وباء الاكتئاب! … قد تبدو الكلمة مبالغًا فيها للبعض، لكن في ظل حياتنا الحالية المكتظَّة بالتحديات والإحباطات، أصبح هذا الوصف أمرًا واقعًا. الملايين منا وحولنا -خاصة من الشباب- يعانون من درجات مختلفة من الاكتئاب وفقدان الإحساس بجدوى حياتهم وأنفسهم.

نعم .. الجميع يشتكون، ولا يُعقَل أننا كلنا مصابون بمرض الاكتئاب، لكن هذا لا يقلل من حقيقة الانتشار المتفاقم لهذا السرطان الخبيث لمختلف درجاته. في بلدٍ متقدم كالولايات المتحدة الأمريكية، أظهرت إحصائية أنه في عام 2015، عانى 7% من الأمريكيين فوق 18 عامًا من نوبة من الاكتئاب الشديد.

لقصة الاكتئاب جوانب عديدة، ما يعنينا هنا منها هو كيف نساعد بعضنا على عدم الوقوع في فخ الاكتئاب ابتداء، ومعاونة من يريد التخلص من مرض الاكتئاب، أو على الأقل عدم إحداث المزيد من الضرر لمريض الاكتئاب بغير علم.


ما هو الاكتئاب المرَضي؟

الحزن ظاهرة إنسانية طبيعية، فإذا طالت مدتها وأثرت على قيام أحدنا بمهام حياته تأثيرًا كبيرًا، فإنها تتحول إلى نوبة من الاكتئاب المَرضي. وكمعظم الأمراض النفسية، تختلف أدوار الاكتئاب كثيرًا في شدتها، ومدة بقائها، وبالتالي في العلاج اللازم لكل حالة، وفي المضاعفات التي يمكن أن تحدث، والتي قد تصل إلى الانتحار.

بعض الناس يصابون بأدوار مؤقتة وكأنها نزلة برد نفسية، والبعض بأدوار أشد، والبعض يظلون بالسنوات في أسر الاكتئاب، والبعض يصابون بالاضطراب ثنائي القطبية، فيتقلبون بين أدوارٍ من الاكتئاب، وأدوار من الهوس الغامر … الخ.

لا يمكن تشخيص حدوث نوبة من الاكتئاب المرضي إلا إذا استمرت الأعراض (على الأقل خمس من تسع أعراض) أسبوعين فأكثر، وهي:

1. الشعور بالحزن الشديد معظم ساعات اليوم.

2. فقدان الاستمتاع بأنشطتك وهواياتك التي كنت تستمتع بها سابقًا.

3. اضطرابات واضحة في الشهية بالزيادة أو النقصان.

4. اضطرابات واضحة في النوم (أرق شديد – أو نوم لساعات طويلة ..).

5. الشعور بالقلق وعدم الراحة طوال اليوم دون سبب واضح.

6. الشعور بالإرهاق الشديد، وعدم القدرة على القيام بأي نشاط، دون وجود تفسير واضح.

7. جلد الذات واتهامها بالنقص والتقصير.

8. فقدان القدرة على التركيز، وصعوبة اتخاذ القرارات حتى أصغرها.

9. وهي أخطر الأعراض .. التفكير في الانتحار، أو إيذاء النفس!.

لا يوجد سبب حاسم لحدوث الاكتئاب، لكن المتهم الرئيسي حتى الآن هو مزيج من الاستعداد الوراثي والشخصي لدى المصاب، مع التعرض لضغوطات حياتية أو اجتماعية شديدة. وبالطبع يحتاج التشخيص إلى العرض على طبيب أخصائي في الأمراض النفسية، وهو المختص باتخاذ العلاج اللازم حسب خطورة كل حالة (علاجات نفسية سلوكية -علاجات دوائية- جلسات علاج بالصدمات الكهربائية لبعض الحالات المتعسرة أو الشديدة ..). وبالتأكيد، فلا تهاون في هذا الأمر.


كيف أتعامل مع مريض الاكتئاب؟

والآن إلى الوصايا العشر لكي تكون منقذًا فعَّالًا في انتشال أحبابك من مستنقع الاكتئاب.

1. الاهتمام الحقيقي

كشخص عادي -لست طبيبًا- لا تتدخل لمساعدة مريض الاكتئاب، إلا إذا كانت العلاقة الإنسانية بينكما متينة وحميمة. فمريض الاكتئاب بحاجة إلى الشعور بالاهتمام الحقيقي والمستمر، ويحتاج إلى صبرٍ وتحمل من المحيطين به، إن كانوا صادقين فعلًا في مشاعرهم تجاهه، خصوصًا أن الكثير منهم كجزء من اكتئابه. يعتاد على جلد ذاته، وعلى احتقار نفسه، وأنها لا تستحق اهتمامًا أو جهدًا من أحد. فيقاوم أي محاولاتٍ خارجية لإخراجه من هذه الدائرة الجهنمية.

الاهتمام المصطنع والمتقطع قد يضر بالمكتئب أكثر، وقد يفسره كتطفل وتدخل في شئونه .. الخ، وقد يفاقم إحساسه باحتقار الذات، والدونية. ليس ما سبق دعوة للتخلي عن أحبابنا وأنفسنا من المصابين بالاكتئاب وهم كُثر وبحاجة إلى كل ذرة جهد وتعاطف، إنما الهدف كما ذكرنا ألا نسبب ضررًا كبيرًا من حيث كنا نريد الإفادة.

2. الملاحظة الجيدة

من حينٍ لآخر، راجع نفسك، والدائرة المهمة من حولك، بخصوص ظهور بعض الأعراض التسعة الرئيسية التي ذكرناها بالأعلى. كأي مرضٍ نفسي أو عضوي خطير، يوفر الاكتشاف المبكر للاكتئاب أعمارًا وأرواحًا. فبعض المصابين قد يعاني من أعراض شديدة ويصل إلى محاولة الانتحار دون أن ينتبه معظم المحيطين به لوجود مشكلة. أو قد يتأخر لسنواتٍ مهمة في الدراسة أو العمل، قبل أن يتم تشخيص السبب. وذلك من كوارث زمننا العصيب الذي حوصر فيه كل منا بانشغالاتِه ونفسه.

3. المساعدة في طلب المساعدة

إذا وجدت عددًا من أعراض الاكتئاب لدى أحد المحيطين بك، فلا تتردد أن تتكلم معه. فالبعض لا يعرفون ما تعرف من المعلومات، أو قد يكونون على دراية، لكن يدفعهم الضعف الإنساني أو الخوف من وصمة المرض النفسي إلى الإنكار. بالطبع لن تتحدث بأسلوب وعظي أو فوقي ينفِّره من طلب المساعدة.

ستستخدم أكبر قدر ممكن من التعاطف غير المبالغ فيه حتى لا يوحي بالاصطناع، ويمكن أن تتطوع باصطحابه إلى الطبيب، خاصة في مرات الكشف الأولى. وساعده على تسجيل كل ما يدور في نفسه في ورقة قبل الذهاب للكشف، فهذا سيساعده على اكتشاف حالته، ويساعد الطبيب في تشخيصه وعلاجه.

لابد أن توضح له بأسلوب لائقٍ وهادئ ومقنع أنه لا مفر من طلب العلاج بأنواعه. فالاكتئاب – إن كان موجودًا – لن يزول مع الوقت، إنما سيتضخم بوحشية ككرة الثلج على منحدر. إذا رفض الذهاب مباشرة إلى الطبيب النفسي، انصحه أن تذهبا أولًا إلى طبيب للباطنة مثلًا للاطمئنان على جسمه وصحته، ويخبره الطبيب بالحاجة إلى العرض على الطبيب النفسي.

4. الصبر .. الصبر … الصبر

قد تجد مقاومة شديدة من المريض في مختلف مراحل التشخيص والعلاج والمتابعة. أو قد يكلمك بأسلوب لا يعجبك ولا يتناسب مع قوة العلاقة بينكما. لابد أن تتحمل، وتواسي نفسك بأن هذا الأسلوب ليس صادرًا من الشخص نفسه، إنما من وحش الاكتئاب الذي يحتل أركان نفسه.

كذلك قد تستغرق رحلة العلاج شهورًا أو سنوات، تتخللها فترات صعود وهبوط، وتقدم وانكسار. سيظهر من خلال هذه الرحلة الشاقة المعدن الحقيقي للعلاقة بينكما، لا تتوقف في منتصف الطريق عن مستوى الدعم المستمر للمريض، وإلا ستكون العاقبة وخيمة.

5. المشاركة المعنوية الصادقة

من قبيل أن تخبره أنك كثيرًا ما عانيت، أو تعرف من يعاني من مثل هذه الأعراض. وأن سبب وصولها إلى مرحلة المرض عنده ليس بالضرورة نقصًا في شخصيته، إنما لأن حسَّه أكثر رهافة، وقلبه أكثر حيوية، فيجعله هذا يشعر بالألم والمعاناة من حوله بشكل مضاعف .. الخ.

كذلك اصطحابه إلى جلسات المشاركة الجماعية مع من يعانون من مثل حالته. فمثل هذه الجلسات -وهي للأسف قليلة في البلاد العربية- تساعد على تقبل الأمر، وتخفف غربة المكتئب، وتقلل شعوره بالنقص والدونية، وتزيد فرص الالتزام بالعلاج.

لكن احذر من خداعه، كأن يوحي كلامك بأنه يجب أن يتقبل نفسه كما هو. التوازن هنا خطير وحيوي، فأنت تريده أن يستوعب حقيقة المشكلة الكبيرة، وفي نفس الوقت تتجنب تخويفه وإحباطه. وتريد أن تشعره أنه ليس وحيدًا في هذا البلاء، وعلى الجانب الآخر لا يصل هذا إلى درجة مفاقمة إنكاره للحقيقة، وبالتالي ترك المشكلة تتطور.

كذلك شاركه في أكبر قدر ممكن من الأنشطة اليومية ( المذاكرة – الذهاب للعمل – التسوق – قيادة السيارة .. الخ ) فهذه المهام المعتادة قد تمثل عبئًا كبيرًا للمكتئب المستنزف نفسيًا.

6. لا تعظه بما يعرف وما لا يعرف

إن آخر ما قد يحتاجه المكتئب هو الوعظ والتأنيب من منطلق ديني مثل ( ألست تؤمن بالله ؟؟ .. هل إيمانك ضعيف ؟؟ .. اتقِ الله في نفسك ودينك … الخ )، فهذا يفاقم الاكتئاب، لأنه سيشغل مفاعل جلد الذات النووي بالطاقة الكاملة.

المكتئب غالبًا ما يعاني من حالة من اللوم الشديد لنفسه لكونه مكتئبًا، ولتقصيره بسبب الاكتئاب في القيام بالواجبات الدينية على الوجه الأكمل، أو لأن الصلاة لا تشعره بالراحة، مما يدفعه للتشكيك في جدوى عباداته وإيمانه … الخ.

ما يحتاجه المكتئب فعلًا هو أن يتداعى له من حوله بالمشاركة والاهتمام، وأن يذكروه بأن الله عفوٌّ غفور، وأنه مريض وليس على المريض حرج. وتذكيره كذلك بالفارق بين النفس اللوامة المحمودة، وبين جلد الذات المرضي الذي يفسد علاقة الإنسان بنفسه وبربه.

7. الاستماع .. والمزيد من الاستماع

امنحه أذنك المُنصِتَة، واترك له الفرصة ولو لساعات لكي يتخلص من الأثقال الكثيرة التي تنوء بها نفسه. هذا الاستماع المشوب بالاهتمام الحقيقي فرصة حقيقية للمكتئب للتخلص من الكثير من الطاقة السلبية بأعماقه، والتي تزيده غوصًا في قاع الاكتئاب. اجعله يتحدث عن كل مباعث ضيقه وقلقه وخوفه. الكثيرون يخجلون من إفراغ ما في جعبتهم النفسية، ويحتاجون إلى الوقت والثقة فيمن يستمع إليهم، حتى يبدؤوا في القيام بهذا الأمر الذي لا غنى عنه.

8. الاحتفاظ بسره .. إلا

أبسط واجباتك تجاه هذا الذي ائتمنك على عوراته النفسية، أن تحفظها، فلا تملأ الدنيا بقصة اكتئابه، وتبرر لنفسك أنك إنما تطلب العون من الآخرين من أجله. فحقه الكامل أن يكتم عمن يريد أو أن يخبر من يريد. حالة واحدة فقط يصبح العكس هو الواجب، ويكون لزامًا عليك أن تفشي سره حفاظًا عليه … إذا شعرت من الكلام معه أنه يفكر في الانتحار، بالأخص إذا صارحك بأنه يرسم خططًا لكيفية الانتحار.

للأسف في أغلب البلاد العربية لا نملك هواتف ساخنة لهيئات متخصصة للتعامل مع حالات الاقتراب من الانتحار، في الولايات المتحدة يطلبون رقم النجدة 911 للتبليغ عن مثل هذا.

حاول بالمتاح لديك ( طلب بوليس النجدة – إخبار أهله مع تحذيره من الهلع غير المفيد – التعاون مع أقرب أصدقائه ومعارفه .. الخ ) أن تنقله فورًا إلى أقرب طوارئ للصحة النفسية، حيث يكون تحت الملاحظة الجيدة، بعيدًا عن الأدوات التي يمكن أن يستخدمها في إيذاء نفسه، ويتم إعطاؤه علاجات قوية سريعة المفعول كجلسات الصدمات الكهربائية مثلا .. الخ.

9. التنبه لعلامات الاكتئاب الشديد

هي العلامات التي تعني دخول الاكتئاب في طور قد يمثل خطورة على حياة المريض:

1. علامات قرب الإقدام على الانتحار (محاولة امتلاك سلاح – الحديث عن الانتحار والتفكير في خطط له – الهوس الدائم بالموت – إظهار احتقار شديد للنفس والرغبة في إيذائها – القيام بأفعال متهورة وغير مسئولة كالقيادة بسرعة جنونية .. إلخ)2. فقدان الشهية المزمن لدرجة فقدان الوزن بشكل كبير في فترة قليلة، مما يؤثر على الصحة.3. التحول فجأة إلى اللامبالاة الشديدة بحالته، فقد يعني هذا قرب القيام بالانتحار، أو تطور الحالة إلى الذهان النفسي psychosis والذي يفقده البصيرة بحالته.

10. حافظ على سلامتك النفسية

ذكر نفسك بأنك لن تصلحَ الكون، إنما تفعل ما باستطاعتك لا أكثر. لا تجلد ذاتك لسقوط أقرب الناس إليك في فخ الاكتئاب، فلا ذنب لك في هذا. وتذكر كذلك دائمًا بأن فاقد الشيء لا يعطيه. فلن تستطيعَ دعمَ أحد، بينما أصبحت أنت تحتاج للدعم.

إذًا فحفاظك على لياقتك النفسية هو جزء مهم من علاج من تحب.