يسأل سائل:

إن رأيت تزييف التاريخ الذي يحصل بين يديك الآن.. كيف يمكنك الوثوق في أي خبر تاريخي؟ لا سبيل إلى العلم بشيء مضى أبدا. الخبر لا يمكن الوثوق به كمصدر للمعرفة. كم من الأحداث الجسام تأثرت في تدوينها ومعرفتها بأهواء أهل السياسة وتعصبات أهل الدين؟

نقول:

تكلمنا في المقالات السابقة عن مصادر المعرفة ، وذكرنا منها «الخبر»، وأنه مركب من السمع والعقل بأن يسمع المرء أخبارا منقولة ، ثم ينظر العقل في هذه الأخبار من حيث صحتها أو عدمه.

والخبر هو: حكاية لشيء يحتمل لذاته الصدق والكذب.

فمن الأخبار ما نقرؤه في الجرائد، وما نقرؤه في كتب التاريخ، وما نقرؤه في المجلات العلمية حكاية عن التجارب والاكتشافات العلمية الجديدة، وما نقرؤه في كتب الدين عن الدار الآخرة ويوم القيامة، وما نسمع به من أخبار الدول الأجنبية ممن سافروا إليها. فكل هذه أشياء حُكيت لنا، لم نشاهدها بأعيننا، أو نختبرها بحواسنا، وقد تكون صدقا وقد تكون كذبا.

فإن كان الخبر يحتمل الصدق والكذب، فكيف نفرق بين الخبر الصادق والخبر الكاذب؟ وكيف نقتنص الأخبار الصادقة في وسط بحر خِضَمٍ من الأخبار الكاذبة والإشاعات والتضليل الإعلامي؟ سنتناول في هذه المقالة بعض المبادئ النافعة في معرفة الخبر الصادق وتمييزه، وسوف نجعل كلامنا في صورة أمثلة لأخبار معينة، ثم نعلِّقُ عليها ونُحللُها حتى يكون ذلك أسهل في الفهم إن شاء الله تعالى.

خبر 1:«هناك برج في مدينة باريس يسمى برج إيفل»

إنك ما إن تقرأ هذا الخبر أيها القارئ الكريم حتى تجد نفسك قابلة له مصدقة إياه. وقد يحصل هذا منك وإن لم تكن سافرت إلى فرنسا بنفسك وشاهدت برج إيفل بعينيك. فما الذي أوجب في نفسك تصديق هذا الخبر؟

إنها صفة في هذا الخبر تقتضي قبوله، والتي نسميها: (التواتر).

فما هو التواتر؟

التواتر هو: (خبرٌ رواه جمعٌ يستحيل اتفاقهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه ، ويكون منتهى إخبارهم أمرا محسوسا- أي مشاهدا بالحس). أي أنه خبر نقله جمعٌ من الناس لا يمكن اتفاقهم على الكذب نظرا لكثرتهم وعدم معرفة بعضهم بعضا، واتفاقهم على نفس الرواية. فمثل هذا الخبر يفيد العلم اليقيني. فأنت لا تتشكك أبدا في معرفتك بوجود بلد تسمى (ماليزيا) وإن لم تزرها؛ لأن ذلك خبر متواتر قد بلغ رواته من الكثرة حدا لا يمكن معه الاتفاق على الكذب.

خبر 2:«هناك قائد فرنسي يسمى نابليون بونابارت»

إن هذا أيضا خبرٌ متواتر، لا تحتاج إلى أن تبحث في صدقه وكذبه؛ لأنه معلوم الصدق بالضرورة. وذلك لأن آلافا من الناس في مختلف البلاد قد حكوا عن رؤيتهم لنابليون وأنه كان من قادة فرنسا، وقد شاهده ألوف من الناس في أماكن مختلفة من الأرض، وحكوا لأبنائهم، وأبناء أبنائهم، وهكذا. فقد أوصلنا تواتر هذا الخبر إلى العلم بشيء غائب عن حواسنا (لأنه أمر مضى) بسبب انتشار رواته واختلافهم في الجنسيات والأديان والنوازع إلخ … ثم اتفاقهم جميعا على خبر واحد رأوه بأعينهم، أو حكوه عمن رآه بعينه، وهكذا.

خبر 3:«مصر انتصرت في حرب 73»

هذا ليس من باب المتواتر ؛ لأنه ليس خبرا أصلا؛ لأن الانتصار ليس أمرا مشاهدا بالعين، بل هو حكم سياسي بعد تقييم نتائج الحرب، فيختلف الحكم فيه باختلاف التحليل للنتائج. فهو يفتقد شرطا مهما جدا من شروط الخبر وهو كونه (ينتهي إلى أمر محسوس).

أما قولنا: (اجتاز جنود مصريون الساتر الترابي الذي يسمى بارليف سنة 73 ) فهو من قبيل الخبر المتواتر، لأنه أمر نقله جمع غفير من الناس يستحيل أن يتفقوا جميعا على الكذب، وهم ينقلون شيئا مشاهدا رأوه بأعينهم. ولهذا اشتد الخلاف في الأمر الأول (الحكم بالانتصار) ، بخلاف الثاني فلم ينكره أحد (وهو العبور).

وكذلك الجواب على هذا السؤال: (هل الأنبياء صادقون في ادعائهم النبوة والوحي من الله؟)

فهذا السؤال لا يمكننا إثباته بتوثيق الخبر فقط، فإن توثيق الخبر يدلنا على أنهم ادعوا النبوة، أما صدقهم في هذه الدعوى فهي تعرف بأدلة أخرى عقلية سيأتي ذكرها في مقالات قادمة عن (دلائل النبوة) بإذن الله تعالى.

خبر 4:«الحكومة تنوي رفع أسعار الوقود مرة أخرى»

هذا الخبر قد تسمعه من جمع غفير من الناس، وهو مع ذلك ليس خبرا متواترا؛ لأن شرط التواتر لم يتحقق في كل طبقة من طبقات الرواة.

ما معنى هذا الكلام؟

نقصد أن هذا الخبر قد ينتشر ويذيع بحيث تسمعه من جارك، وزميلك في العمل، وابن عمك، وهكذا. غير أنهم جميعا قد سمعوه من مصدر واحد في التليفيزيون من مصدر غير رسمي ، وهذا يجعله غير متواتر، لأن الجمع الغفير رووه عن واحد فقط، وذلك الواحد ليس هو المصدر الأصلي للخبر المنقول . فقد يكون إشاعة.

خبر 5: قال لك صديقك خالد:«قابلت صديقنا عمر بالأمس»، ومثله: قال لك زملاء الفصل في المدرسة –وهم ستة أشخاص – أن المدرس قال: «لن يكون هناك امتحان الأسبوع القادم».

هذا النوع من الأخبار يسمّى في اصطلاحنا (خبر الآحاد) وهو ما رواه واحد من الناس، أو طائفة من الناس، لكن عددهم ليس كثيرا لدرجة يستحيل معها اتفاقهم على الكذب. فهو خبر لا يفيد العلم اليقينيَّ لذاته. وهذا هو حال الغالب من الأخبار التاريخية.

ومثل هذه الأخبار تحتاج إلى توثيق بالنظر إلى احتمالات صدق الراوي و كذبه، والنظر إلى احتمالات نسيانه و حفظه، والنظر إلى مدى دقته وحسن فهمه لما رأى وسمع وغير ذلك، والنظر إلى الكلام المنقول هل هو مما يخالف العقل فنرفضه، أو يخالف الرواية الأقوى منه التي كثرت دلائل صدقها فنترك الأضعف إلى الأقوى، أو هو أمر غريب نادر الوقوع فنحتاج إلى مزيد توثق حتى نصدقه.

ثم إن مدى توثيق القصص مرتبط كذلك بالقرائن والأمارات التي ترتبط بهذه القصة التي تصدقها أو تكذبها.

خبر 6:سمعتَ ممن أثق بعقله، ونقله، ودقته، وحسن فهمه للأمور أن فلانا مات مثلا، وفلان هذا مسنٌ جدا ومريض في غرفة الإنعاش، ثم سمعتَ صراخا من منزل هذا الشخص، ثم قرأتَ نعيَه في اليوم الثاني في الجريدة.

هذا خبر تقترب فيه جدا من القطع بموت هذا الإنسان أو تقطع بذلك بالفعل، مع كون الخبر لم تسمعه إلا من شخص واحد ، وذلك لأن هذا الخبر قد اجتمعت فيه قرائن كثيرة تعلمك صدقه، ككون هذا الإنسان مسن ومريض فموته متوقع، وكونك سمعت خبر موته من إنسان موثوق بخبره عموما، وأنك سمعت الصراخ، وقرأت النعي.

وسنضرب أمثلة على بعض المرجّحات التي قد ترجّح صدق الخبر على كذبه وبالعكس إن شاء الله.

خبر 7: سمعت من صحفي مشهور بالكذب في أحد البلاد، موالٍ للنظام الحاكمفيها خبرا يقول: «تقول دراسة بريطانية أن بلدنا من أعظم ثلاثة بلاد في العالم في العدالة الاجتماعية».

هذا خبر آحاد، محتمل للصدق والكذب بالنظر لذاته ، غير أنه قد احتفت به قرائن كثيرة ترجح كذبه على صدقه.

منها مثلا: أن راوي هذا الخبر يفترض أنه معروف بالكذب، لا يتورع عنه، وقد عُهد عليه الكذب مرات كثيرة.

ومنها: أن هذا الخبر له فيه مصلحة بسبب انتمائه السياسي.

ومنها: أنه ذكر الكلام عاريا عن المصدر.

ومنها: أنه أطلق كلاما عاما جدا الاستيثاق منه يكاد يستحيل حينما قال: (دراسة بريطانية)، وما إلى ذلك من مرجحات جعلتك ترجح تكذيب هذا الخبر على تصديقه وإن كان صدقه محتملا ، لكن هذه القرائن ترجح كذبه. و هذا البحث لنستوثق من كون «دراسة بريطانية» ذكرت هذا الكلام فعلا أم لا، ومن معلوم أن للحكم على صحة الدراسة من عدم صحتها طرق أخرى غير توثيق الأخبار.

خبر8: لو أخبرك أخوك أن أباك يخبرك أن جدك قال أنه يريدك أن تذهب إليه في بيته بعد ساعة .

في النظر في الأخبار ننظر إلى أمر مهم اسمه «اتصال السند»، بمعنى هل أخوك سمع هذا الخبر من والدك مباشرة ، أم لا ؟

فلو سمعه مباشرة ، وهو رجل ضابط ثقة ، ولم يظهر لك أي شيء يجعلك تشك في خبره ، فأنت تصدقه ويغلب على ظنك جدا أنه صادق، وطبعا هناك دائما احتمال أن يكون قد فهم خطأ أو نسي تفصيلة أو أضاف أخرى، ومع ذلك لو كنت تعرفه وتعرف ضبطه فإنه يقع في قلبك صدقه إلى درجة كبيرة.

أما لو لم يسمع مباشرة من والدك، فهذا يضعف من احتمالية أن يكون والدك قد قال هذا ؛ لأن الخبر إذا نقله أكثر من واحد فإن احتمال الخطأ فيه يقوى. فأنت تستوثق من أخيك، هل أخبره والدك بهذا فعلا وقد سمعه منه مباشرة ؟ أم ماذا؟

فإن قال لك: بل سمعت ذلك من بواب العمارة ، والبواب عندك غير ضابط في نقل الأخبار ، فهذا يضعف عندك أن والدك قد قال هذا، بخلاف ما لو كان ذلك عن والدتك وهي ثقة ضابطة. ثم تسأل كذلك: هل سمع والدي عن جدي هذا الخبر؟ فإذا وجدت على هاتفت رسالة من هاتف والدك يقول لك نفس الكلام ، فمع احتمال أن هناك شخص آخر هو الذي أرسل الرسالة من هاتفه مثلا، إلا أن هذا مع ما سبق يقوي جدا عندك أن والدك فعلا قد قال هذا الكلام.

وكلما زادت القرائن كلما قويت الثقة بالخبر حتى يصل إلى القطع في بعض الصور .

خبر 9:قرأت في أحد الجرائد: (يقول رئيس وزراء بريطانيا: إذا حصل تهديد للأمن القومي فلا تحدثني عن حقوق الإنسان)

لو قرأت هذا الخبر في جريدة مصرية من غير عزو الكلام إلى مصدر، فذهبت إلى الصحفي تسأله عما إذا كان قد سمع هذا من رئيس الوزراء البريطاني بنفسه أو عن مصدره في النقل فقال لك: (هذه حكاية معروفة، لم أنقلها عن مصدر معين، ولكني أعرفها)، فإنك حينئذ ينبغي ألا تقبل هذا الكلام، لأنه مقطوع السند. أي أنه لم يحصل اتصال في سلسلة الرواة لهذا الخبر حتى يصل إلى مصدره، وهو شرط مهم من ضمن شروط كثيرة ينبغي أن تتوفر للخبر الصادق.

خبر 10: سمعت خبرا من أحد أصدقائك يقول: (منذ شهرين.. أقام رئيس مصر تمثالا لنفسه في ميدان التحرير ارتفاعه 100 متر)

هذا الخبر ينبغي عليك أن تقطع بكذبه متى سمعته ، وذلك لقاعدة مهمة تقول: (ما توافرت الدواعي على نقله نقلا متواترا فنُقل آحادا قُطع بكذبه). فما معنى هذه القاعدة؟

معناها أن الخبر الذي توفرت الأسباب والدواعي التي تحمل الناس على حكايته ونقله نقلا مستفيضا، بأن حصل في حضورهم، وكانت لهم من الأسباب ما يبعثهم على نشره ونقله، ولم يكن هناك مانع من خوف أو مصلحة تحملهم على السكوت، ثم لم ينقلوه مع كل ذلك فإننا نقطع بكذبه.

فرئيس مصر هذا له مؤيدون، وله معارضون، وهذا الفعل غريب مستشنع في هذا الزمان، وهذا الميدان مشهور كثير زوّاره، وله أهمية تاريخية كونه الميدان الذي شهد مظاهرات الثورة المصرية، وهناك مواقع للتواصل الاجتماعي تنقل الأخبار في لحظة، وتنتشر فيها هذه الأخبار، وللناس دواع كثيرة مختلفة تحملهم على حكاية هذا الخبر، وليس هناك موانع تمنعهم من نقله حيث أنهم ينقلون مثله بلا إشكال. فبعد كل هذا.. يحصل هذا الأمر الغريب (تمثال طوله 100 متر للرئيس المصري في قلب ميدان التحرير) ثم لا ينقله أحد إلا صاحبك هذا بعد وقوعه بشهرين. فهذا يستحيل حصوله، فتقطع بكذبه.

خبر11: (هتلر أكله أسد في ميدان عام وهذا هو سبب موته)

قد لا نعرف هل انتحر هتلر أم قتل مثلا، لكننا نقطع أن موته لم يكن بأكل أسد له في ميدان عام مثلا؛ إذ مثل هذا الحدث لو كان حقيقيا لاستحال أن يختفي، بل يستحيل ألا يستفيض انتشاره ونقله بأن ينقله واحد أو اثنين.

خبر12: (هناك صاعقة أحرقت مبنى صحيفة(شارلي إيبدو) الفرنسية قبل أن يخرجوا الرسوم المسيئة لسيدنا النبي، وهناك تعتيم إعلامي من فرنسا لعدم نشر هذا الخبر)

فهذا أيضا خبر تقطع بكذبه؛ لأن مثل هذا الخبر لو صح لنقل نقلا مستفيضا؛ لأنه أمر تتوافر الدواعي على نشره، فمتى نقل آحادا فإنك تقطع بكذبه (وهذا مثل كثير من الأخبار التي يختلقها بعض المتحمسين للدين يظنون أنهم ينصرونه بها، وهذا من ضعف الدين وضعف العقل للأسف الشديد)

خبر 13: (حصل طوفان عظيم في عهد نبي الله نوح عليه السلام)

قد يقول قائل: (هذا طوفان نوح لا نعلم حتى الآن هل عمَّ العالم أم لا، وهل هو واقع أصلا أم أسطورة،فتخيل حدثا بهذه الضخامة والملحمية مما تتوافر الدواعي لنقله ولم ينقل إلينا إلا الآن إلا من الكتب السماوية)

قلنا: هذا ليس هو المقصود بقاعدتنا: (ما توافرت الدواعي على نقله متواترا فنُقل آحادا قطعنا بكذبه). فنحن لا ننازع في أن وجود باعث يبعث كل الناس، في كل زمان، وكل مكان منتفٍ غير موجود.

لكن المسألة مفروضة فيما إذا وقعت واقعة معينة مما تتوفر الدواعي على نقلها، وقد حضرها كثر ، ومع ذلك سكت ذلك الجمع الغفير الذي شاهدها عنها، فعدم نقلهم لها تواترا دليل على عدم وقوع الواقعة أصلا ، وطاعن في نقل ذلك شخص أو الشخصين للواقعة.

أما لو نقلوه تواترا ، فاذا توافرت الدواعي لمن بعدهم كذلك نقلوه تواترا كذلك، فإن تقادم العهد وقلت الدواعي أو حصلت موانع تمنع من النقل أو غير ذلك، فيتناقص عدد النقلة حتى يصير آحادا أو ينقطع بالكلّية.

فإن قال قائل: التاريخ كله مزيف لأنه إنما يكتبه المنتصر بحسب هواه ورغبته.فكما قيل: (السيف أصدق إنباء من الكتب).

تخيل أن حاكما في دولة ديكتاتورية مثلا حصلت له فضيحة على ملأ من الناس.. فوجب أن تُنقل تواترا، لكنه لإحكام قبضته على البلد سجن الناس وضيق على الحريات فلن يذكر هذا الخبر أحد.

فالجواب:

أن الخبر ينقص بالتضييق انتشارُه فعلا، فلا ينتشر في الإعلام الرسمي للدولة مثلا. لكن يظل لهذا الحاكم أعداء في الداخل والخارج يهمهم حفظ أخباره و فضائحه، فيظل الخبر يُنقل ولا ينطمس بالكلية متى توافرت الدواعي لنقله، ولم يكن قليل الأهمية. و في هذا المثال: لو كانت الفضيحة قليلة الأهمية فسيقل نقلها من جيل إلى جيل مع الوقت حتى ينقطع تواترها. وهذا لا يخالف قاعدتنا لكن المهم هنا هو التنبيه على أن سبب عدم النقل هنا ليس هو السيف إذا كانت الفضيحة قليلة الأهمية، وإنما هو عدم وجود الدواعي للنقل جيلا بعد جيل ؛ لعدم أهمية الخبر ، أما لو كانت الفضيحة مهمة فإنها تنتشر مع انتفاء الموانع.

وينبغي التنبه أن لكل حاكم أعداء في دولته وخارجها ، فالتاريخ ، وإن كتبه المنتصر غالبا ، إلا أن الغالب عدم وجود منتصر مطلق كامل شامل ، فيظل له أعداء ينقلون رواية أخرى لما حصل، وبين هذه الروايات المختلفة يعمل المؤرخون في التعرف على الحقيقة ولو ظنّا.

أما لو وصل الحال لما يشبه رواية (١٩٨٤) لجورج أورويل فيصير الأمر إلى غلبة دولة شمولية مسيطرة محكمة القبضة على كل مفاصل الحياة، ومهتمة بكتابة رواية وحيدة للأحداث وإعدام كل ما يدل على سواها فربما ينقطع الخبر حينئذ ، ولكن العالم لم يصل لذلك بعد ، ولم يكن كذلك في أي وقت سابق.

مع كون الحاكم – أي حاكم – إلى زوال ، فمتى زال الحاكم وجاء من بعده كشف ما زيّف كذلك لمصلحته الخاصة.

ولذا قيل أن الجمع العظيم إذ تواطئوا على الكذب بسبب إرغام الحاكم وقهره لهم ، فإن كذبهم يستبين على ممر الزمان، وينكشف الغطاء فيه على قرب متى زال هذا الذي يحملهم على الكذب.

وهناك ملحوظة هامة وهي: أن القدرة الإعلامية للدولة المركزية في السابق أضعف بكثير من الآن.

وليس مرادنا إنكار أن السيف وقوة البطش قد يؤدي الى تزييف الحقائق طبعا، بل هذا يحدث، وهو من الدواعي الحاملة على إذاعة أخبار معينة وإخفاء أخرى، ولكن نريد أن نحدد مدى قدرة السيف على التزييف؛ إذ هذا الأمر يبالغ في تقديره كثيرا ، خاصة زعم حصوله على هذا النحو المبالغ فيه في العصور السابقة قبل حدوث الآلة الاعلامية الحديثة والدولة المركزية القوية.

وعموما معظم الأمثلة في تزييف التاريخ هي في غير المشاهد من جمع التواتر ، فهي خارج محل كلامنا أصلا

يقول قائل:

انظر حادثة حريق القاهرة في يناير سنة 1952 مثلا حيث التحم آلاف الطلبة مع قوات الشرطة في أكبر ميادين القاهرة، وقاموا بحرقه لأهداف وطنية ثورية نبيلةلمقاومة الاحتلال، ثم إننا لا نجد من يؤكد هذه الرواية الآن، فهم يصوَّرون دائما كمجموعة من الحثالة المجرمين، وقد انطمست تماما في نقلها كفعل ثوري شريف، مع أن حقها أن تنقل تواترا.

قلنا:

أولا: هذا المنطمس.. كيف عرفت أنت أنه منطمس؟ فلابد أنه لم ينطمس تماما، وإنما قل ناقلوه ، وإلا لما كنت قد سمعت به.

ثانيا: قد فرّقنا من قبل بين: الحدث، وبين الحكم عليه.

فالجزء الخبري من هذا الموضوع هو: أن حرائق واسعة قد اجتاحت القاهرة في يناير من سنة 1952، وهذا قد حصل ونُقل وذاع وانتشر.

أما الحكم على أسبابه ودوافعه ، فهو أمر يحصل بتحليل هذه الأخبار، ولا يثبت بالخبر نفسه ، على أن المشاهد من عدد التواتر هو الحريق ، وقد نقل لنا تواترا ، أما تفاصيله فليس من المشاهد المحسوس من عدد التواتر.

وثالثا: نقول: ما تقضي العادة والعرف بانتشاره وذيوعه:

منه ما يذيع وينتشر فعلا، ويُنقل تواترا لفترة، ثم يتناقص اهتمام النقلة بنقله حتى ينتهي إلى نقل الآحاد ، وقد يفضى طول الأمد إلى انعدام نقله بالكلية كحرب معينة بين بلدين (كحروب الهكسوس و الفراعنة مثلا كانت في وقت ما ملء السمع متوافرة دواعي نقلها ثم صارت قليلة الأهمية).

فلا نزاع في أن اهتمام النقلة بنقل الخبر المتواتر قد يتناقص من عصر إلى عصر حتى ينتهي إلى أن ينقل آحادا أو يضيع نقله بالكلية، والأصل في ذلك ما ذكرناه من توفر الدواعي على النقل.

ففي المثال المذكور قد يُقال: إنه بنجاح حركة الجيش سنة 1952 التي اعتبرها الكثيرون ثورة ، ثم رحيل الملك، ثم الانجليز، قلَّت الدواعي لنقل حريق القاهرة ؛ إذ غاية ما كان يسعى إليه أصحاب الحدث هو الثورة وطرد الانجليز ، وقد حدثا – في ظن الكثير على الأقل- ، وخاصة مع تتابع الأحداث بعد ذلك في ٥٦ ثم ٦٧ و هكذا …

خبر 14: دخلتَ على أسرة من 12 أخا ، وقال أصغرهم بحضرة الجميع: (تعلمون أباكم قد تبرع في حياته أمامكم بنصف ثروته للأعمال الخيرية) فسكتوا جميعا

هذا من حيث الظاهر خبر لرجل واحد، لكنه اقترن به ما يدل قطعا على صدقه. فهو خبر أخبره إنسانٌ واحد بحضرة عدد كبير يستحيل اتفاقهم على الكذب ، وأخبرهم بشيء حصل بحضرتهم، وليس هناك ما يخيفهم ويحملهم على السكوت والاعتراض، بل إن مصلحتهم جميعا في الاعتراض على هذا الكلام حتى يزيد ميراثهم. فسكوتهم في هذا المقام بمثابة قولهم له: (صدقت). فهو خبر ذكره واحد فقط، لكن موافقتهم له جعلته بمثابة المتواتر النظري.

فإذا اعترض معترض:

(يمكن لزعيم سياسي أن يتكلم بأمر كاذب أمام جمع كبير قد رأوا هذا الأمر الكاذب بأعينهم، ولكنهم لا ينكرون عليه، فليس في ذلك دلالة حينئذ).

نقول: هذا المثال ليس هو المقصود بكلامنا ؛ لأنه في هذا المثال هناك ما يحملهم على السكوت، أما كلامنا ففي حالة ما لم يكن هناك حامل على السكوت كما ذكرنا.

خبر 15: في نفس المثال السابق.. قال أحد الأخوة لأصدقائه: «إن أبي قد تبرع بنصف ثروته للأعمال الخيرية» فسكت أصحابه جميعا

هذا خبر آحاد عادي يحتمل الصدق والكذب. والفرق بين هذا المثال والمثال السابق: أن سكوت الأخوة فيه دلالة على التصديق ؛ لأنه يخبرهم عن أمر حصل في حضورهم، ولا شيء يحملهم على عدم تكذيبه لو كان كذبا.

بخلاف المثال الثاني .. فإنه يخبر أصدقاءه عن شيء لم يروه ، فسكوتهم عنه حينئذ لا يدل على شيء أبدا.

ملحوظة:

هناك نوع آخر من الخبر المفيد للعلم وهو : خبر المعصوم عن الخطأ والكذب ، ولكن إثباته متوقف على مقدمات عديدة ، كإثبات وجود الله ، وإثبات النبوة النبي ، وإستحالة الكذب عليه ، إلى غير ذلك من المسائل ، وهذا سيأتي الاستدلال عليه في الكلام على النبوة في المقالات القادمة ، فلم نر الكتابة فيه هنا قبل استيفاء مقدماته.

فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال:

أن الخبر نوعان :

الأول: المتواتر ، وهو ما نقل مستفيضا من جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب ، عن مثلهم عن مثلهم ، ينقلون أمرا محسوسا ، فهذا نقطع بقبوله حينئذ، ومنه: علمنا بالبلدان البعيدة والحوادث التاريخية المشهورة المستفيضة.

الثاني: الآحاد ، وهو ما نقله جمع قليل لا يستحيل اتفاقهم على الكذب ، كحال أغلب الأخبار التاريخية، وهذا نعمل فيه قانون الاحتمالات. فإذا وجدت مرجحات ترجح صدقه (كصدق الراوي ودقته وأخلاقه وعدم مخالفته ما هو أوثق منه الخ… ) فإننا نميل إلى صدقه ، والعكس بالعكس.

وأنه متى توافرت الدواعي واستمرت على نقل حدث ما نقلا مستفيضا متواترا ، فنُقل آحادا فإننا نقطع بكذبه. وأنه إذا أخبر إنسان في حضور جمع كثير بخبر ما شاهدوه بأعينهم، ولم ينكره أحد منهم، فإن عدم إنكارهم له طالما لم يكن عن خوف أو طمع يدل على أنهم مصدقون له راضون بكلامه ، فكأنهم يقولون: نعم رأينا ما يقول.