في عام 21هـ، وبعد ما فرغ عمرو بن العاص من فتح مصر، بنى للبلاد عاصمةً جديدة هي مدينة الفسطاط التي توسّطها مسجدٌ اتّخذ فيه عمرو بن العاص لنفسه منبرًا، وهو الخبر الذي لم يُسعد الخليفة عُمر بن الخطاب، ووفقًا لما رواه الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي في كتابه «حياة الصحابة»، فإن الخليفة الثاني أرسل إلى عمرو كتابًا يأمره فيه بكسر المنبر، قائلاً له: «أما يكفيك أن تقوم والمسلمون جلوس تحت عقبيك».

جاء أمر عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص، مواكباً لثقافة بناء أماكن الصلاة في عهده، والتي استمدها من نهج النبي في عمارة مسجده الأول، فلقد حرص الرسول والخلفاء من بعده على الالتزام بـ«البساطة المعمارية» في بناء دور العبادة رغم اطلاعهم على نماذج معمارية وفنون زخرفية متنوعة في البلدان التي كانوا يسافرون إليها في رحلتي الشتاء والصيف التجارية، سواء في اليمن والحبشة أو في الشام.

بنَى الرسول الجدران الأربعة لمسجده باللبن وسقَّف جزءًا منه بالجريد والطين، وترك الجزء الآخر مكشوفًا، وجعل أعمدة المسجد من جذوع النخيل، وجعل له ثلاثة أبواب، وهي الصورة المعمارية البسيطة التي حافَظ عليها أبو بكر الصديق ولم يُزد فيها حتى مات.

لكن في عهد عمر بن الخطاب، وبعد أن ضاق المسجد بالمصلين، قام بأول توسعة للمسجد، يحكي الصحابي أبو سعيد الخدري: أمر عمر ببناء المسجد من نفس مادة بنائه الأولى اللبن للجدران، والأعمدة من جذوع النخل، والسقف من الجريد، وحذَّر من تلوين البناء حتى لا يُفتن الناس، وفرشه بالحصباء بدلاً من الحصى.

أما في عهد عثمان بن عفان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالحجارة المنقوشة والجص، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بخشب الساج. (1)

الفتوحات الإسلامية دعوة وحضارة

جمع الإسلام شتات القبائل العربية، ودفعهم إلى ربط حركتهم في الحياة بالدين الجديد، وما يتضمنه من أفكار تدعو للمساواة بين البشر والتدبر والتفكر وإعمار الأرض، وبدأت حركة الفتوحات الإسلامية التي نجحت في «إزالة العوائق التي تقف في سبيل وصول الدعوة الإسلامية إلى شعوب الأرض» كما قال الدكتور محمد عبد الحميد في كتاب «الطابع الإسلامي للدولة الأموية». فُتح الباب على مصراعيه أمام المسلمين للاحتكاك بشتّى الأجناس والأشكال، مما أهّلهم للمُساهمة بفاعلية في تطوير حركة الحضارة الإنسانية.

وعادةً ما تُقاس مكانة الأمم بقُدرتها على دفع عجلة الحضارة نحو التقدم والرقي نحو الأفضل، إضافة إلى قدرتها على التعايش والانسجام مع معظم الحضارات، وهذا ما فعله المسلمون بعد أن «مهّدت الفتوحات الإسلامية لإقامة إمبراطورية عربية إسلامية واسعة الأرجاء ساعدت على نشر الإسلام في أنحاء العالم» (2)، بدايةً ببلاد الشام ثم العراق ومصر، وأخيراً بلاد فارس.

الإسلام وحضارات العالم القديمة

عُرفت البلدان التي دخلها المسلمون بحضارتها السابقة على الإسلام، فنجد في بلاد الشام ومصر تواجدًا للحضارة البيزنطية، أما في العراق وبلاد فارس، فنجد الحضارة الفارسية أو الساسانية.

ولم يبدأ اهتمام العرب المسلمون بالفنون التشكيلية إلا بعد انتقال مركز الخلافة الإسلامية إلى خارج شبه الجزيرة العربية، وكان ذلك في عهد خلفاء بني أمية (3)، حيث تمكّن للفنان المسلم من أن يطّلع عن قُرب على النماذج المعمارية الشامية/البيزنطية وأن يستوعب طُرُق التصميم والأساليب الفنية الزخرفية، وهو ما مكّنه، لاحقًا، من أن يُضيف لها أساليب جديدة امتزجت مع الأساليب الفنية القديمة في كل مكان ذهب إليه، ما أنتج فنونًا ذات طُرُز وأساليب جديدة، تمثل المدارس الفنية الإسلامية، والتي جاءت معبرة عن كل عصر ظهرت فيه، خاصة العصر الأموي والعصر العباسي، وعرفت تلك المدارس الفنية بالفن الإسلامي.(4)

تواصل حضارات وتناغم

الفن الإسلامي ليس نتاج دولة واحدة أو شعب واحد، بل هو فن تشكل من دمج فنون حضارات ازدهرت قبل الإسلام- وهي الحضارة الفارسية والرومانية والبيزنطية- مع اتساع مساحة الدولة الإسلامية.(5)

اهتم الحكام المسلمون بمهارة ودقة الصانع في صنعته بغض النظر عن دينه، لذلك تمت الاستعانة بأبناء البلاد التي دخلها المسلمون لتعليم الوافدين الجُدد بعض الحرف الجديدة عليهم، ومنها فنون العمارة والزخرفة المعمارية، هذا إلى جانب رغبتهم في امتلاك تحفٍ فنية تتفق مع عظمة مُلكهم الجديد.(6)

ونتج عن هذا الاهتمام من قِبَل الحكام بالصنّاع المهرة، مع تعليم العرب المسلمين حرفة العمارة والفنون الزخرفية، ما يُعرف بالفن الإسلامي، الذي جاء معبراً عن روح الإسلام وثقافة وهوية المجتمع الإسلامي التي بدأت تتشكل تدريجياً، واتسمت فنون الزخرفة الإسلامية بالتجريد والتكرار وملء الفراغ والبساطة والبُعد عن محاكاة الطبيعة في استخدام الزخارف الهندسية والنباتية، ثم الكتابية بعد ذلك.

الدولة الأموية: فجر الفن الإسلامي (41-132هـ)

في عام 41هـ، أصبح معاوية بن أبي سفيان أميرًا للمؤمنين وأسَّس الدولة الأموية، واختار أن يكون مقر الحكم في مدينة دمشق، وامتازت فترة حكم بني أمية باتساع شاسع في مساحة الدول الإسلامية؛ فامتدَّت غربًا إلى إسبانيا «الأندلس» وشرقًا إلى شمال الهند وحدود الصين.

كان اختيار الأمويين لمدينة دمشق عاصمة للخلافة، بداية لظهور الطراز الأموي وهو أول مدارس الفنون الإسلامي، وشهدت تلك الفترة أول اتصال مباشر بين الثقافة الإسلامية والحضارة الرومانية المسيحية البيزنطية في بلاد الشام ومصر.(7)

فشهدت تلك الفترة نشاطًا في حركة المعمار، وكانت عمارة المساجد لا تقلُّ في فخامتها عن الكنائس البيزنطية، وشغل الجمال البصري حيزًا كبيرًا منها، وهذا ما يمكن مشاهدته في المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمسجد الأموي، وقصر المثنى وقصر خربة المفجر، كنماذج للعمارة والزخرفة الإسلامية للعهد الأموي.

أما معمارياً فقد اتسمت العمائر الدينية «المساجد» بالتخطيط المستطيل، ووجود القباب والمآذن، والأسقف، والأعمدة، والعقود والأقواس المعمارية المستوحاة من الحضارة البيزنطية.

وذكر المقريزي في كتاب «الخطط والآثار»، أن معاوية بن أبي سفيان أمر مسلمة بن مخلد والي مصر، ببناء صوامع «مآذن» في جامع عمرو بن العاص، وتُعدُّ هذه المرة الأولى التي تُذكر فيها المآذن في تاريخ العمارة الإسلامية.

مسجد قبة الصخرة: النموذج الأقدم فنيًا

مسجد قبة الصخرة من الداخل

تظهر جميع تلك العناصر في مسجد «قبة الصخرة» فهو بناء من الحجر، مثمن الأضلاع، في كل ضلع من الخارج عقود مدببة تعلوها نوافذ، ويتوسط الأضلاع المقابلة للجهات الاصلية من المثمن أربعة أبواب، ويكسو الجزء الأسفل للأضلاع من الخارج ألواح من الرخام ومن الأعلى طبقة من القيشاني.

ويتوسط البناء الصخرة المقدسة التي عُرج منها الرسول إلى السماوات، ليلة الإسراء والمعراج، ويحيط تلك الصخرة دائرة من الدعائم والأعمدة، ويبلغ عدد الدعائم أربعاً، ويقع بين كل دعامتين ثلاثة أعمدة، وتحمل هذه الدعائم واجهة أسطوانية مغطاة من الداخل بالفسيفساء، ويوجد بهذه الأسطوانة ست عشر نافذة مزخرفة بالقيشاني من الخارج، وزخارف جصية بها زجاج ملون من الداخل، وترتكز على هذه الأسطوانة قبة خشبية مزدوجة الكسوة، من الخارج مغطاة بطبقة من ألواح الرصاص ومن الداخل بطبقة من الجص المذهب، ويفصل المثمن الخارجي عن الجزء الدائري مثمن أوسط يتكون من دعائم يكسوها الرخام وستة عشر عمودًا رخامياً ذات تيجان مختلفة الطراز، ويعلو هذه الدعائم والأعمدة عقود زينت جدرانها بطبقة من الفسيفساء ذات العناصر النباتية.

فيما بعد تأثرت معظم المساجد بهذا النوع من التصميم، مثل الجامع الأموي، الذي شُيِّد على شكل مستطيل مكون من أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وسقف كل رواق محمول على مجموعة من الدعائم والأعمدة، ويتوسط الأروقة صحن مكشوف.

ويمكن حصْر فنون الزخارف المعمارية في صناعة الفسيفساء والزخارف الجصية والنقش على الحجر والخشب، والتي زينت جدران وأرضيات جميع المباني سواء كانت دينية أو مدينة في العهد الأموي.(8)

فالفسيفساء استخدمتْ بشكلٍ واسعٍ في تغطية أرضيات القصور، كقصر خربة المَفجر، الذي شيده الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، والجدران، مثل مسجد قبة الصخرة والمسجد الأموي بدمشق، وكذلك، الزخارف النباتية والهندسية، التي تتكون من وحدات مترابطة ومتشابكة فيما بينها، مكونة وحدة مستقلة بذاتها، تزين الجدران والأسقف، كما استخدم الفنان في العهد الأموي الجص البارز المنقوش في زخرفة القصور، وأيضًا النقش على الحجر.

الدولة العباسية: ازدهار حضاري (132-656هـ)

استطاع العباسيون الإطاحة بالدولة الأموية، والجلوس على عرش الدولة الإسلامية، بالاستعانة بالعنصر الفارسي، لذلك كان لهم وجود في المناصب العليا للدولة العباسية، مما أسهم في نشر التقاليد والثقافة الفارسية في بلاد الإسلام.(9)

وظهرت التقاليد المعمارية الفارسية في تصميم وبناء مدينة بغداد أولاً، والتي أمر ببنائها الخليفة أبو جعفر المنصور، فكانت على شكل دائرة كاملة، مركزها قصر الخليفة، ويحيط بالمدينة سوران رئيسيان، يوجد في السور الداخلي أبراج مستديرة للحراسة، وكانت بذلك مدينة محصنة تحصينًا منيعًا، مثل تصميم المدن الساسانية أو الفارسية، واستخدم في بنائها الطوب اللبن والآجر.

وكرَّر الخليفة أبو جعفر المنصور، نفس التصميم في مدينة شيَّدها قرب مدينة الرقة على ضفة نهر الفرات، وظهر في عمارة المدينة العقود المدببة، التي كانت معروفة في عمارة المدائن الساسانية.

أما عن عمارة المساجد، فلم يبقَ لها نموذج سوى بقايا آثار جامع سامراء ذي المئذنة الحلزونية القريبة من شكل الأبراج البابلية المدرجة، والذي تم بناؤه في مدينة حملت نفس الاسم في عهد الخليفة المتوكل، وجامع ابن طولون في مصر، والذي شيَّده أحمد بن طولون، وظهرت فيه جميع أساليب العمارة العباسية.(10)

جامع ابن طولون: دُرة العمارة العباسية بمصر

مسجد أحمد بن طولون

جامع أحمد بن طولون بالقاهرة، عبارة عن بناء مستطيل، مُكوَّن من أربعة أروقة تحيط بصحن المسجد، أكبرها رواق القبلة، ويتكون من 5 صفوف من الدعامات يعلوها عقود مدببة تسير موازية لجدار القبلة، أما باقي الأروقة فعبارة عن صفين من الدعامات يعلوها عقود تمتد موازية لجدار الرواق، وقد حلّت الدعامات محل الأعمدة (أسلوب أموي)، وهي مستطيلة الشكل مبنية من الآجر بأركانها أعمدة مصنوعة من الآجر.

وقد بُنيت المئذنة الدرجة خارج المسجد من الحجر، وتُلاصق السور الخارجي الذي يحيط بالمسجد، وذلك لتحصين البناء كما هو معروف في العمارة الفارسية. (11)

أما الزخارف الفنية فهي مستوحاة من زخرفة العمائر الساسانية، والتي اعتمدت على الزخارف الجصية البارزة، وهي نوعان: زخارف هندسية ذات أشكال نجمية وسداسية ومربعات وتستخدم في تزيين النوافذ الجصية، وأخرى نباتية محورة تزين العقود والمحاريب والنوافذ.(12)

المراجع
  1. الدكتورة سعاد ماهر محمد، مساجد مصر واولياؤها الصالحون، الجزء الأول، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
  2. الدكتور ثروت عكاشة، موسوعة التصوير الإسلامي، مكتبة لبنان ناشرون.
  3. نعمت إسماعيل علام، فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية، دار المعارف بمصر.
  4. نعمت إسماعيل علام، السابق.
  5. الدكتور ثروت عكاشة، السابق.
  6. زكي محمد حسن، في الفنون الإسلامية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
  7. نعمت إسماعيل علام، السابق.
  8. نعمت إسماعيل علام، السابق.
  9. زكي محمد حسن، السابق.
  10. نعمت إسماعيل علام، السابق.
  11. الدكتورة سعاد ماهر محمد، السابق.
  12. الدكتورة سعاد ماهر محمد، السابق.