النقود آلة تقوم بأداء ما يجب عمله بسرعة ودقة.
الاقتصادي الكلاسيكي، جون ستيوارت ميل[1] .

منذ زمن بعيد حيث العصور الأولى، عاش الإنسان حياة شديدة البدائية، لم تقم سوى على الرعي والصيد والزراعة، لم يكن الإنسان حينها بحاجة إلى أكثر من طعام وشراب وملبس يستر جزءًا يسيرًا من جسده.

لذا كان من السهل عليه أن يعتمد على نفسه في سد احتياجاته، وأن يكتفي ذاتيًا عن الآخرين. فبجهده وحده، كان بإمكانه أن يصل إلى جُل ما يحتاج دون أن يضطر إلى طلب المساعدة من أي شخص آخر [1].

لكن مع اتساع نطاق التخصص وتقسيم العمل، ونتيجة لعدم قدرة الفرد الواحد على تأدية جميع الوظائف، اتسع نظاق التبادل بين الأفراد، والذي من خلاله كان بإمكان الفرد إشباع حاجاته عبر مقايضة ما تخصص في إنتاجه مع ما ينتجه غيره من الأفراد.

لكن مع تعدد السلع المنتجة وتباين حاجات الأفراد وتنوع أذواقهم، تزايدت صعوبات ذلك النظام، حتى بات من المستحيل استمراره، فمثلاً إذا امتلك شخص خروفًا وأراد أن يقايضه بأربعة أصواع من الأرز، فإن الصعوبة تكمن هنا في أن بائع الأرز قد لا يرغب في الخروف المعروض عليه.

علاوة على ذلك، عدم وجود تسعيرات واضحة للسلع، فإذا ما أردت استبدال صاعٍ من الأرز، فكم تقبل مقابله من التمر؟ وإلى ماذا تستند في ذلك التسعير؟

كانت تلك بداية رحلة البحث عن بديل وحل يجعل حياة الإنسان وتعاملاته أكثر سهولةً ويسرًا، ويكون بإمكانه الاعتماد عليها للوصول إلى ما يحتاج دون أي معوقات.

مرحلة اقتصاد المعادن

دفعت عيوب المقايضة بعض المجتمعات قديمًا للبحث عن شيء يمكن قبوله كوسيط للتبادل، فتوصلوا في البداية إلى استخدام المعادن. بدأ الإنسان باستخدام النحاس كوحدة نقدية، ثم الفضة والذهب اللذين شكّلا عماد اقتصاديات المعادن[2].

استخدمت تلك المعادن فى البداية على هيئة «سبائك» مختلفة الحجم تحدد قيمتها بحسب وزنها، لكن ذلك الأسلوب عرقل مجرى المعاملات لتطلّبه استخدام موازين حساسة، الأمر الذي فتح الباب أمام احتمالات الغش والتزوير في وزن ومعيار المعدن، وهو ما دفع إلى اختراع سك المعادن، حيث لكل قطعة نقدية وزن ثابت ونسبة محددة من الذهب أو الفضة، لتخفيف مخاطر استخدام السبائك المعدنية كنقود.

وقد بدأت فكرة النقود في بلاد ما بين النهرين (العراق) في الألفية الرابعة قبل الميلاد، عندما حدد السومريون مقادير ووحدات ثابتة من المعادن (الذهب والفضة والنحاس)، لأنهم سئموا من فكرة فحص ووزن كل صنف على حدة في كل مرة، فكانت تلك الصورة الأولى لما يشبه النقد.

لاحقًا، احتكرت الدولة عملية سك العملة لتأكيد هيمنتها ولضمان عدم التزوير، غير أن الغش كان يأتي من الحكام أنفسهم، فعندما كانت إيرادات الدولة تنخفض ولا تتوفر الكمية الكافية من الذهب والفضة، كان الحكام يلجأون إلى خلط المعادن النفيسة بمعادن أخرى أرخص، ذلك الأمر تسبب في انخفاض قيمة النقود المعدنية الحقيقية عن قيمتها الاسمية[3].

كما دفع الناس للاحتفاظ بالعملات القديمة – الأعلى قيمة – في خزائنهم، واستخدام العملات الجديدة – الأقل قيمة على الحقيقة – في معاملاتهم التجارية في الأسواق، مما كان يؤدي إلى تفاقم المشكلة، وهو ما ألهم المفكر الاقتصادي جريشام ليخرج بعبارته الذائعة:

النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق.
جريشام

ظهور النقود الورقية

ما إن استقر العرف على استخدام الذهب والفضة كوسيلة للتبادل وتم قبوله بين الناس، ظهرت صعوبات أعاقت استمرار تلك الوسيلة، كان على رأسها صعوبة نقل وحمل كميات كبيرة من الذهب والفضة من مكان لآخر، واحتمالية تعرضها لمخاطر السرقة.

فكان ملّاك تلك المعادن يودعونها لدى الصائغ، وفي المقابل يمنحهم ورقة أشبه بشهادة إيداع أو إيصال، يكتب فيها أن ذلك الشخص يملك كمية معينة من المعادن، وأنه على استعداد لصرفها له في أي وقت يطلبه.

وبالتدريج، أصبحت تلك الورقة نفسها وسيلة مقبولة للبيع والشراء ووسيط دفع في التجارة على نطاق واسع. وبمجرد نقل الورقة من شخص لآخر، تنتقل معها ملكية الذهب والفضة المودعة عند الصائغ وهكذا. حتى أصبحت تلك الورقة فيما بعد هي النقد، وباتت هي الوسيط الأساسي في عمليات البيع والشراء.

ولعل الفضل في اختراع النقود الورقية يرجع في الأصل إلى الصينيين، الذين اخترعوا الورق كذلك. ففي القرن الأول الميلادي، ظهرت أول نقود ورقية موثقة تاريخيًا في عهد أسرة تانج، في فترة مثلت واحدة من أكثر الحقب ازدهارًا في الصين سياسيًا واقتصاديًا.

ومع مجيء أسرة سونج في عام960م، بدأت الإصدارات المنتظمة للأوراق النقدية تظهر للعيان، وعُرفت بين الناس باسم «النقود الطائرة»، لكونها نقودًا ورقية خفيفة الوزن. وقد راقت تلك النقود لدى التجار آنذاك، وانتعشت التجارة الخارجية بفضلها على نحو مفاجئ وغير متوقع.

وفي أوروبا، كان الناس يحملون كمصروف جيب ألواحًا من النحاس يصل وزنها إلى 20 كيلو جرامًا، الأمر الذي دفع السويد لإصدار أول ورقة نقدية حقيقية عام 1661، وذلك بناءً على اقتراح قدمه شخص يدعى «يوهان بالمستروك»، والذي دفع بنك «ستوكهولمس بَنكو» حينذاك لإصدار أوراق نقدية مرتبطة بعُملة تسمى «الطالر» الفضية أو النحاسية.

إلى أن حدث الاختراق المنتظر للنقود الورقية عام 1694م، عندما تم تأسيس بنك إنجلترا على يد مجموعة من مستثمري القطاع الخاص. وقد مُنح لبنك إنجلترا في ذلك الوقت حق إصدار أوراق النقد ومنح الائتمان، لكنه أُلزم بالاحتفاظ بغطاء لودائعه من المعدن الثمين.

وفي مطلع القرن الثامن عشر، شهدت القارة الأوروبية ازدهار النقود الورقية بفضل مصرفي إسكتلندي مُقامر يُدعى «جون لو»، والذي اقترح سياسة نقدية توسعية لإنعاش الاقتصاد المتعثر في فرنسا آنذاك، تلك السياسة تمحورت حول ركيزة رئيسية مفادها:

التوسع في طبع النقود الورقية، وأن لا تظل كمية النقود الورقية مقيدة بتغطيتها بمعادن ثمينة، بل استحضار الأصول القومية كالموارد الطبيعية والأرض، كأساس لقياس كمية أوراق النقد.

وطلب جون في مقابل ذلك المقترح، أن يؤذن له بتأسيس بنك يمنح له امتياز إصدار أوراق النقد، تلك الخطوة التي مثلت حينها ميلاد البنك المركزي الفرنسي[4].

وقد استمرت النقود الورقية الوسيلة الأكثر قبولاً منذ ذلك الحين، وحتى بعد التخلص من نظام غطاء الذهب بإلغاء اتفاقية بريتون وودز في عام 1971، وباتت تستمد قوتها وقبولها من قوة اقتصاد الدولة التي تمتلك سلطة إصدارها.[5]

هل بالإمكان اندثار النقود الورقية لصالح الإلكترونية؟

يومًا ما سيُستعاض بالحسابات المفعلة إلكترونيًا عن النقود، مثلما حلت النقود الورقية محل المعادن الثمينة.

هكذا تنبأ ممثل بنك الاحتياطي الفيدرالي في مؤتمر شهدته واشنطن منذ حوالي عقدين ونصف من الزمان. لم يتنبأ بذلك فحسب، بل تنبأ بإمكانية أن يأتي اليوم الذي تنافس فيه النقود الإلكترونية التي تُنشئها كيانات خاصة، القطع والأوراق النقدية التي تُصدرها الحكومات.

وفي دراسة موسعة قدمها البنك الاتحادي الألماني، تمت الإشارة إلى فقدان النقود جوهرها المادي حتى باتت المعاملات النقدية الورقية لا تمثل إلا 5% من إجمالي حركة المدفوعات في ألمانيا.

وفي السويد، تراجعت أهمية النقود الورقية والمعدنية في الاقتصاد. فخلال عام ۲۰۱۸، لم يتعامل بالنقد الورقي إلا ١٣% من المستهلكين السويديين، وبدأت السويد تدريجيًا في التحول إلى مجتمع بـلا (كاش)، حتى وصل الأمر لاستخدام خدمات دفع إلكترونية للمتسولين، لأن الناس لم يعودوا يحملون نقودًا ورقية أثناء سيرهم في الطرقات.

يسرت التقنيات الحديثة عمليات البيع والشراء، وظهرت فكرة العملات المشفرة كحل تقني لمشاكل العمليات المصرفية، ولعل أشهر تلك العملات هي «البيتكوين».

استطاعت البيتكوين، التي ظهرت في 2009، تحقيق نجاح لافت حتى باتت معترفًا بها في العديد من الدول، ولم يعد استخدامها مقتصرًا على التعاملات الفردية وغير الرسمية فقط، بل أُدخلت ضمن خدمات المعاملات الحكومية، فأصبح ممكنًا استخدامها لدفع الضرائب المستحقة أو تسديد رسوم المعاملات إلكترونيًا.

ذلك الإقبال على هذا النوع من النقود، دفع إلى إجراء المزيد من الأبحاث والدراسات المتخصصة في العملات الافتراضية، بغرض التوسع في إصدارها كحل بديل أيسر وأسهل من التعاملات الورقية النقدية.[6]

ومن ثم، بدأت خدمات دفع جديدة في الظهور، كخدمة «أبل باي Apple pay» التي أطلقتها شركة آبل، والتي مكنت مستخدمي «آيفون» من الدفع لمشترياتهم عبر هواتفهم، فضلاً عن خدمات أساور وخواتم الدفع الذكية التي أطلقتها عدة شركات كـشركة «باركلي كارد» لبطاقات الائتمان، وشركة سوني للأجهزة الإلكترونية.

ومؤخرًا، أعلن «مارك زوكربيرج» عبر حسابه الخاص على فيسبوك عن قرب إطلاق فيسبوك لأول عملة مشفرة، أطلق عليها مسمى «ليبرا». والتي تستهدف الاحتفاظ بقيمتها دون أي تذبذب قد يقلل من قيمتها ويهدد مصالح المتعاملين بها.

إجمالاً، فرضت المتغيرات والظروف على الإنسان منذ القدم أن يظل في بحث دائم عن الحل الأيسر الذي به يلبي كافة احتياجاته. وكما حلت الوسيلة الأحدث محل الأقدم حتى لم يعد أحد يستخدمها، فإن ابتكار الحلول السهلة والنقود الإلكترونية بات يمثل تحديًا كبيرًا أمام استمرار استخدام النقود الورقية، ولربما يأتي اليوم الذي نفتقد فيه تلك الصور والرسومات الجميلة عليها، أقرب مما نتصور.

المراجع
  1. ميراندا زغلول رزق، النقود والبنوك، جامعة بنها، كلية التجارة، 2008-2009
  2. عبد الله بن ربيعان،  تاريخ النقود من الملح إلى النقود البلاستيكية، وزارة الخارجية – معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية، مجلة الدبلوماسي، ع56، عدد أغسطس 2011، ص ص 26-28.
  3. ع النقود والبنوك، مرجع سبق ذكره

  4. كلاوس بيندر، صناع النقود: العالم السري لطباعة أوراق النقد، مؤسسة هنداوي، الطبعة الأولى،  2015، ص ص 12-32
  5. عبد الله بن ربيعان،  تاريخ النقود من الملح إلى النقود البلاستيكية، مرجع سبق ذكره
  6. محمد محمد حطاب، تقنيات العملة الافتراضية: البتكوين نموذجًا، رسالة دكتوراة، جامعة العلوم الإسلامية، كلية الدراسات العليا، الأردن، 2018، ص22