يعتقد الكثيرون أن وسائل التواصل الاجتماعي هي العامل الرئيسي في نشوء الحركات السياسية والاجتماعية خلال العقد الماضي، وهو ما يمكن فهمه بسهولة،فصعود مواقع «فيسبوك» و«تويتر» والتقنيات الأخرى منذ منتصف عام 2000 صاحبته زيادة كبيرة في الانتفاضات الشعبية خلال الفترة نفسها.وسواء كانت لهذه المواقع الفضل في تنظيم الثورات في مصر وإيران وتعقب تحركات القوات الروسية في أوكرانيا أو توفير معلومات آنية للمحتجين في السودان، فمن المفترض أن وسائل التواصل تمنح النشطاء مميزات.يُعد هذا افتراضًا منطقيًا، فهناك فعليًا وسائل عديدة يمكن أن تقدم من خلالها هذه التقنيات المساعدة والعون. ولعل الشيء الأبرز هو أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكنها التقليل من تكاليف التواصل لمعرفة مكان وعدد وأسباب الاحتجاجات بين عدد كبير من الأشخاص كما حدث إبان ثورة «اليورو ميدان» في أوكرانيا عام 2014.منصات أخرى مثل موقع يوتيوب يمكن أن تسهم في الترويج للمعلومات والإرشادات الخاصة المتعلقة بكيفية تنظيم الاحتجاجات بشكل فعال؛ مما يساعد الحركات على بناء القدرات التنظيمية. وحال تم حظر التجمعات، فإن المواقع الرقمية مثل «فيسبوك» و «ريدت» يمكن أن تخلق منصات لظهور منابر جديدة وافتراضية عامة يصعب إغلاقها.

http://gty.im/153247143

ويرى المتحمسون للإنترنت أن المواقع الإلكترونية تخلق مساحة للحوار في خضم الصراع وتقدم خيارات في السياسات للعامة والنخبة على الرغم مما تفرضه الحكومة من رقابة.وبطبيعة الحال، يتيح الإنترنت للنشطاء الترويج لآرائهم الخاصة وهو الأمر الذي له أهمية خاصة، لاسيما عندما تكون وسائل الإعلام العامة خاضعة لسيطرة الحكومة.

ما سبق طرحه مفهوم للكثيرين، ويلقى رواجًا على منصات النقاش الواقعية والافتراضية، فقد شهدنا فعليًا الكثير من جولات التعبئة الجماهيرية منذ ظهور الاتصالات الرقمية أكثر من ذي قبل. لكن ما تطرحه كاتبتنا،إريكا تشينويث، في مقالتها بمجلة الـ«فورين بوليسي» هو المثير للجدل، فمنصات التواصل الاجتماعي وما يطلق عليها «تكنولوجيا التحرر»، تدعم الحكومات أكثر مما تدعم مناهضيها، وتقوض الديمقراطية أكثر مما تبنيها، وينبغي أن نشير إلى أن الزيادة المذهلة لحركات المقاومة السلمية جاءت قبل اكتشاف الإنترنت، وهو الأسلوب الذي حظي بوجود واسع النطاق، وتحديدًا على يد غاندي، الذي روج لنظرية «المقاومة السلمية»، ففي حين أن قرابة 70% من حملات المقاومة السلمية نجحت خلال تسعينيات القرن الماضي في تحقيق ما تصبو إليه، فإن 30% منها فقط نجح منذ عام 2010، فما هو السبب وراء ذلك؟


هناك عدد من الأسباب لذلك؛ أولها كما وثّقثه عالمة السياسة أنيتا جوديز وهو أن الحكومات تكون أكثر قدرة من النشطاء على التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي.على الرغم من وعود سابقة بطلب عدم نشر هوية الأشخاص على الإنترنت، فإن برامج الرقابة الحكومية والتجارية جعلت الخصوصية شيئًا من الماضي. على سبيل المثال، نجحت الحكومة الروسية في اختراق اتصالات النشطاء لاستباق وسحق أصغر احتجاجاتهم.تكون تلك الممارسات شائعة في الديمقراطيات أيضًا، فعلى سبيل المثال؛ قيام الولايات المتحدة وبرنامج وكالة الأمن القومي بالتنصت على المكالمات الهاتفية دون استصدار إذن قضائي، أو تعاون موقع «ياهو» مع الحكومة الأمريكية بتسليم الشركة بيانات عن مستخدميها للحكومة.
في حين يستخدم النشطاء وسائل التواصل لنشر خروقات الحكومة، فإن العدد الأكبر من مستهدف الحشد يقع ضحية هذا الترويج، ولا يبرح مكانه خشية البطش.

تشير تقارير حديثة إلى أن أقسام الشرطة المحلية في أمريكا تراقب وسائل التواصل الاجتماعي لجمع البيانات حول المناطق التي تعمل بها. في الماضي كان يجب على الحكومة تخصيص قدر كبير من مواردها للكشف عن المعارضين، لكن في يومنا هذا يشجع المناخ الرقمي الناس على الإعلان بكل فخر عن معتقداتهم وهوياتهم الدينية والاجتماعية والسياسية؛ ما يتيح للجهات الأمنية وهيئات إنفاذ القانون استهدافهم بفعالية.وبطبيعة الحال، هناك مؤسسات تتيح للأشخاص حماية خصوصيتهم لكن قليلاً من هذه المؤسسات يصمد حال دخولها في نزاع مع الحكومة.السبب الثاني كما تراه إريكا، هو أن التحول صوب وسائل التواصل الاجتماعي من قبَل الحركات الاجتماعية ساهم في تدهور تجربة المشاركة في النشاطات، فناشطو وسائل التواصل الاجتماعي قد يُبدون اهتمامًا لبعض الوقت تجاه قضية ما، غير أنهم يفشلون في أحيان كثيرة في الانخراط بشكل كامل في الصراع. فبناء الثقة في المجتمعات المهمشة والمضطهدة يتطلب وقتًا وجهدًا وتعاملًا مستمرًا، وذلك يتطلب تواصلًا وجهًا لوجه بشكل روتيني لفترة طويلة.عندما تقوم الحركات بالحشد دون الحصول على قدر من الثقة والوحدة الداخلية، فإنها عادة ما تخضع للضغوط. فالمشاركة في الحراك الرقمي من الممكن أن يعطي انطباعًا بأن أحدًا يصنع الفارق، لكن كما يزعم إيفجيني، موروزوف مؤلف كتاب «وهم الشبكة»، أن خلق تغيير حقيقي يستلزم المزيد من التضحيات والتفاني.السبب الثالث هو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون لها أثر عكسي في فض الحشود والتجمعات عن طريق تمكين العناصر المسلحة من تهديد أو حتى تنسيق أعمال عنف منظم ضد النشطاء. على سبيل المثال؛ في خضم الانتفاضة الليبية عام 2011، قام نظام معمر القذافي بتوظيف شبكة المحمول بالبلاد لإرسال رسائل نصية تطالب الناس بالعودة إلى العمل وترك الاحتجاجات. لقد كان تحذيرًا شديد اللهجة بأن الحكومة تراقب الاحتجاجات وأن عدم الامتثال للأوامر سيكون له عواقب وخيمة. وخلص عالما السياسة فلوريان هوليناباخ وجان بييرسكالا إلى أن التوافر المتزايد للهواتف النقالة في القارة الأفريقية صحبته زيادة في أعمال العنف. العكس بالعكس، تقول إريكا إنه باستخدم النشطاء وسائل التواصل الاجتماعي لنشر ما تقوم به قوات الأمن من عنف، فإن قدرًا كبيرًا من الأشخاص ربما لا يشاركون في تظاهرات كبرى في اليوم التالي. فمثل هذه التقارير قد تكون لها عواقب غير مقصودة، فبدلًا من أن تسهم في استقطاب الحشود الغاضبة للتظاهر، فربما تسهم في إثناء الكثير ممن يريدون المشاركة خشية ما قد يتعرضون له من أعمال عنف مماثلة، ليتركوا المتحمسين والمغامرين بأية حركة لمواجهة العنف بأنفسهم.

أثارت الانتخابات الأمريكية الأخيرة قضية اللعب بآراء الجماهير وتوجيهم عبر نشر أخبار غير صحيحة، أو التركيز على أحداث دون أخرى لصالح أحد المرشحين.

ثمة عيب آخر مهم وهو أن التضليل من الممكن أن ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة أكبر من انتشار المعلومات الموثوقة. أبرز مثال في ذلك الصدد هو التقارير التي أفادت بالتلاعب الروسي بنتائج استفتاءات الناخبين في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.ويتفاقم التضليل بميل الأشخاص لاختيار مصادر إخبارية لإثبات معتقداتهم وآرائهم؛ لذا فإن أصداء الأصوات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي تساعد على انقسام المجتمعات بدلًا من توحيدها خلف قضية مشتركة. وحتى من يحاولون تحري مصادر الأخبار السليمة والموثوقة يمكن أن يتسببوا في مشكلات. مشاهدة سقوط طاغية عبر مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يشجع المعارضة في دولة أخرى لمحاكاة ذلك الأمر. ربما يحاول هؤلاء استيراد الوسائل والتكتيكات التي شاهدوا نجاحها، لكن مع وقوع نتائج كارثية ويكفي النظر إلى حالتي ليبيا وسوريا لمعرفة مخاطر ذلك.تتابع إريكا؛ لقد كان سهلًا على النشطاء في هذين البلدين متابعة اندلاع الربيع العربي في تونس ومصر ،واستنتجوا أن احتشادهم بأعداد غفيرة في الميادين العامة كفيل بإسقاط الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة لهم في بضعة أيام، لكن ذلك الاستنتاج أغفل تراكم الجهود طيلة سنوات طويلة سبقت الانتفاضتين التونسية والمصرية ليتمخض عنه نزول المواطنين بالبلدين بأعداد غفيرة؛ ما أدى أيضًا لشعور الليبيين والسوريين بالثقة الكبيرة حيال قدرة الثورات ونجاحها سلميًا.لقد خلصت دراسة كيرت وييلاند عن الثروات والتي نُشِرت عام 1848 إلى أن نشطاء العصر الحديث لا يزالون يتعلمون دروس الماضي بشكل غير سليم، لكن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تفاقم هذه المعضلة بتشجيعها على تحليل الأمور بنشر لقطات مبسطة عبر تدوينات من 140 حرفًا على «تويتر» وليس من خلال تحليل مدروس وممنهج.ويقول مالكولم جلادويل في 2010: «قديمًا كان النشطاء يُعرفون من قضيتهم بينما باتوا اليوم يُعرفون وفقًا لأدواتهم». يُعد ذلك أمرًا سيئًا عندما يتعلق ببناء حملات دعائية شعبية والحفاظ عليها لفترات طويلة.وبدلاً من قراءة المشهد بإلقاء تبعات فشل الحراك الاجتماعي في العديد من البلدان على فكرة التغيير السلمي للسلطة، ينبغي علينا تبنّي فهمًا واقعيًا يمكّننا من الوصول لأسباب فشل الحشد الجماهيري.