملكة إسرائيل (نسبة للسامرة عاصمة مملكة إسرائيل آنذاك).

من هنا نشأت تسمية السامريين، ونتيجة للعداء السياسي والديني بين المملكتين (يهوذا والسامرة) فقد اعتبرت كل مملكة نفسها مُعبِّرة عن أصل الدين وأن المملكة الأخرى وسكانها وثنيون، والتصقت تلك التسمية بهم حتى يومنا هذا.

أوجه اختلاف التوراة السامرية

لا توجد نسخ متداولة للتوراة السامرية بين غير اليهود السامريين يمكننا أن نطلع عليها، لنفند الاختلافات بينها وبين التوراة العبرية بدقة.

وعلى الرغم من أن كلتا النسختين من التوراة السامرية أو العبرية تتفقان في عدد الأسفار المكوِّنة لها، وهي: التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية، بإضافة السفر السادس يشوع بن نون، إلا أن كلتا التوراتين تختلفان في عددٍ من التفاصيل المميزة التي استطاع الباحثون الوصول إليها من خلال الأحاديث التي أجروها مع أعضاء الطائفة، استنتجوا منها:

أولًا: لا تعترف التوراة السامرية بنبوة أي نبي غير موسى، عليه السلام.

ثانيًا: تتكوّن التوراة السامرية من 5 أسفار، وهي نفس الأسفار الموجودة في العهد القديم العبري واليوناني، وهي: (سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر تثنية).

وبخلاف هذه الأسفار الخمسة للتوراة، يؤمن السامريون أيضًا بسِفر يشوع، وذلك لأن يشوع يعتبر خليفة سيدنا موسى- عليه السلام- وهو من أدخلهم إلى فلسطين، ليحقق بذلك وعد الرب لهم، بدخول وسكن الأرض التي «تفيض عسل ولبن»، كما جاء في سفر التكوين.

ثالثًا: تقرُّ التوراة السامرية بقدسية جبل جرزيم، وهو قبلة السامريين.

رابعًا: التوراة السامرية حددت المدة الزمنية التي سكن بها أجداد بني إسرائيل كلًا من أرض كنعان ومصر هي 430 سنة، وهو ما يختلف عن التوراة العبرية كما سُنبين لاحقًا.

خامسًا: اختلاف في جداول الأنساب وأعمار الأباء من آدم، عليه السلام، حتى نوح، عليه السلام.

سادسًا: نلاحظ اختلافًا آخر مهمًا، هو ما ورد في سفر التكوين الإصحاح السادس، الفقرة 20، «أخذ عمرام يوكابد ابنة عمه زوجة له، فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما»، هذا ما ورد في النسخة السامرية، وهو ما يُخالف التوراة العبرية بشكل رئيسي، التي أسقط محررها جملة «مريم وأختهما».

سابعًا: تقر التوراة السامرية بظهور المسيح في آخر الأيام، ولكنه سيكون من نسل يوسف- عليه السلام- وليس من نسل سيدنا داوود- عليه السلام- كما يؤمن بقية اليهود.

التوراة العبرية

يهوديان يدرسان التوراة
يهوديان يدرسان التوراة
Roy Lindman / wikimedia / CC BY-SA 3.0

التوراة العبرية هي جزء من العهد القديم[1] أو التناخ كما يطلق عليه اليهود بالعبرية، ومرت التوراة العبرية بكثير من المراحل لتأخذ شكلها الحالي، وكما أثبت سبينوزا بأن موسى ليس كاتب التوراة، بل كتبها عزرا الكاتب وقت النفي البابلي لبني إسرائيل آنذاك، الذي وقع لهم على يدي نبوخذ نصر إمبراطور بابل سنة 597 ق.م.

حتى عصر المكابين- العصر اليوناني- لم تكن الأسفار المقدسة قد أُقرت، وأن حكماء التلمود «الفريسيون» قد اختاروا هذه الأسفار من بين بقية الأسفار وذلك زمن الهيكل الثاني، ثم رتبوها ورفعوها لمرتبة الكتابات المقدسة)       
سبينوزا – رسالة في اللاهوت والسياسة، الفصل الحادي عشر

ماذا حدث في النفي؟

تخبرنا التوراة العبرية بأن نبوخذ نصر أحرق التوراة الأصلية التي كانت في الهيكل أثناء هدمه له، وأعدم كل كبار الكهنة، وأسرَ سكان مدينة يهوذا إلى بابل.

ولهذا بدأ شيوخ بني إسرائيل جمع ما يتذكرون من حكايات وأوامر إلهية وطقوس وشعائر، في لفائف مكتوبة بخط أيديهم، حتى يحفظوا ما تبقى من ديانة بني إسرائيل التي بدأت تُنسى بسبب الأحداث السياسية التي مروا بها آنذاك.

قاد هذه الجهود عزرا الكاتب، وعاونه النبي نحميا، فعزرا ونحميا كما ينص العهد القديم، هما نبيا النفي البابلي، حاولا أن يذكّرا بني إسرائيل بعقائدهم وطقوسهم، وأن تجمعهم الفكرة الدينية التي بدأت في الانزواء مع الوقت.

معظم الطوائف اليهودية، مثل: الحسيديين، والفريسيين، والحريديم يؤمنون بالتوراة العبرية (الأسفار الخمسة) إلى جانب ذلك يؤمنون ببقية أسفار العهد القديم، وأيضًا بالتلمود (التوراة الشفوية؛ حيث يُعتقد بأن الرب ألقاه شفاهيةً على موسى- عليه السلام- دون أن يدونها، ثم دونها الحاخامات في العصر الوسيط) وبعض الطوائف اليهودية تمنحه قداسة مُضاعفة باعتباره يحوي كل أمور حياتهم.

فروق التوراة العبرية عن السامرية

أولًا: المكان المقدس، ففي التوراة العبرية، جبل صهيون هو المكان الأكثر قدسية، لدى المؤمنين بالتوراة العبرية؛ حيث احتمى به سيدنا داوود في أوقات الحرب.

ثانيًا: التوراة العبرية، تعبر بشكل واضح عن أن موسى ليس النبي الأخير لبني إسرائيل، وأن هناك أنبياء آخرين أتوا بعده، وأن الأسفار التي كُتبت بجانب أسفار التوراة، كوّنت كتابهم المقدس؛ العهد القديم، أو التناخ.

ثالثًا: ورد في التوراة العبرية، أكثر من اسم للرب، فمرة ورد باسم «يهوه» (وهو الاسم الأكثر قدسية بالنسبة لهم، لا يجوز نطقه خارج المعبد، ولا تنطق به امرأة)، ومرة ورد باسم «إيل» ومعناه الرب، ومرة أخرى باسم «إلوهيم» أيضًا بمعنى الرب، ومرة أخيرة باسم «شداي» وهو اختصار للجملة العبرية  (שדי) שומר דלתות ישראל أي حامي أبواب إسرائيل، وهذا لن نجده في أي نسخة أخرى من التوراة غير النسخة العبرية.

رابعًا: ورد في النسخة العبرية: «أخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له، فولد له هارون وموسى»، (وأسقط محرر الفقرة جملة ومريم أختهما)، وهذا مختلف عما ورد في التوراة السامرية.

خامسًا: دُونَّ في النسخة العبرية من التوراة أن المدة الزمنية التي سَكَنَ بها أجداد بني إسرائيل في كنعان 423 سنة وفي أرض مصر 400 سنة، وبهذا تكون المدة الزمنية 823 سنة في أرض كنعان ومصر. وهذا مختلف عما ورد في التوراة السامرية. 

سادسًا: اختلاف في أعمار الأجداد والآباء، وجداول الأنساب. عما ورد في التوراة السامرية.

سابعًا: تقر التوراة العبرية بظهور المسيح في آخر الأيام، وسيكون هذه المرة من نسل سيدنا داوود -عليه السلام.

التوراة اليونانية

التوراة اليونانية ما هي إلا ترجمة للنسخة العبرية، للغة اليونانية، وتسمى الترجمة السبعينية أيضًا، وهي أقدم التراجم التوراتية المعروفة.

لم يترجم فيها فقط الأسفار الخمس الأولى الواردين في النسختين العبرية والسامرية، ولكن ترجم كل أسفار العهد القديم، وهذه الترجمة هي التي تُرجم منها بعد ذلك النص العربي الذي يقرؤه الأقباط اليوم ضمن كتابهم المقدس.

لماذا وُضعت الترجمة اليونانية؟

بعد أن انغمس اليهود في الحياة تحت ظل الحكم اليوناني، نسوا لغتهم الأصلية، فاحتاجوا إلى ترجمة كتابهم المقدس للغة التي يتحدثونها، كما ذكر  الباحث التوراتي عبدالمجيد همو في كتابه «الفرق والمذاهب اليهودية منذ البدايات» نقلاً عن المؤرخ اليوناني «يوسيفوس».

تمت الترجمة في سنتي 282، 283 ق.م، على يد 72 فقيهًا من يهود مصر بأمر من ملك مصر، حينئذ، «بطليموس فيلادليفوس»، وحدّد عددهم على أساس ستة فقهاء من كل سبط من أسباط اليهود الاثنى عشر.

ملك مصر بطليموس فيلادليفوس
ملك مصر بطليموس فيلادليفوس

تشتمل الترجمة اليونانية أو السبعينية على أربعة عشر سفرًا لا توجد في الأصل العبري للعهد القديم الذي وصل إلينا، وهذه الأسفار هي: سفر طوبيا، سفر الحكمة لسليمان، وأسفار المكابين وعددها أربعة أسفار، وسفر يهوديت، وسفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ بن سيراخ بن يسوع، وتسبيحة الفتية الثلاثة، وسفر سوزان، وسفر بل والتنين، وثلاثة أسفار منسوبة لعزرا زيادة على السفر المثبت في الأصل العبري؛ وفصول في آخر سفر استير زائدة على الفصول المثبتة في الأصل العبري، وبعض زيادات في سفر دانيال.

وعن الترجمة اليونانية ترجمت أسفار العهد القديم إلى اللغة اللاتينية، ومع أن الترجمة اللاتينية كانت ترجمة للسبعينية اليونانية، فإنها لم تأتِ مطابقة لها كل المطابقة، فقد اشتملت على سفرين اثنين فقط للمكابين، وحذف منها أسفار عزرا الثلاثة التي زيدت في الترجمة اليونانية، وزادت عليها بسفر «باروخ»، وفيما عدا ذلك لا يوجد بين الترجمتين خلاف ذي بال.

وفضلًا عن الأسفار والأجزاء التي تزيد بها الترجمتان اليونانية واللاتينية على الأصل العبري للعهد القديم، فإنهما في بعض المواضع لا تنطبقان على هذا الأصل تمام الانطباق، ولم يعرف إلى الآن على وجه اليقين الأسباب التي أدت إلى عمل هذه الزيادات وهذا الاختلاف.

 ولكي تصل هذه الأسفار الإضافية إلى أحقية الضمّ إلى الكتاب المقدس، مرّت بمجمع نيقية الذي بدوره عقد أكثر من جلسة؛ حتى أقرت الكنيسة الكاثوليكية المسيحية والكنيسة الشرقية جميع الأسفار والأجزاء التي تزيد بها الترجمة اليونانية واللاتينية عن الأصل العبري واعتبرتها كلها أسفارًا وأجزاء مقدسة واعتبرتها من أسفار العهد القديم وأجزائه.

أما اليهود، فقد رفضوا تمامًا الأسفار الإضافية الـ14 ولم يعتبروها قانونية أو مقدسة؛ إلا أنهم أدرجوا تلك الأسفار في قسم خاص اسمه أسفار الأبوكريفا أو الأسفار الخفية، واستعملوها فقط كوسيلة للتعرّف على تاريخ اليهود في تلك الفترات.

ولهذا أخذوا من أسفار المكابين– التي لا يُقدِّسونها- ذكرى «عيد الحانوكا» أو «عيد الأنوار» الذي أُقر في أعقاب اندلاع الثورة المكابية التي طالبت بمنح اليهود الحرية خلال الحُكم الروماني للقدس.     

[1] العهد القديم: هو تسمية مسيحية لتميز العهد القديم الخاص باليهود، والعهد الجديد الذي أتى به المسيح عيسى- عليه السلام.