يبلغ متوسط عمر خلايا الدم الحمراء نحو 120 يوماً ثم بعد ذلك تموت عن طريق البلعمة، وأغلب خلايانا تدخل في دورة تجديد كل 7 إلى 10 سنوات، أمّا مثلاً أن تُصاب بجرح صغير في يديك، فإن خلايا الدم التي تنزفها تموت أيضاً.

السؤال هنا، ما الفرق بين الموت بالطريقة الأولى والموت بالثانية؟

الأولى تسمي «موت الخلايا المبرمج» (Apoptosis)، أمّا الثانية تُدعي «الموت بالنخر» (Necrosis)، ودعني أشرح لك كيف تتم العمليتين.

الموت بالنخر والموت المبرمج

إن تعريف «الموت بالنخر» هو موت أنسجة الجسم بسبب تدفق الدم إلى هذا النسيج الناتج عن حدوث مرض أو إشعاع أو إصابة أو التعرض لمواد كيميائية أو عدوى ميكروبية أو حتى يكون نتيجة استجابة مناعية. وهو عبارة عن موت غير مُتحكَّم فيه، يؤدي إلى تورم مكونات الخلية وتمزقها، وفي النهاية تحللها وتسرب مكوناتها التي تسبب في تلف الخلايا المجاورة، مما يؤدي إلى الإصابة بالتهابات، ويمتد تأثيرها إلى الأعضاء وعظام الجسد. ومن أشهر أشكالها هو حدوث الغرغرينا حيث تموت كمية كبيرة من الخلايا بسبب نقص تدفق الدم أو عدوي بكتيرية خطيرة.

أمّا «الموت المبرمج» فهو «موت الخلايا عن طريق الانتحار يُستخدم أثناء التطور المبكر للقضاء على موت الخلايا غير المرغوب فيها، وتخليص الجسم من الخلايا التي تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه. وإذا تم منع موت الخلايا لسبب ما، فقد يؤدي ذلك إلى انقسام خلايا غير منضبط والتطور اللاحق لحدوث سرطان. ويحدث ذلك عن طريق مخطط كامل لمسارات وبروتينات داخل الخلية تُنشط لقتل الخلية».

خطوات الموت المبرمج للخلية
خطوات الموت المبرمج للخلية
/ Genome

ظاهرة الموت المبرمج تم وصفها في السبعينيات على يد ألستير كوري، وجون كير، وأندرو وايلي، أساتذة علم الأمراض بجامعة أبردين، حيث قاموا برصد تغييرات في الخلية تؤدي إلى وفاتها. وتعتمد الخلية في موتها على الميتوكوندريا، حيث يتلف الغشاء الداخلي بسبب نشاط بيوكيميائي شاذ، فتتكون مسام في الغشاء تقوم على إثره الميتوكوندريا بإفراز بروتين سايتوكروم سي -وظيفته انتاج الطاقة– في السايتوبلازم، وهناك تقوم بتنشيط إنزيمات تُسمي «إنزيمات الإعدام» Caspases، وهي مسئولة عن موت الخلية عن طريق إحداث إشارات معينة، تسمح بهدم مكونات الخلية، بداية من تجزئة الحمض النووي إلى قطع صغيرة وتكسير السيتوبلازم حتى تتلهمها الخلايا المناعية.

وبما أن الخلايا تموت بطريقة معروف مسبقاً حدوثها، بالتالي فإن هناك جينات مسئولة عن ذلك. في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2002 فاز جون سالستون وسيدني برينر وبوب هوروفيتس بجائزة نوبل في الطب لاكتشافاتهم المتعلقة بـ«التنظيم الجيني لتطور الأعضاء وموت الخلايا المبرمج».

استخدم برينر نموذج الديدان الخيطية (C. elegans) -وهي كائن حي متعدد الخلايا ذات جينوم بسيط- لدراسة الجينات المرتبطة بالنمو والتمايز وتطور الأعضاء، لأنها كائن بسيط يتكون من 1090 خلية، فلا هو خلية بكتيرية لا تحتوي على عضيات، ولا هو من الكائنات بالغة الرقي التي يصعب معها دراسة الظاهرة.

أمّا جون فرسم خريطة سلالة للخلية حيث تعني أن جميع خلايا جسمنا تنحدر من بويضة مخصبة، ثم تتمايز وتتخصص لتكون باقي الجسد. والجسد يتكون من خلايا متخصصة، والحفاظ على العدد المناسب منها يلزم وجود توازن بين انقسام الخلايا وموتها، فكل يوم يقوم الجسم بتكوين ألف مليار خلية، وفي الوقت نفسه يموت نفس العدد، وبالتالي تلك الطريقة تُمكِّننا من متابعة كل انقسام وتمايز يحدث.

وقد أظهرت أبحاث جون عن الديدان الخيطية، أن خلايا معينة تخضع للموت المبرمج كجزء لا يتجزأ من عملية التمايز، حيث تموت حوالي 131 خلية من كل 1090، تموت بشكل ثابت وأساسي في كل عملية تكوين هذا الكائن. أمّا بوب فهو منْ اكتشف الجينات التي تتحكم في طريقة الموت، وأظهر كيف تتفاعل مع بعضها، حيث سمّاها (جينات الموت Caspases)، ويتم تشفيرها في صورة إنزيمات.

الفائزون بجائزة نوبل في الطب عام 2002
الفائزون بجائزة نوبل في الطب عام 2002

تلك العملية إذاً طبيعية، سواء كانت أثناء النمو أو الشيخوخة أو ضمن آلية مناعية للدفاع عن الجسد، فمثلاً بعد خضوع مريض السرطان إلى العلاج الكيميائي يمكن أن يؤدي هذا إلى تلف الحمض النووي في خلايا أخري، ومن الممكن أن تتطور إلى سرطان مرة أخرى، وفي تلك الحياة يقوم الجسد بالموت المبرمج لإنقاذ نفسه.

وفي حالة أخري عندما نُصاب بفيروس ما -كورونا مثلاً- يتم تنشيط بعض الخلايا اللمفاوية، تُفرز إنزيمات على سطح الخلية المصابة، وتقوم بالولوج داخل الخلية لتحفيز إنتاج إنزيمات الكاسبيسز، وبالتالي تُحفِّز الخلايا المُصابة علي قتل نفسها، وتمنع الفيروس من التكاثر والانتشار في الجسد.

يمكن رؤية عملية الموت المبرمج تحت الميكروسكوب الإلكتروني، حيث نري حدوث انكماش للخلية وتصبح أصغر حجماً مع زيادة في حجم السيتوبلازم، ويحدث تغلظ وتكثف للحمض النووي، حيث تبدو الخلية كأنها قنبلة على وشك الانفجار، ثم يحدث نزيف في غشاء الخلية، وتنفصل أجزاء الخلية عن بعضها البعض، وتأتي الخلايا البلعمية لتلتهم تلك الأجزاء دون حدوث أي التهابات، وهذا هو الشيء المميز لتلك العملية عن الموت بالنخر، حيث تموت الخلايا مُحدثة إلتهابات وآلام.

عمر خلايانا

السؤال حالياً، هل تتعرض جميع الخلايا للموت المبرمج أم لا؟ وهذا يجعلنا نسأل ما عمر خلايانا أصلاً؟

تحتاج الإجابة إلى شيء من التفصيل. ففي دراسة نُشرت عام 2005 في المجلة المشهورة (cell)، أوضح العالم السويدي «جوناس فريسن» أن خلايانا تتمتع بعمر افتراضي معين أقصر من العمر الطبيعي للكائن الحي، فلنفترض أن شخصاً مات في الستينيات من عمره، إلا أن خلاياه طوال فترة حياته قد مرت بالعديد من التجديدات وعمليات الموت المستمرة. وأوضح فريسن أن متوسط عمر خلايانا يتراوح بين 7 و10 سنوات، ووجد أن خلايا مثل الجلد والأمعاء تتجدد بسرعة كبيرة لتعرضها لبيئة قاسية.

ولتحديد عمر الخلايا، عمد الباحث إلى تقنية غريبة مستوحاة من علم الآثار، حيث يقوم علماء الآثار في تحديدهم لتاريخ المواد البيولوجية باستخدام الكربون المشع، ومع انتشار الأسلحة النووية وتجريبها في الستينيات من القرن المنصرم، انتشر الكربون المُشع بشكل كبير في الغلاف الجوي، حيث تفاعل مع الاكسجين مُكوِّناً ثاني أكسيد الكربون، الذي بدوره يدخل في عملية البناء الضوئي التي يقوم بها النبات، ومعني ذلك أن الحيوانات والإنسان حينما يتناولون تلك النباتات، يمتلكون بالضرورة الكربون المشع.

وبما أن جميع جزيئات الخلية يتم استبدالها وتتغير، إلا أن الحمض النووي لا يُستبدل، وبالتالي فإن مستوي الكربون المُشع المُدمج في الحمض النووي ثابت، ويعكس مستوى وجوده في الغلاف الجوي، وبالتالي فقياس مستوي الكربون المُشع في الغلاف الجوي ومقارنته بالموجود في الحمض النووي يمكننا من قياس عمر الخلايا.

وكانت الخلاصة أن الخلايا الظهارية (Epithelial Cells) التي تُبطِّن سطح الأمعاء تعيش لمدة 5 أيام فقط، وذلك بسبب البيئة الحمضية القاسية التي تعيش فيها، أمّا باقي خلايا الأمعاء فتعيش حوالي 16 عاماً. ووجد أن الخلايا الموجودة في القشرة البصرية للدماغ تعيش إلى الأبد وتموت بموت الانسان، عكس خلايا المُخيخ، تتعرض للموت المُبرمج، مما يجعلها تتجدد باستمرار.

وبالنسبة لخلايا الدم الحمراء، فإنها تعيش 120 يوماً، ثم تُرسَل إلى مقبرتها في الطحال، وخلايا بشرة الجلد للإنسان تتغير كل أسبوعين، وبالنسبة للكبد فإن خلاياه تتجدد كل 300-500 يوم، والهيكل البشري للإنسان يتم استبداله كل عشر سنوات، وتموت مليون خلية في جسمك كل ثانية، أي أنك تفقد يومياً نحو 1.2 كجم، وبالجملة فإن جميع خلايانا تتجدد كل 7-10 سنوات.

وبالنسبة للخلايا الدائمة التي لا تموت، فتتمثل في خلايا القلب، بالرغم من كم النبضات التي يقوم بها، فإن بوصول الإنسان لعمر العشر سنوات، تتوقف خلايا قلبه عن التمايز، وأيضاً خلايا القشرة الدماغية وخلايا العدسة الداخلية للعين لا يموتون.