من كل 10 أشخاص في أنحاء العالم هناك تسعة أشخاص يستنشقون هواءً ملوثًا

ذلك ما أعلنته منظمة الصحة العالمية، وبحسب إحدى الدراسات العلمية فالآثار الصحية الضارة لتلوث الهواء مسئولة عن 7 ملايين حالة وفاة سنويًا بشكل عام، منها ما يقرب من 3 ملايين حالة وفاة مبكرة.

الآثار لا تتوقف عند حدود الصحة الجسمانية وتصل إلى تأثيرات نفسية تبدأ من التغيرات السلوكية الطفيفة وتصل إلى الاضطرابات التنكسية العصبية، مما يجعل لتلوث الهواء في النهاية آثارًا مدمرة على الصحة العقلية.

وتبلغ الخسارة الاقتصادية لتلوث الهواء بتقدير البنك الدولي 5 تريليونات دولار سنويًا، لا تشمل سوى الأضرار الصحية المعروفة التي تصيب القلب والرئتين، مما يجعل هناك حاجة لمزيد من الرصد لآثار التلوث على الصحة النفسية، ومن ثم قياس الخسائر الاقتصادية الناتجة عن هذا الجانب وإضافتها على الخسارة التي أعلنها البنك، وحتى نصل إلى إجابة واضحة عن سؤال: كيف يتسلسل تلوث الهواء إلى نفسيتك؟ سنفك خيوط المشكلة ونستعرض تأثيراتها من البداية حتى النهاية.

تلوث الهواء
 

الأطفال يدفعون الثمن: قلق وأفكار انتحارية

تبدأ رحلة الطفل مع تلوث الهواء في مرحلة ما قبل الولادة وهو في بطن أمه، إذ نجحت إحدى الدراسات العلمية السويدية في إثبات أن تعرض الأم لمستويات عالية من التلوث خلال فترة الحمل يجعل الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة أكثر عرضة للإصابة باضطرابات طيف التوحد والاضطرابات الذهنية حتى في حياته لاحقًا، وقد وجدت الدراسة التي أجريت على أربع مقاطعات في السويد أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق ذات هواء أكثر جودة يكونون أقل احتياجًا لزيارة الطبيب النفسي وتعاطي الأدوية النفسية.

الدراسة السويدية السابقة ليست الوحيدة في هذا السياق، فهناك دراسة علمية بريطانية أخرى سلطت الضوء على تأثير تلوث الهواء على الصحة العقلية للأطفال، وأظهرت نتائجها أن الأطفال الذين تعرضوا لمستويات عالية من تلوث الهواء وبالأخص أكسيد النيتروجين عانوا من مشكلات صحية عقلية عند انتقالهم إلى مرحلة البلوغ.

ويوضح الباحثون الذين قاموا بالدراسة هذه المشكلات أنها تضمنت حالات متنوعة مثل الاكتئاب والقلق، أو اضطرابات السلوك وتعاطي المخدرات وتشوهات التفكير التي تصل لحد رؤية أو سماع أشياء غير موجودة، والجدير بالذكر أن هذه النتائج ليس لها صلة بالعوامل الأخرى مثل العوامل البيولوجية والتاريخ العائلي للإصابة بالأمراض العقلية.

يشرح الدكتور هيلين إل فيشر قائد الفريق البحثي التداخل بين تلوث الهواء والضغوط المحيطة في البيئة، مشيرًا إلى أن التلوث بالأخص الناتج عن أكسيد النيتروجين يأتي بشكل أساسي من انبعاثات المركبات وهو ما يرتبط بحركة المرور الصاخبة، وذلك مؤشر مهم على أن الشخص في الغالب لن ينام بشكل صحي وستظهر عليه مشكلات أخرى تتعلق بصحته العقلية.

وقد اجتهد الباحثون في جامعة سينسيناتي الأمريكية وأجروا ثلاث دراسات في المركز الطبي لمستشفى الأطفال التابع للجامعة لرصد العلاقة بين تلوث الهواء والصحة العقلية للأطفال، كانت أهم نتائجها أن الأطفال الأكثر عرضة لتلوث الهواء تزداد لديهم نسبة الإصابة بالاضطرابات النفسية مثل القلق والتفكير للانتحار، إلى جانب أنه كلما زاد تلوث الهواء في منطقة ما زادت معه نسبة زيارة الأطفال لقسم الطوارئ النفسية.

الدماغ يتغير

ما نراه في الجو من انبعاثات تؤثر في النهاية بشكل مباشر على أدمغتنا، هذا ليس وصفًا مجازيًا ففي أحد الأبحاث التي درست العلاقة بين التلوث وتدهور الصحة العقلية لدى النساء الكبيرات في السن، وجدوا أنه كلما زاد التعرض لملوثات الهواء فإن ذلك يؤدي إلى تدهور القدرات المعرفية بشكل كبير لهن، وتلك نتيجة تم قياسها بدقة من خلال اختبارات المهارات المعرفية.

وبحسب الدراسات العلمية التي أجريت لقياس مدى قدرة جسيمات التلوث على اختراق دفاعات الجسم، توصل الباحثون إلى أن الجسيمات الأصغر قادرة على الاختراق بسهولة أكبر، فهي تعبر من الرئة إلى الدم وأحيانًا تنتقل عبر محور العصب الشمي إلى الدماغ.

ولزيادة دقة الرصد اختصت دراسة علمية باستكشاف العلاقة بين الكربون الأسود وهو مصدر للجسيمات الدقيقة والإدراك، وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين تعرضوا لمستويات عالية من الكربون قل لديهم الأداء الإدراكي مقارنة بغيرهم.

حتى نفهم التغير الذي يحدث بالضبط سنذهب إلى دراسة أجراها الدكتور راندي نيلسون أستاذ علم الأعصاب في جامعة أوهايو على الفئران، بتعريضهم لمستويات عالية من الهواء الملوث بالجسيمات الدقيقة خمس مرات في الأسبوع لثماني ساعات في اليوم، أي ما يعادل ما يتعرض له الشخص الذي يعيش في مدينة هواؤها ملوث.

والنتيجة أن الفئران التي تعرضت للهواء الملوث استغرقت وقتًا أطول للخروج من المتاهة التي صنعوها لها، وارتكبت أخطاء أكثر من الفئران التي تنفست هواءً غير ملوث.

وعند مقارنة أدمغة الفئران التي تعرضت للهواء الملوث بالفئران الأخرى وجد الباحثون عدة اختلافات لافتة للنظر، منها: زيادة مستويات السيتوكينات في الدماغ، وهي بروتينات صغيرة تنقل رسائل الخلية للمساعدة في توجيه الاستجابة المناعية للجسم، وتتسبب المستويات المرتفعة منها في زيادة الالتهابات في الجسم.

بالإضافة إلى رصد تغيرات فيزيائية في الخلايا العصبية في «حُصين الفئران»، وهي منطقة تلعب دورًا محوريًا في الذاكرة المكانية.

تلك التغيرات السابقة وصفها الباحثون بالمقلقة والمدهشة.

 
/ pxfuel

هواء ملوث = اكتئاب بين السكان

أيضًا، توصلت عدة أبحاث علمية إلى أن الزيادات الطفيفة في معدل التلوث يقابلها ارتفاع كبير في معدل إصابة السكان بالاكتئاب والقلق، حتى لو كان التعرض للتلوث مؤقتًا.

فبحسب دراسة أجريت عام 2019 في الولايات المتحدة والدنمارك توصل الباحثون إلى أن التعرض لتلوث الهواء يساهم في الرفع بنسبة 17% من حالات الاضطراب ثنائي القطب و6% من حالات الاكتئاب و20% من حالات اضطراب الشخصية بين سكان المدينة المُعرضة للتلوث، ولم تكن الدراسة السابقة الوحيدة التي توصلت إلى هذه النتيجة، فهناك دراسة علمية إسبانية استطاعت الربط بين زيادة تلوث الهواء والإصابة بالاكتئاب وتعاطي الأدوية النفسية.

هذه النتائج يمكن قياسها بشكل محدد مثلما فعل الباحثون في جامعة ويسكونسن الأمريكية، الذين توصلوا إلى أن خطر التعرض للضغوط النفسية يزداد بالتوازي مع التعرض لجسميات التلوث الدقيقة في الهواء، ففي المناطق ذات مستويات التلوث العالية كانت درجات الضيق النفسي أعلى بنسبة 17% من المناطق التي تنخفض بها مستويات التلوث.

وبالطبع كلما ازداد معدل الإصابة بالأمراض النفسية ارتفع إشغال الأقسام النفسية في المستشفيات، ذلك ما برهنته دراسة منشورة في المجلة البريطانية للطب النفسي، فتؤكد الدراسة أن الأشخاص الذين يتعرضون لمستويات تلوث عالية -حددوها بأكثر من 15 ميكروغرام/ متر مكعب- مُعرَّضون لدخول قسم الطوارئ النفسية في المستشفى بنسبة أعلى 18% من غيرهم، أما حاجتهم للمتابعة في العيادات النفسية الخارجية فهي أكثر بنسبة 32% من الأشخاص الذين يقيمون في مناطق أقل تلوثًا.

زيادة معدلات الجريمة

الأمر ليس مبالغة فعند زيادة معدل تلوث الهواء في إحدى المدن تزداد على الناحية الأخرى الجرائم التي تُرتكب في شوارع المدينة، هذا ما نجح الباحث سيفي روق بكلية لندن للاقتصاد في الوصول إليه من خلال تحليل البيانات الذي قام به.

أجرى فريقه البحثي تحليلًا لسجل الجرائم والجنايات في 600 دائرة انتخابية بلندن ولاحظوا أنه كلما ارتفع مستوى التلوث ازداد عدد الجنح والمخالفات المرتكبة في الدائرة، ولا يرتبط ذلك بفقر أو غنى المنطقة.

من المثير للاهتمام أن الفريق البحثي راقب مسار سحابة من الهواء الملوث لقياس تأثيرها على المناطق التي ستمر بها على مدار عدة أيام، ووجدوا أنه بالفعل ارتفعت معدلات الجريمة في المناطق التي مرت بها تلك السحابة، وبحسب الدراسة أيضًا فمعدلات التلوث المعتدلة وفقًا لتصنيف وكالة حماية البيئة الأمريكية أدت كذلك إلى زيادة معدلات الجرائم مما يشير إلى خطورة الأمر.

ننتقل إلى دراسة أخرى أجريت في أمريكا حللت بيانات سجلات الجرائم في جميع المدن الأمريكية على مدار تسع سنوات، وتوصلت إلى أن تلوث الهواء يعد مؤشرًا مهمًا على ارتفاع معدل ارتكاب الجنايات والجرائم الخطيرة، مثل القتل الخطأ والاغتصاب وحوادث السطو وسرقة السيارات والاعتداءات.

ولفهم العلاقة بين تلوث الهواء وازدياد الجريمة عملت الدراسة المذكورة على إقامة تجربة عرض فيها الباحثون على بعض المشاركين صورًا لمدن شديدة التلوث، وطلبوا منهم أن يتخيلوا أنهم يعيشون هناك، ولاحظوا أن المشاركين أصبحوا أكثر توترًا وأنانية وهما استجابتان تزيدان احتمالية الإقدام على سلوكيات عنيفة وطائشة.