ما إن أعلن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين الحرب على أوكرانيا حتى تلقّى دعمًا حافلاً من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وعلى رأسها البطريرك الأكبر كيريل، الذي يتمتّع بعلاقة وثيقة ببوتين استفاد منها الطرفان في تحقيق مصالحهما.

في ظل هذه المكانة التي باتت عليها الكنيسة الروسية يصعب تصوّر أنها كانت على وشك التدمير -بأمرٍ من السُلطة الروسية- منذ عقودٍ معدودة، أما الآن فقد باتت لاعبًا رئيسيًّا للكرملين وأحد كروت القوة الناعمة الرئيسية لموسكو، فكيف حدث هذا التحوّل؟

كيريل لبوتين: الله معك

في أبريل من هذا العام، دعا البطريرك كيريل رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مواطنيه إلى الالتفاف حول حكومة بلادهم حتى تتمكّن من «صد أعدائها في الداخل والخارج».

لا يُعدُّ هذا الموقف مستغربًا، فالكنيسة الروسية دعّمت الحرب في أوكرانيا منذ لحظاتها الأولى، ووقفت في خندقٍ واحد مع القيادة الروسية، رغم الصفة العالمية التي تتمتّع بها الكنيسة التي ينضوي تحت لوائها 165 مليون مسيحيي داخل روسيا وخارجها.

واجتهدت الكنيسة الروسية كثيرًا في إضفاء الشرعية على تلك الحرب عبر تصويرها للروس على إنها إعادة توحيد للأراضي الأرثوذكسية تحت راية واحدة، كما صوّر كيريل الحرب باعتبارها معركة تاريخية ليس بين بلدين ولا حتى بين معسكرين يتنازعان حُكم العالم، ولكن بين الشرق المتدين وبين الغرب المنحل الذي يُبيح الشذوذ.

وبشكلٍ مباشر صرّح كيريل أن «الله يقف إلى جانب روسيا».

تأييد البطريرك الروسي لم يقف عند حدّ التصريحات الساخنة وإنما فعل ما هو أكثر بعدما كرّم بعض العسكريين المشاركين في الحرب، مثل رئيس الحرس الوطني الروسي (قوة عسكرية روسية محلية تقاتل بعض فيالقها في حرب أوكرانيا) ومنحه أيقونة «المحاربين الشباب». أيضًا قاد كيريل صلاة خاصة دعا فيها للجنود الذين يُقاتلون من أجل «الاستقلال الحقيقي» لروسيا.

هذا الموقف التأييدي الحار يثير تساؤلات منطقية حول حجم استقلالية الكنيسة الروسية في ظِل حُكم بوتين، وسط انتقادات دولية كبرى لموقف البطريرك الروسي الذي وصفته الكثير من الصحف العالمية بـ«بابا بوتين».

تاريخ محاولات السيطرة

لنعرف مدى حقيقة هذا الأمر، سيكون علينا الرجوع إلى الخلف عدة قرون، وتحديدًا في القرن الـ18 الميلادي.

بدأ القيصر بطرس الأكبر مساعيه للسيطرة على الكنيسة وفرض هيمنة الدولة على قرارها، وهو ما أثار استياء رجال الدين الروس فلم يدافعوا عن النظام الملكي خلال ثورة البلاشفة ضد عام 1917م.

أَمِل رجال الكنيسة في الحرية لكن الحكم البلشفي كان أبعد ما يكون عنها، تبنّى الثوار الجُدد أجندة إلحادية تعارض الدين بالكُلية، وهو ما دفع بالقساوسة الروس إلى أخذ خطوة للوراء لعلّها تحفظ كنيستهم من الضياع؛ في 1927م أعلن البطريرك تيخون ولاءه التام للاتحاد السوفييتي، رغم ذلك فإن السياسة البلشفية العدائية تجاه الكنيسة لم تتوقف، بل وكادت أن تنتهي بتدمير هيبة الكنيسة تمامًا لولا غزو ألمانيا للبلاد في الحرب العالمية الثانية.

خلال الحقبة الشيوعية، جرى الاستيلاء على أراضي الكنيسة، وقُتل قرابة 200 ألف رجل دين، ودُمّرت 40 ألف كنيسة وفقًا لتقرير لجنة روسية رسمية، حتى اجتاح النازيون حدود البلاد وحقّقوا مكاسب هائلة فور اندلاع عمليتهم الشهيرة «بارباروسا» (Barbarossa)، تعرّض بموجبها الجيش الأحمر لخسائر جمّة، وهو ما دفع القائد السوفييتي إلى فك الحظر على الكنائس الروسية وتنشيط دورها لتحفيز الشعب على القتال ضد الألمان. مثّلت تلك الإجراءات قُبلة الحياة التي أعادت الكنيسة الروسية إلى الروح مُجددًا، لكن بعد أن تعلّم قساوستها الدرس غاليًا؛ لا حُرية دينية في روسيا إلا وفقًا لما يسمح به الحاكم.

عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، عاشت البلاد في فوضى فكرية لم تكن الكنيسة بمعزلٍ عنها، لذا لم تُسجّل أدوارًا كبيرة للبطريرك ألكسي الثاني، الذي تولّى قيادة الكنيسة خلال تلك الفترة، وظل هذ الوضع مستمرًا حتى أتى بوتين إلى السُلطة.

بوتين: الكنيسة «قوة ناعمة»

تربّى بوتين في كنف أمٍّ مسيحية ملتزمة حرصت على تعميده رضيعًا (وُلِد عام 1952م) بالرغم من الظروف الصعبة التي عاشها البلد الذي خرج مدمرًا من الحرب العالمية الثانية.

لاحقًا سيكبر هذا الرضيع وسيشغل سلسلة مختلفة من المناصب الأمنية حتى يغدو رئيسًا لروسيا. ما بين عامي 2000م و2008م خاض الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين ولايتيه الأوليتين، وفي كليهما لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا باستغلال الكنيسة ضمن مشروعه السياسي لإعادة روسيا من مرقدها ولبسط نفوذها على البلاد المحيطة بها وتحديدًا في أوكرانيا وبولندا.

هذا الوضع تغيّر عام 2009م، الذي تزامَن مع وصول البطريرك كيريل إلى منصبه. سريعًا بدأت الكيمياء تظهر بين الرجلين ذوي العُمر المتقارب، ونجح كيريل (75 عامًا) في إقناع بوتين (69 عامًا) وحليفه ميدفيديف بردِّ عددٍ من ممتلكات الكنيسة إليها وبهذا القرار صارت الكنيسة أغنى مؤسسة في روسيا، وكذا لعبت الكنيسة أدوارًا وعظية في قطاعات التعليم والجيش.

تقول إيرينا بابكوفا (Irina Papkova) أستاذ العلاقات الدولية ومؤلّفة كتاب «الكنيسة الأرثوذكسية والسياسة الروسية»، إنه أصبح من المعتاد الاستعانة بقساوسة أرثوذكس في مناسبات -بعيدة عن الدين- مثل مباركة الإنشاءات الجديدة ومبارَكة الرئيس نفسه، الرئيس الذي لم يعد يخلع من رقبته سلسلة يتدلّى منها صليب كبير الحجم قيل إنه هدية من والدته.

تبنّى كيريل خطابًا وعظيًّا ذا دلالاتٍ سياسية قحّة مثل هجومه المتكرر على الغرب -أعداء بوتين- باعتباره مجتمعًا منحلاً لا يمتلك التقاليد التي نشأ عليها الروس، وأيضًا اعتبر البطريرك أن قوة الكنيسة تزيد من تماسُك الهوية الروسية الوطنية.

خلال عامي 2011م و2012م حينما اندلعت موجة احتجاجات ضد بوتين وسط اتهامات له بتزوير الانتخابات ومعارضة استمرار وجوده في السُلطة، أظهر البطريرك دعمًا كبيرًا لبوتين بسبب «الاستقرار والازدهار اللذين نجح في تحقيقهما خلال ولايته» بعكس فترة التسعينيات المضطربة، ووصف كيريل بوتين بأنه «معجزة من الله».

اعتبر بوتين أن دعم الكنيسة (80% من الروس أرثوذكس) سيحميه من موجة الاحتجاجات العنيفة التي طالته في 2011م، لذا اهتمّ بتوثيق علاقته بها فور بدء ولايته الثالثة المثيرة للجدل. الانضواء تحت العلم الأرثوذكسي لن يثبّت عرش بوتين وحسب ولكنه سيساعده كثيرًا في بسط نفوذه خارج البلاد أيضًا.

فلقد تزامَن تحالف «بوتين- كيريل»، مع محاولات بوتين المستمرّة تقديم نفسه كمدافع عن القيم الروسية المحافظة فعارض المثلية الجنسية والحق في الإجهاض، ودعّم من جهود تقوية «الأسرة التقليدية» باعتبارها حجرًا أساسيًا لبناء المجتمع الروسي.

واعتبر بوتين أن القوة الناعمة التي تمتلكها المسيحية الأرثوذكسية ستسمح له بالتوسّع أكثر فأكثر، خاصة إذا ما علمنا أن 70% من سكان 9 دول مجاورة لروسيا هم مسيحيون أرثوذكس، وكلها دول سوفييتية سابقة لا تزال تحمل الهوى الروسي في جيناتها، وبالطبع فإن موسكو تراها بيئة مثالية لبسط سيطرتها.

وبحسب استطلاع رأي أجراه مركز «بيو» الأمريكي (Pew Research Center) للأبحاث الاجتماعية، فإن أكثر من نصف من طُلبت آراؤهم لم يفرّقوا كثيرًا بين الهوية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية، وقال تقرير المركز نصًّا «أي مسيحي أرثوذكسي -ليس فقط الروس- يُبدي وجهة نظر متفهّمة لموسكو، ويعتبر أن الدولة الروسية مصدر مهم للتفوق الثقافي وحصن أمان من الغرب».

وفي عام 2013م، صرّح بوتين بأن الكنيسة الأرثوذكسية يجب أن تلعب دورًا أكبر في قيادة الحياة الاجتماعية بروسيا، كما حرص على حضور الحفل الذي أقيم لكيريل بمناسبة مرور 4 أعوام على ترسيمه بطريركًا، حيث قال بوتين «إن الإيمان يقع في قلب كل انتصارات وإنجازات روسيا».

في العام التالي مباشرة، ردَّ البطريرك كيريل التحيّة بأحسن منها، بعدما تجاهل أن قرابة 30% من رعيته أوكرانيون وأيّد بوتين على طول الخط خلال أزمته مع أوكرانيا، وتحديدًا عقب اندلاع أزمة ضم شبه جزيرة القرم. هذه الخطوات كان لها تأثير هائل على وحدة الكنيسة نفسها، بعدما طالب أوكرانيون بالانفصال عنها، وهو ما لم يُبالِ به كيريل في خضم تأييده المستمر لبوتين.

حقّقت خطة بوتين نجاحًا كبيرًا لدرجة رفعت شعبية بوتين داخل اليمين الديني في أمريكا ذاتها، فأثنى المبشر الأمريكي الشهير فرانكلين جراهام (Franklin Graham) على قرار بوتين بحظر «الدعاية للعلاقات الجنسية غير التقليدية»، لم يكتفِ جراهام بذلك وإنما سافر إلى روسيا حيث قابل بوتين وكيريل، وهناك أعلن «أن ملايين الأمريكيين يرغبون في أن يترشّح بوتين لرئاسة الولايات المتحدة»!

هذا الزخم الديني اليميني المؤيّد لبوتين حول العالم دفع مجلة «بوليتيكو» لوصف روسيا بأنها «زعيمة اليمين المسيحي العالمي».

وهو ما يدفعنا للكشف عن أن ما حدث مع أوكرانيا تكرّر بشكلٍ مشابه -أقل حِدة- مع دولٍ أوروبية شرقية أخرى مثل مولدوفا والجبل الأسود، التي حاولت تطوير علاقتها بأوروبا فنال قادتها انتقادات حادة من رجال الدين الأرثوذكس باعتبار أن هذه الخطوات ستغضب موسكو «الوصية على القيم المسيحية».

لكن عدم تطوّر تلك الانتقادات إلى خطوات أكثر عنفًا لم يسمح لنا بالتركيز على هذه الأزمات الصغيرة حينها.

حرب أوكرانيا الأرثوذكسية

قبل يومين من غزوه أوكرانيا، برّر بوتين تلك الخطوة بأن أوكرانيا «جزء من الفضاء الروحي» لروسيا، وهو تصريح يُمكن فهمه في السياق العام الذي أنبت فيه بوتين هويته السياسية طوال العقد الماضي، باعتباره راعيًا لـ«الفضيلة المسيحية والمجد الروسي القديم»، لذا يُمكننا تسمية هذا النهج السياسي الجديد بأنه «مسيحية قومية» ترى روسيا المركز الروحي للعالم المتدين المقاوِم لرذائل الغرب العدو التقليدي والأبدي.

وبالطبع فإن هذه المعركة لم تكن لتتم إلا بعد استدعاء أيقونة في التاريخ المسيحي الأرثوذكسي، هو الأمير فيلاديمير، الذي أسّس أول إمبراطورية روسية كبرى في التاريخ، كما رعَى تدشين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي أعلنته قديسًا بسبب جهوده في تحويل أمة الروس الوثنيين إلى المسيحية.

تضمّنت إمبراطورية فلاديمير الأول ما عُرف بِاسم «روسيا المقدسة» التي تشمل أراضي روسيا وأوكرانيا حاليًا، واحتلّت عاصمته مكان «كييف» العاصمة الأوكرانية الحالية.

وبحسب الأساطير المحلية فإن فلاديمير الأول أجرى لشعبه عمليات تعميد جماعية على ضفاف نهر دنيبر، مهّدت لتخليد ذكراه كمؤسِّس أول للإمبراطورية الروسية المقدّسة التي احتلّت مكانة بارزة في العالم المسيحي -الشرقي تحديدًا- عقب سقوط الإمبراطورية البيزنطية على أيدي العثمانيين.

في الحرب الأخيرة، لم يكن غريبًا أن تُبرّر تلك العملية العسكرية المباغتة بأنها إعادة بديهية لأوكرانيا إلى حظيرة «روسيا المقدسة»، لم يتوقّف بوتين عن استدعاء سيرة الإمبراطور المؤسس في الآونة الأخيرة، وهو ما دفع عددًا من وسائل الإعلام الغربية لزعم أن بوتين يسعى ليذكره التاريخ بالقديس فيلاديمير الثاني.