في غياب اليقين الذي نشعر به حين نرى بأعيننا صورة حية، وفي غياب الكلمات التي نسمعها بآذاننا خلال الأغاني… كيف نفرح أو نحزن أو تقشعر جلودنا، أو يقف شعر رأسنا، ونحن نستمع إلى موسيقى بحتة، بلا كلمات؟

كثيرة هي وتقليدية، الإجابات المنتشرة للإجابة عن هذا السؤال، ولكننا في هذه المقالة نصل إلى الإجابة بطريقة قد تكون جديدة بالنسبة لكثيرين، طريقة تدعي أننا يُمكننا أن نرى الموسيقى ونحن نسمعها!

فلقد أثبتت دراسات في علم الأعصاب، أن الإدراك الموسِيقِي يعتمد على نفس الركيزة العصبية التي يستخدمها الدماغ البشري في فحص الأجسام المادية، كما تبيَّن أن الموسيقى تحسن القدرات البصرية المكانية. ومنذ سنوات تكلم علماء كثيرون عما عرفوه بظاهرة «ترافق الحواس»، ومنهم الدكتور أحمد مستجير الذي ذكرها في كتابه «بيولوجيا الخوف».

ترافق الحواس ظاهرة مثبتة علميًا، مفادها أن الإنسان مرهف الحس ربما يستشعر الشيء بأكثر من حاسة، أو بحواس يفترض أنها ليست على علاقة بالشيء الذي يستشعره، فتجده يتذوق طعم الألوان بلسانه، ويرى الموسيقى بعينيه بل ويشم رائحتها!

نصل إلى السؤال الأساسي الذي تجيب عنه هذه المقالة، وهو كيف يمكن أن نرى الموسيقى كأشكال بأعيننا، وكيف ينعكسُ ذلك على جهازنا العصبي فتتحوّل هذه الأشكال الصوتية إلى مشاعر نفسية؟

للإجابة على ذلك، دعونا أولاً نتعرّف على بعض ملامح صناعة الأنغام وصياغتها، ثم نوضح كيف ينعكس ذلك على جهازنا العصبي، معتمدين بشكل أساسي على دراسة بعنوان «عالم الموسيقى – THE UNIVERSE OF MUSIC» للباحثة في علم إدراك الموسيقى والمعرفة بها، وعازفة البيانو الشهيرة مارينا كورساكوفا كرين MARINA KORSAKOVA-KREYN.

شكل الموسيقى كيف يُبنى؟

كل شيء في الموسيقى نسبي، ويكتسب معناه من خلال علاقات العناصر الموسيقية ببعضها. ويبدأ السحر عندما تتحد نغمات مختلفة- سواء عزفتها آلة واحدة أو أوركسترا كبير- في شكل لحني متماسك، لأن الصوت الموسيقي الفردي، خارج السياق النغمي، هو بالأحرى إشارة صوتية قد لا تثير أي أحاسيس، ولكن عندما تتحدّ مجموعة من النغمات وتتجه إلى العقل كتيار من النغمات، نتجاوز فكرة الصوت المجرد، حيث يتحول هذا الصوت المنغم إلى أفكار.

واللحن هو جسم أو شكل هندسي، له محيط مرسوم، وبداخله أجسام وفي قلبها مركز جذب يمسك بأقطار هذه الجسيمات وبالمحيط الذي يحدد شكل الموسيقى الخارجي. ولكن الفرق بين هذا الشكل الخيالي والشكل الهندسي المادي، هو أن الشكل اللحني يُرسَم في أذهاننا مع تدفقه، بدءًا من أول نغمة، ويظلُّ يكتمل تدريجيًا حتى نصل لآخر نغمة فيه، على عكس الشكل المادي الذي قد نحدد ملامحه من أول ثانية.

هذا المركز الجاذب للشكل اللحني يسمى «القوة اللونية النغمية»، هو لون الموسيقى، أو بمعنى أبسط هو طعمها… تخيل مثلًا أنك تأكل آيس كريم بالشوكولاتة، يحتوي على لبن وجيلاتين وسكر وشوكولاتة، وأشياء أخرى كوَّنت هذا الطعم، بالطبع ستستشعر كل طعم في الآيس كريم ولكن طعم الشوكولاتة هنا هو الذي يصنع شخصية الآيس كريم أو مذاقه الأساسي، وهكذا الأمر بالنسبة لمركز الجاذبية اللونية بالنسبة للموسيقى، هو مثلًا الذي يختبئ في الجملة اللحنية الرئيسية لأغنية «على حسب وداد قلبي»، والتي تتكرر بعد كل كوبليه ويرددها الكورال:

هو المختبئ خلف التيمة الأساسية للسمفونية الخامسة، «تا تا تا تااا»:

هذا المركز اللوني هو الذي تدور حوله الجملة اللحنية، التي يعاد تشكيلها ويضاف إليها وينقص منها، ولكنها دائمًا مشتبكة بهذا المركز. فهو كالشمس لها مجال جذب يضم الكواكب حولها.

ومثل الشمس والكواكب، لكل جسم طاقته، كذلك فإن لكل نغمة طاقتها، وتتفاوت هذه الطاقات، بين الخفوت والتوهج، تتضافر أو تتنافر، تقام بينها العلاقات المتراوحة بين السرعة والسكون في مدى زمني ومكاني معين، تهيمن واحدة وتنصاع أخرى، تتعاون وتتعارك، تتوازى أو تتقاطع، وهذه العلاقات هي التي تخلق الأفكار والعواطف في داخل الإنسان، فالنغمة أو الصوت المجرد دون هذه العلاقات لا يكون لحنًا ولا يخلق إحساسًا.

المقام واللون.. هكذا يتلاعب صناع الموسيقى بمشاعرنا

هذه النغمات تتكون من أشكال صوتية رئيسية في التأليف الموسيقي، اصطلح على صياغتها في سلم من 7 درجات هي «دو ري مي فا صو لا سي» ومن هذه الدرجات الرئيسية يخلق المؤلف الشكل العام للجملة، أو محيطها اللحني، والذي يسمى في التدوين العربي بالمقام أو mode في التدوين الغربي.

والمقامات العربية الرئيسية هي «صبا، نهاوند، عجم، بيات، سيكا، حجاز، رست، كرد»، ويشتق منها مقامات فرعية كثيرة، وقد تتألف الجملة اللحنية الواحدة أو الشكل اللحني من أكثر من مقام، وكل مقام يمكن تلوينه بأشكال مختلفة عن طريق اللعب في مستويات طاقة كل نغمة وسرعتها وموضعها في الشكل اللحني، وتداخله مع مقامات أخرى، إضافة إلى طبيعة ونمط استخدام الآلة أو الآلات التي تؤديها، أو ما يسمى التوزيع الموسيقي.

في الغالب يميل كل مقام إلى خلق شعور معين، فالصبا يميل إلى الحزن، والنهاوند إلى الرومانسية الحالمة المقبلة من حزن، والعجم يميل إلى الشعور بالحرية والزهو، والبيات به حنين إلى شيء أصيل تراثي قديم، والسيكا يميل إلى الفرح والسرور، والحجاز يميل إلى خلق شعور باللهفة والشوق الشديد، والرست هو مقام القوة والرهبة، أما الكرد فهو مقام الحرقة والألم والعذاب.

لنتأمل مثلًا أغنية «ونندم ع العشرة» الغالية لعمرو دياب، وقد لحنت على مقام الصبا، ليعبر اللحن عن كلماتها الحزينة:

وكان اختيار كاظم الساهر موفقا لمقام النهاوند، ليضع عليه لحن «زيديني عشقًا»، لبيان استغراقه في عشق حبيبته:

ولكن تلوين هذه المقامات قد يكسبها أحاسيس متغايرة، غير المعتادة، ولمعرفة دور اللون في تحديد وتحويل شكل اللحن المعد على نفس المقام، يمكننا تأمل ترنيمة «مهابة إيزيس»، التي قيلت بأكثر من شكل وأكثر من إحساس، رغم عدم تغيير الجملة الموسيقية نفسها بمقامها الأساسي:

نلاحظ أن الجملة الأساسية لترنيمة إيزيس، حين غنتها أميرة سليم انتابنا شعور بخشوع وتضرع ومناجاة، وتحول هذا الإحساس إلى البكاء حين ردد الناي والربابة نفس الجملة، ثم تحول الإحساس إلى الرهبة والشموخ حين رددها الكورال نفس الجملة مع دعم إيقاعي قوي، ومرة أخرى تبدل الحال مع نفس الجملة إلى الرقص، حين تبدل الإيقاع مع غناء الكورال.

المفاجأة تصنع الانبهار

لصناعة الأشكال الموسيقية أنماط يعتاد الإنسان عليها، فالموسيقى الشرقية تختلف عن الغربية، والبوب الغربي يختلف عن الراب، والكلاسيك يختلف عن الهيفي ميتال… إلخ.

كل نمط من هذه الأنماط قادر على صناعة إحساس ما داخل الإنسان، ومع اعتياد هذا النمط يتاح للإنسان توقع ما سيسمعه، بحسبما يوضح روبرتو زاتور أستاذ علم الأعصاب بجامعة ماكجيل الكندية في دراسة له.

هذا الاعتياد على التنميط، قد يتحول إلى ملل، إن لم يحاول مبدع الموسيقى التعديل في النمط أو الخروج عليه جزئيًا، وليس بشكل كامل؛ فالمفاجأة عنصر خالق للانتعاش والانبهار الذي يحدث حين يضع لك مبدع اللحن جملة موسيقية غير متوقعة داخل هذا الكيان المتناسق، كإحساسك بالانبهار حين تتفاجأ حين تفتح باب منزلك بقطعة أثاث قد وضعت في مكان غير الذي اعتدت عليه، أو زينت بشيء جديد، فالبيت هو البيت، ولكن شيئًا جديدًا قد تغير فيه.

ومن هذا المنطلق قد نفهم لماذا نستمع إلى الآهات تنطلق من جمهور أم كلثوم حين كانت تخرج عن اللحن الأساسي بشكل مفاجئ وترتجل.

إنه عنصر المفاجأة القادر على إنعاش المتلقي، الذي أثبتت أكثر من دراسة أنه قادر على توقع اللحن أثناء السماع، وإذا ما حدث شيء خارج توقعات أذنه ينتعش، ومن هذه الدراسات كانت دراسة مارينا كورساكوفا التي أثبتت أن الأشخاص العاديين– غير المتخصصين في الموسيقى- لا يحتاجون إلى تدريب موسيقي خاص لاستشعار العلاقات النغمية المعقدة للغاية، وأنهم قادرون على التمييز بين نغمة وأخرى، وبأي تغيير مفاجئ، والانتقال من فهم إلى آخر، حتى ولو لم يستطيعوا وصف إحساسهم بدقة، ولكن انفعالاتهم التلقائية تبين طبيعة هذا الإحساس، مؤكدة أن التغييرات المفاجئة في الألحان كانت مثيرة للانتباه بالنسبة لمن أجرت عليهم دراستها.

كيف تتحول الأشكال الصوتية إلى عواطف؟

ليس جديدًا أن نلفت النظر إلى دور الموسيقى في تغيير معدل ضربات القلب، أو إصابتنا بالقشعريرة، أو استفزازنا للرقص… إلخ من انفعالات عاطفية… ولكن كيف يحدث ذلك بداخلك؟

هناك ثلاثة مستويات إداركية لدينا، بحسب تصنيف عالم الأعصاب الأمريكي بول ما كلين، وهو التصنيف الذي سماه «الدماغ الثلاثي»؛ المستوى الأول، يكمن في جذع الدماغ القابع فوق الرقبة، وهذا الجزء هو الأساس في حياة الإنسان، هو الذي يرتبط بالغرائز والأمور التي تحافظ على حياة الإنسان، كنبض القلب والجوع والجنس والخوف، والتجارب الحسية عموما، وهي أمور يؤديها المخ بتلقائية شديدة.

والمستوى الثاني، يعكس الوعي الثانوي للإنسان، ويترجم هذه الغرائز إلى لغة منطوقة، أو شيء له اسم ووصف مفهوم بالنسبة للإنسان. أما المستوى الثالث الموجود في القشرة المخية العليا، فهو يعكس الوعي العالي، أو قمة الرقي، فهو مسؤول عن «التفكير في التفكير نفسه» هو الذي يجيب عن الأسئلة: كيف أشعر بهذا الإحساس، ولماذا، وهل يمكن أن أستغني عنه؟ إلخ.

هذا الشكل الهرمي، المتدرج في الفهم، هو نفسه شكل استيعاب أذهاننا للموسيقى، فكما أن للموسيقى شكل في صياغتها، لها أيضًا شكل في فهمها المتدفق، له 3 مستويات.

المستوى الأول، الذي تتسلل الموسيقى من خلاله إلينا، هو المستوى العاطفي الغريزي التلقائي، من خلال جذع الدماغ الذي يستشعر الموسيقى أولاً، فالموسيقى كالطعام والجنس وغريزة البقاء والحياة، يبدأ الإحساس بها من نفس المركز.

وبعد ذلك ينتقل هذا الإحساس إلى الطبقة الأعلى من الدماغ، فيتحول الشعور إلى مستوى إدراكي أكبر، وفي هذه المرحلة تنضج الروابط العاطفية مع هذه الموسيقي أو هذا اللحن لهذه الأغنية، ويبدأ الإنسان في حفظها، وكثيرون يتوقفون عند هذه المرحلة، لكن البعض ممن لديهم الخبرة الحسية والمعرفية الأعلى قد يصلون بالموسيقى إلى المستوى الإدراكي الثالث، والذي يبدأ في تأمل الموسيقى بشكل فلسفي أعمق، فيحللها، ويحاول استخراج القيم منها، فيحبها أو يرفضها.

وخلال وجود الموسيقى في المرحلة الإدراكية الأولى أو الثانية، تنتاب الجسد الأحاسيس التي نعرفها جميعًا، من قشعريرة، لسعادة، لحزن، لرقص، إلخ.

بشكل آخر يبين عالم النفس أفرام جولدشتاين Avram Goldstein في دراسة له، المسار الذي تسلكه الموسيقى داخلنا، مشيرًا إلى أن الأمر يبدأ بوخزة خفيفة لذيذة في مؤخرة العنق (جذع الدماغ)، وتستمر الوخزة أو تذهب بسرعة على حسب قوة الموسيقى أو بمعنى أدق قوة تأثيرها في المتلقي، فترتفع الوخزة إلى ما فوق فروة الرأس، ثم تهبط إلى الوجه، ومن خلال العمود الفقري تتملك الصدر والبطن والفخذين والساقين، وقد تصاحبها قشعريرة وتنهدات وبكاء.

وهذه الإثارة تحفز المخ لإفراز هرمون الإندروفين، أو ما يسمى «هرمون السعادة»، الذي يولد راحة كبيرة لدى الإنسان بعد إفرازه.

ويفسر ما سبق سر الراحة التي تنتابنا بعد سماع موسيقى، حتى ولو كانت حزينة، فالإندروفين يهدئ الأعصاب، والانفعالات الحركية التي تنتاب الإنسان مع السماع، وكذلك الانفعالات الصوتية كأن يردد الموسيقى بصوته، كل ذلك يجعل الإنسان يخرج الطاقة المكبوتة بداخله، فيشعر بالارتياح بعد ذلك، وهو ما نسميه في حياتنا اليومية بـ«الطَرَب»، وهو الذي يدفعنا للإعراب عن سعادتنا البالغة بالموسيقى التي نحبها قائلين بحماس «عَظَمة على عَظمة».