ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناسَ جميعًا..
سورة المائدة – آية 32

قد يبدو عنوان المقال غريبًا في نص مُوجَّه إلى الجمهور العام، وليس في دورية طبية متخصصة، وقد يعتبر بعض القرّاء من المقيمين في مجتمعات مستقرة أن الموضوع بعيد نسبيًا عن الواقع، لكن هذا ليس بصحيح، فالموضوع ليس بعيدًا كل البعد كما نظن، ويمكن أن يجد أيٌّ منّا نفسه في موقف بالغ الخطورة بجوار مصاب بطلق ناري أصبح بين الحياة والموتِ حرفيًا، ويمر العد التنازلي المخيف لإطباق فكيّ الموت على روحه بسرعة جنونية.

شاهدنا قبل أقل من 3 أعوام كيف فوجئ المصلون العزَّل في أحد مساجد نيوزيلندا بمُسلح إرهابي يُطلق زخات الرصاص عليهم فيُوقع العشرات منهم مصابين، هل كان يخطر ببال أحد هؤلاء المصلين وهو يغادر منزله إلى المسجد ولو باحتمال 0.01%، أنه سيمر بمثل هذا الموقف في بلد شديد الأمن والاستقرار مثل نيوزيلندا؟

كذلك، لا تكاد تمر بضعة أسابيع من دون أن تنقل لنا قنوات الأخبار العالمية واقعة إطلاق نار عشوائي في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل واقعة إطلاق النار في مدرسة ناشفيل في ولاية تينيسي في مارس/آذار الماضي من عام 2023، التي راح ضحيتها 6 أشخاص منهم 3 أطفال، ويذكر المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC أنه في عام 2020 فقط، كان هناك أكثر من 45 ألف قتيل بطلق ناري في الولايات المتحدة الأمريكية وحدَها، وهو بلد لا يشهد حربًا كفلسطين المحتلة، أو سوريا الشقيقة… إلخ.

والآن تنقل لنا الشاشات أنباء الصراع المسلح في السودان، الذي راح ضحيته حتى الآن المئات، وأُصيب الآلاف، وجلُّهُم مصابون بطلقات نارية، ومن بين المصابين كثير من المدنيين الأبرياء، وهناك ضغط شديد على خدمات الإسعاف والطوارئ، مما يضع مسؤولية أكبر على عاتق عامة الناس من غير الأطباء لإنجاد الضحايا، لا سيّما في الدقائق الحرجة الأولى بعد الإصابة.

ولذا، فالتدرب على عمل الإسعافات الأولية بوجه عام، ومنها كيفية التحرك الفعَّال لإنقاذ المصابين بالطلقات النارية، لم يعد رفاهية أو علمًا مخصوصًا بالطواقم الطبية، ويمكن للدقائق القليلة التي تمر بعد الإصابة بالطلق الناري (والتي تسميها بعض المراجع الطبية بالدقائق العشرة البلاتينية، تدليلًا على أهميتها البالغة) ولحين وصول الخدمة الطبية الطارئة، أن تُحدث فارقًا كبيرًا في سبيل نجاة المصاب.

اقرأ أيضًا: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطواريء الطبية الحرجة

والآن ننتقل إلى السؤال الرئيسي لمقالنا هذا: كيف نتصرَّف إذا فوجئنا بمصابٍ بطلقٍ ناري إلى جوارنا؟

كالعادة، عبر عناوين سريعة، وفقرات مُركَّزة، سنعرف ما الذي يمكن لأشخاص عاديين فعله للمساهمة بدورٍ فارق في إنقاذ حياة المصابين بالطلقات النارية. ويمكن أن نلخصَ الجُهدَ المطلوب لإنقاذ حياة المصابين بالطلقات النارية، في وصفيْن رئيسيْن: الذكاء والسرعة، ولإدراك أهمية هذا الموضوع، نذكر أن المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC ينبه إلى أن العديد من وفيات إصابات الطلقات النارية لا تحدث فورًا، إنما بعد وقتٍ من إصابات غير قاتلة لكنَّها لم تتلقَ العلاج الفوري المناسب. 

اقرأ أيضًا: حوادث المنزل: دليلك لإسعاف طفلك في الدقائق الأولى

1. حماية نفسك أولًا وحماية الضحية

من البديهيات، أنك إن أصبحت تحتاج إلى من يُنقذُك، فلن تستطيع أن تنقذ أحدًا. لذا، يجب أولًا أن تكون مطمئنًا لأمانك الشخصي قبل أن تندفع وتقوم بواجبك في سبيل إنقاذ الآخرين، حتى لا يصبح هناك مصاب إضافي بطلق ناري راقد بجوارهم، ويحتاج إلى منْ ينقذه هو، وتتضاءل فرص نجاة الجميع أكثر.

فإذا كان الموقف عبارة عن واقعة إطلاق نار عشوائي، وتنهمر زخات الرصاص من حيث تدري ولا تدري، فلزامًا عليك هنا أن تحميَ نفسَك أولًا بالانبطاح أرضًا، وأخذ ما تراه حولكَ مناسبًا بجوارك كساتر من الرصاص، وأغلق صوت هاتفك حتى لا يتعرَّف المعتدي على موقعك من خلاله، وأغلق المكان الذي تختبئ بداخله بما تيسَّر حولَك من عوائق مثل قطع الأثاث… إلخ.

اقرأ أيضًا: عقدة المُنقِذ: شعرةٌ بين النبل والاضطراب

فإذا اطمأنَنْتَ، تحرّك، وقم بسحب المصاب إلى مكانٍ آمن، خلف حائطٍ مثلًا أو في غرفة جانبية… إلخ لحمايته هو الآخر من إصابة طائشة جديدة، وكذلك لكي تستطيع الشروع في عملية الإنقاذ والإسعاف بلا خوفٍ أو توتر يؤثر سلبًا على فاعليتك.

وإذا كانت الإصابة بالخطأ (كان المصاب جنديًا ينظِّف بندقيته فأطلق على نفسه الرصاص خطأً) فأبعِد البندقية خارجًا مع جعل فوهتها بعيدًا عنكم تجنبًا لوجود خللٍ بها قد يؤدي إلى انطلاق رصاصة أخرى.

2. طلب المساعدة فورًا

أي حالة إصابة بطلقٍ ناري هي طوارئ طبية عالية الخطورة، حتى إذا كان المُصاب يبدو أمام ناظريْك بحالةٍ معقولة، ويتحدث جيدًا، وبوعي كامل، فقد يكون هناك نزيف داخلي يتزايد، وخلال دقائق قد تنهار علاماته الحيوية وتصبح حياته على المحك، ولذا، فبعد الاطمئنان على أمانك الشخصي وأمانه، فالأولويةُ هي طلب الخدمة الطبية الطارئة إذا كانت متاحة، أو أقرب وسيلة مواصلات يمكن أن تحملك مع المصاب إلى المستشفى، بينما تُجرى الإسعافات الأولية لكسب الوقت لحين الوصول إلى الخدمة الطبية الكاملة. 

وفي حالة وجود إصابات عديدة في نفس الموقع، وتعذر نقل الجميع في نفس الوقت لتلقي الخدمة الطبية الطارئة، فالأولوية تعطَى للحالات المصابة في الجزء العلوي من الجسم (الصدر والبطن) لأنها الأخطر في المضاعفات، والأعلى في احتمالات الوفاة سريعًا، وكذلك الحالات التي يتعذَّر إيقاف النزيف الدموي فيها بالطرق الأوليَّة المتاحة. 

3. اعرف حدود قدراتك

حالات الإصابة بالطلق الناري كما ذكرنا في الفقرة السابقة، من أخطر حالات الطوارئ الطبية، وغالبًا ما تتطلب تضافر جهود عدة تخصصات طبية بشكلٍ عاجل مثل الطوارئ والجراحة بتخصُّصاتها المتنوعة والعظام والعناية المركزة… إلخ. وبالتالي، فالشخص العادي، أو حتى الطبيب غير المختص، قصارى ما يمكنه فعله لإنقاذ حياة مثل هذا المصاب، هو تأمينه بعيدًا عن المزيد من الطلقات، وإيقاف النزيف ما أمكن، ريثما تصل الخدمة الطبية الطارئة في أسرع وقت ممكن.

4. انسَ ما تشاهده في السينما

للأسف تدفع الضرورات الدرامية صنَّاع السينما أحيانًا إلى إغفال أبسط الحقائق الطبية في مشاهد الأفلام التي يظهر فيها مصابون بالطلقات النارية، وبالتالي ينشرون خطأً بعض المفاهيم الخاطئة عن عمليات الإسعاف الأولية. من أبرز أمثلة ذلك، مسارعة المحيطين بالمصاب إلى إعطائه ماءً أو عصيرًا… إلخ، وهذا خطأ فادح لا سيَّما في إصابات البطن التي غالبًا ما يصاحبها انثقاب في الأمعاء أو غيرها من أجزاء الجهاز الهضمي، حيث سيزيد من خطورة تسرب محتويات الجهاز الهضمي إلى الغشاء البريتوني، وحدوث تسمم عام، وتسريع الوفاة، كذلك قد يصل بعض هذا الماء أو العصير… إلخ بالخطأ إلى الجهاز التنفسي، فيسبب التهابًا رئويًا شديدًا.

كذلك من الأخطاء الشائعة رفع ساقيْ المريض لأعلى، فهذا قد يؤدي إلى زيادة حجم النزيف من جروح البطن والصدر، وقد يعيق حركة الحجاب الحاجز الحيوية من أجل التنفس، والأفضل في العموم هو وضع المريض فيما يعرف بوضع النقاهة  recovery position، حيث يوضع على أحد جانبيه، مع ثني الساق العليا، حيث يمنع هذا الوضع لا سيما في حالات اضطراب الوعي من ازدراد الدم أو اللعاب إلى الجهاز التنفسي. 

الخلاصة: لا تأخذ معلوماتك الطبية من السينما، إنما من المواقع الطبية والمصادر الموثوقة.

5. إيقاف النزيف.. إيقاف النزيف.. إيقاف النزيف 

إيقاف النزيف هو الأولوية الكبرى في عملية الإنقاذ؛ فقد أكدت إحدى الدراسات العلمية الحديثة عام 2017 أن السبب الأول لوفاة المصابين بالطلق الناري هو النزيف الدموي، وقد يفقد بعض المصابين حياتهم خلال 5 دقائق فحسب نتيجة نزيف دموي شديد.

باستخدام قطعة من القماش أو ملابس المصاب، أغلق مصدر النزيف بالضغط بقوة لبضع دقائق أو أكثر وفقَ ما يستلزمه الوضع، لإتاحة الوقت لتجلُّط الدم الذي يوقف النزيف تمامًا، وفي حالة وجود نزيف شديد في ذراع أو ساق، يتعذر إيقافه بالضغط المباشر على موضع النزيف، يمكن استخدام قطعة من القماش كعصابة tourniquet لا سيما إن كانت القطعة تحتوي على (أستِك)، وربطها بحزم على مسافة بضعة سنتيميترات أعلى موضع النزيف، لتغلق وصول الدم من الشريان القادم من القلب. 

وإذا كان عندك بعض الخبرة الطبية (طالب طب – طبيب مبتدئ- ممرِّض… ) فيمكن بعد إيقاف النزيف، ولحين وصول الخدمة الطبية الطارئة، أن تركَّب للمصاب كانيولا وريدية وتعطيه عبرها محلول ملح بالضخ الوريدي (يمكن شراء تلك المستلزمات من أية صيدلية)، فهذا يعوض الدورة الدموية مؤقتًا عما فقدته من السوائل، ويحافظ على استقرار العلامات الحيوية إلى حين.

6. سد الجروح 

إصابات الصدر بالرصاص من أخطر الإصابات، فإلى جانب احتواء الصدر على أعضاء حيوية خطيرة كالرئتيْن والقلب، فإن تلك الإصابات تؤدي إلى تسرب الهواء إلى الغشاء البلوري المحيط بالرئتيْن pneumothorax، مما يرفع الضغط حول الرئة، فيمنع امتلاءَها بالهواء، ويقطع عملية التنفس الطبيعية، وقد يؤدي ذلك إلى الوفاة، ولذا، فغلق مثل هذه الجروح من الخارج فورًا بضمادة، أو قطعة قماش، من الأولويات، لمنع المزيد من التسرب الهوائي.

7. الإنعاش القلبي الرئوي CPR

إذا كان المصاب فاقدًا للوعي ولا يستجيب لمحاولات الإيقاظ، اختبر فورًا وجود النبض في شريانه السباتي بالعنق، وكذلك وجود التنفس عبر الحركة التلقائية للصدر والبطن، فإذا غاب النبض والتنفس، فنحن أمام حالة توقف في القلب cardiac arrest، وإنه خلال أقل من دقيقة ستبدأ أنسجة المخ المهمة في التلف نتيجة حرمانها من الدم والأكسجين، وخلال دقائق قليلة سيفارق الشخص الحياة نهائيًا.

في هذه الحالة، يجب طلب المساعدة فورًا (فلن تستطيع بمفردك إتمام الإنعاش الذي يتطلب مجهودًا كبيرًا بالتبادل بين أكثر من مسعف) ثم الشروع في الإنعاش القلبي الرئوي CPR وأهمه الانضغاطات الصدرية، باستخدام الذراعيْن المفرودين، مع توجيه الضغط إلى منتصف صدر المصاب، بمعدل نحو 120 انضغاطة في الدقيقة، وتعمل هذه الانضغاطات على تحريك الدورة الدموية مؤقتًا للحفاظ على سلامة الأعضاء الحيوية وفي مقدمتها المخ، لحين وصول الخدمة الطبية المتقدمة القادرة على إتمام إجراءات الإنعاش، ومعرفة سبب توقف القلب والتعامل معه، وفي هذه الحالة سيكون غالبًا هو هبوط شديد في الدورة الدموية نتيجة فقدان كمية كبيرة من الدماء في نزيف داخلي أو خارجي، أو إصابة مباشرة في أحد الأعضاء الحيوية لا سيَّما القلب أو المخ.

الخلاصة: ما يعنيكَ هنا كمنقذٍ هو إجراء الانضغاطات الصدرية لحين وصول المساعدة الطبية، مع إيقاف أي مصدر نزيف خارجي يظهر أمامك كما أوضحنا في الفقرة السابقة.

اقرأ أيضًا: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطوارئ الطبية الحرجة