منذ أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية وبكل غطرسة أن تعلن أنها سيدة العالم عسكريا بلا منازع، فدمرت مدينتين يابانيتين -هيروشيما وناجازاكي- بقنبلتين نوويتين انشطارية واندماجية، بعد انتهاء الحرب فعليا، وبدون أدنى فائدة عسكرية حقيقية سوى إعلان السيطرة، ولم يتوقف السباق ثانية واحدة محاولة لمجاراة الشيطان الأمريكي، وهو السباق الذي حققت فيه الكثير من الدول إنجازاتها الخاصة، مستخدمين الكثير من الحيل اللاأخلاقية كالتجسس والاختطاف والاغتيالات، للوصول للسلاح اللاأخلاقي، السلاح النووي.

مع مرور الوقت، أدرك السياسيون عبثية هذا السباق، أو -ولنقل أن هذا أكثر منطقية- ربما أراد بعضهم احتكار أسباب القوة بين أيديهم، فبدأت الأصوات تنادي بوقف هذا السباق، ومحاولة فرض الإجراءات والمعاهدات التي تمنع الدول التي لم تمتلك سلاحا نوويا بالفعل من امتلاكه، وتحدد القدرات النووية للدول التي تحوزه بالفعل. وكما نعلم، فكل كل الاتفاقات لا تساوي عند العسكريين حتى ثمن الحبر الذي كتبت به.

أحدث تلك الاتفاقيات هي معاهدة المنع الشامل لتجارب السلاح النووي Comprehensive Nuclear-Test-Ban Treaty عام 1996. وهي الاتفاقية الغير مفعلة حتى الآن بسبب امتناع ثمان أعضاء من الأعضاء المعنيين بالإمضاء والمسجلين في الملحق رقم 2 للاتفاقية من الإمضاء و المصادقة النهائية عليها. فحتى 2012، ما زالت ثلاث دول لم تمض، وثمان دول لم تصادق، من مجموع 44 دولة. وهم مصر واسرائيل والصين وكوريا الشمالية والولايات المتحدة والهند وإيران وباكستان.

لكن، كان النتيجة الأهم لتلك المعاهدة هو إنشاء نظام عالمي لرصد التجاوزات والتجارب النووية أينما كانت، فالوصول لسلاح نووي فعال يستلزم العديد من التجارب والتفجيرات الاختبارية، والتي سيرصدها النظام فور حدوثها، ويعرف بـ نظام الرصد العالمي International Monitoring System IMS.

نظام الرصد العالمي هو أول نظام من نوعه، يعمل على مدار الأربع وعشرين ساعة، ويستخدم أربعة تقنيات مختلفة، تجمع بيانات تصل لـ 26 جيجا بايت يوميا من جميع أنحاء العالم. وللنظام محطات رصد في 89 دولة، متصلة جميعها بشبكة متكاملة من الأقمار الصناعية والكابلات الأرضية الخاصة. ويقع مركز البيانات والتحكم الخاص بيه في مدينة فيينا بالنمسا. وشاركت في إنشائه حوالي 200 دولة شاركوا في معاهدة منع التجارب النووية. وتكلف النظام مليار دولار تقريبا. ويهدف النظام لمعرفة الدول التي تقوم بتجارب تسلح نووي بطرق غير شرعية وبدون رقابة دولية من الأمم المتحدة.

(فيديو لتجربة نووية روسية، أضخم انفجار نووي في التاريخ)

1

التقنية الأولى والحاسمة في هذا النظام هي وحدات رصد النظائر المشعة والغازات النبيلة radionuclide detection الناتجة عن أي تفجير نووي سري. وتتكون من 80 وحدة رصد بجانب 16 معملا مجهزة لرصد أي أثر لتلك المواد في الغلاف الجوي، والتي تعتبر دليلا حاسما على حدوث تفجير ما، كالتجارب النووية الكورية الشمالية مثلا. وقامت تلك الوحدات في مارس 2011 برصد آثار التسرب الإشعاعي الناتج عن كارثة مفاعل فوكوشيما الياباني.

لكن، أي تجربة نووية سرية تحت الأرض، مُتحكم بها بشكل جيد، لن تؤدي لتسريبات في الغلاف الجوي، وهنا يأتي دور المجسات تحت الأرضية seismic stations. فالنظام يستخدم تقنية خاصة تتكون من 50 مجسا أساسيا و120 مجسا احتياطيا في شبكة متكاملة تحت الأرض، تهدف لرصد أي نشاط اهتزازي أو زلزالي بقوة أكثر من 3 ريختر. وترصد تلك الشبكة حوالي 130 حدث يوميا بين زلازل صغيرة وانفجارات تعدينية أو إنشائية، أو أي انفجار نووي تجريبي في عمق الأرض. ويقول جيرهارد جراهام Gerhard Graham منسق مركز بيانات النظام والذي يدار بمعرفة اللجنة التحضيرية لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية Preparatory Commission for the Comprehensive Nuclear Test Ban Treaty Organization: “نظام قياس الاهتزازات الأرضية شديد الحساسية، ويمكنه أن يقيس أي اهتزاز أرضي نانومتري“. ويستخدم النظام أيضا لمساعدة الجيولوجيين في مناطق الأحزمة الزلزالية لمساعدتهم في التنبؤ بالزلازل.

تقنية الرصد الثالثة هي شبكة بحرية hydroacoustic stations ترصد أي انفجار نووي في أعماق البحار. حيث تنتشر 11 محطة رصد تهدف لرصد البصمة الصوتية الخاصة بالانفجارات النووية، والتي ينقلها الماء. خمس محطات على الشاطئ تهدف لرصد الموجات الصوتية عند ارتطامها بالأرض، وست ميكروفونات مائية ترصد أصوات الانفجارات النووية في أعماق المياه. ويقول جورج هارالبس George Haralabus رئيس وحدة الرصد المائي في الشبكة: “11 محطة كافيين تماما لرصد أي انفجار يجري في البحار والمحيطات في أنحاء الكوكب، وذلك بسبب كفائة الماء في نقل الموجات الصوتية“.

يكمل تلك الأنظمة نظام رصد الموجات تحت الصوتية infrasound، وهي مجسات قادرة على لقط وسماع أضعف ترددات الموجات الصوتية، والتي لا تستطيع الأذن البشرية سماعها. والموجات تحت الصوتية لها الكثير من المصادر غير الانفجارات النووية، كأي نشاط أو حركة بشرية، وأي نشاط في قشرة الأرض، وأي نشاط بركاني، وأي حركة داخل الغلاف الجوي. وحتى الآن تم تركيب 48 مجسا من 60 مجسا مخطط لتركيبهم.

وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لشبكة الرصد النووي العالمية هو رصد الانفجارات النووية السرية، إلا أن فوائدها على البشرية تخطت المخطط له بكثير. فقدرات المجسات المختلفة والمتنوعة جعلها تعمل أيضا كشبكة إنذار مبكر ضد الكوارث الطبيعية كالزلازل وموجات التسونامي. فبعد الزلزال العملاق الذي حدث في أعماق المحيط الهندي، والتسوماني المدمر الذي نتج عنه في ديسمبر 2014، تم ربط مجسات شبكة الرصد النووي بشبكة رصد الزلازل والتسونامي العالمية. ونتج عن هذا الربط أن تم التنبؤ مبكرا بالتسونامي الذي حدث في فوكوشيما عام 2011، وإرسال تحذيرا مبكرا للسلطات اليابانية لتقوم بإجلاء الأهالي من المناطق المهددة. ويمكن استخدام المجسات أيضا في رصد أماكن سقوط الطائرات، ورصد ذوبان وانهيار الطبقات الجليدية، ورصد التغير في درجات الحرارة والتيارات المائية في المحيطات، ورصد التغيرات البيئية. كما تقوم برصد الأصوات الناتجة عن حركة الأسماك وأغاني الحيتان أثناء هجرتها، مما يسهل عملية التنبؤ بالهجرات الجماعية للأسماك، ومساعدة رصد تأثير التغيرات المناخية عليها.

يتم تجميع البيانات الصادرة عن كل المجسات في مركز البيانات الرئيسي في فيينا بالنمسا، ليقوم مختصون بدراستها ومعالجتها قبل إرسالها مع النتائج لجميع الدول المشاركة في مؤتمر الحد الكامل من انتشار الأسلحة النووية. ولحين تفعيل الإتفاقية – وهو ما نتمنى حدوثه قريبا – فلن تستطيع أي دولة في العالم إجراء أي تجربة نووية سرية دون أن يفتضح أمرها بين كل سكان العالم. والنظام بأكمله حاليا مهتم برصد أن نشاطات نووية كورية شمالية أو إيرانية، فهما فقط الدولتان المرشحتان وبشدة لامتلاك سلاح نووي فعال في القريب العاجل، حتى بعد الاتفاق الذي حصل مؤخرا بين إيران وأمريكا.