هو مهندس خمسيني العمر، مدخن، ولا يعاني من الضغط، أو السكر. مشادة كلامية عنيفة في موقع العمل .. انفعل كثيرًا .. فوجئوا به يضع كفه على صدره، وفيضان من العرق يغمر وجهه .. ثم سقط أرضًا بلا حراك. وصلوا به إلى أقرب مشفى .. القلب متوقف .. لم تنجح محاولات الإنعاش القلبي الرئوي التي أجراها الأطباء، وغادرت روحه إلى باريها. أخبرهم الأطباء أن السبب الأرجح إصابته بجلطة بشريان القلب.

هي شابة جميلة، دائمًا ما كانت تُوصَف بالذكاء واللباقة، وتحظى بالإعجاب لتفوقها الدراسي في سنوات التعليم الأساسي، وأهلها دائمًا ما يلحٌّون عليها للحفاظ عليه. انقلبتْ الآية بمجرد دخولها إلى إحدى كليات القمة، طويلة المناهج، ولا-نهائية الامتحانات. علاماتها ترسم منحنىً هابطًا عامًا بعد عام .. رسبت مراتٍ متتالية في السنة الأخيرة، ثم انقطعت عن الدراسة. تزامن التعطل الدراسي، مع تغير كبير في سلوكها .. أكثر انطواءً، وتوترًا، وانفعالًا تجاه أهلها. أصبحت أفكارها غريبة، ولا-منطقية .. تعتقد أن أهلها يريدون قتلها .. الخ. تتحدث مع نفسها كثيرًا. حاول أهلها عبثًا إقناعها بالعرض على طبيب نفسي .. رفضت بشدة. في ليلةٍ حالكة الظلمة، ألقت بنفسها من سطح المنزل.

هو جرّاح ناجح بشهادة الجميع. حقَّق معظم ما يتمناه أقرانه من التفوق العلمي والعملي والمادي، وهو ما يزال في منتصف الثلاثينيات. لكن كان ثمن هذا النجاح باهظًا. حياةٌ من القلق والتوتر، أثناء إجراء العمليات الجراحية، وفي متابعة المرضى بعدها خوفًا من المضاعفات وما يترتب عليها من مشكلات … الخ. أصيب بارتفاع ضغط الدم. لم ينتظم في تعاطي العلاج، لنمط حياته المضطرب. أثناء «لستة» عمليات طويلة، أصيب بصداع مفاجئ شديد الوطأة، ثم فقد الوعي. أظهرت الأشعة المقطعية وجود نزيف كبير بالمخ. بعد أيام … وافته المنية.


الضغط العصبي والنفسي .. تهويل الأطباء مجدَّدًا؟

عشرات الآلاف من تلك القصص الواقعية تتكرر بتنويعات مختلفة، وتصرخ بقسوة ما تفعله ضغوط الحياة وتحدياتها في صحتنا البدنية، وسلامتنا العقلية والنفسية. والمفزع، أن أيًّا منا أو من خاصةِ أحبابنا، قد يكون قد قطع بالفعل شوطًا كبيرًا في الطريق إلى أحد تلك المصائر المفجعة.

قضية الضغط النفسي وعلاقتها بالصحة، ليست كلامًا إنشائيًا مجرَّدًا، بل حقائق علمية، تعززها آلاف الأبحاث التي رسمت نتائجها أمامنا قائمة مرعبة الطول من الأمراض التي يساهم الضغط النفسي والعصبي في حدوثها أو مفاقمتها. تبدأ تلك القائمة باضطرابات الجهاز الهضمي، واختلالات النوم، والسِّمنة، مرورًا بارتفاع ضغط الدم، والسكري، ولا تنتهي بجلطات الشرايين التاجية للقلب، ونزيف المخ، ومرض الزهايمر، وأمراض المناعة الذاتية، والاكتئاب، والفصام .. الخ.

جهازنا العصبي اللا إرادي، ينقسم إلى الجهاز الباراسمبثاوي، المسؤول عن أوقات الراحة والنوم .. يهدئ ضربات القلب، وضغط الدم، والنشاط العضلي والذهني .. الخ، والجهاز السمبثاوي … الطواريء والأوقات الصعبة .. يُسرِّع ضربات القلب، ويرفع ضغط الدم، والتحفُّز الذهبي، والعضلي .. الخ.

كأنك في الغابة يطاردك وحشٌ يريدك فريستَه الحالية، بينما يجهز الجهاز السمبثاوي جسمك للفرار بأقصى سرعة. التعرض المستمر للضغوط العصبية والنفسية، يجعل الجهاز السمبثاوي في حالة استنفار مستمر، ويرفع بشكل مستمر من تركيز هرمونات الضغط في الجسم كالأدرينالين والكورتيزون، وثمن هذا، التحميلُ الزائد على العقل والقلب. هل رأيت دولة ما تتقدم وهي في حالة طواريء مستمرة؟ احم .. لا تقلق، لن ننزلق إلى السياسة، فهي من أهم أسباب الضغط، حديثنا هنا عن الصحة.


القواعد الذهبية لإنقاذ صحتنا من الضغط العصبي

لا يكتفي الضغط العصبي بإيلامِنا شعوريًا فحسب، إنما لديه القدرة على مفاقمة أي حالة مرضية قد تخطر ببالك!

د.جاي وينر، مدير مشروع إدارة الضغط النفسي أحد المراكز المتخصصة في ولاية كاليفورنيا، ومؤلف كتاب بعنوان (ألقِ بالضغط خارج حياتك).

لن نخدع قارئنا العزيز، وأنفسنا، ونتحدث عن التخلص التام من كل الضغوطات النفسية والعصبية، فهذا لن يكون إلا في جنة الفردوس. أما على الأرض، وفي أيامِنا العصيبة، وبأنماط الحياة المعاصرة الضاغطة، فما لا يُدرَكْ كُلُّه، لا يُترَك جُلُّهُ أو على الأقل بعضه. سنتعلم كيف نقلل تعرضنا للضغط النفسي، والطرق الأمثل لإدارته عند حدوثه.

الاعتراف … لا أحد يحل مشكلة ينكرها

أول خطوات الحل أن تعترف أنك واقع تحت ضغط عصبي ونفسي، وأنه مشكلة لا مفر من التعامل معها،حتى لو بدت الأمور تحت السيطرة الآن. الاستسلام للإنكار عواقبُهُ وخيمة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وسيجعل ما كان يمكن علاجه بسهولة مبكرًا، أكثر كلفة بكثير.

التصالح مع بعض الضغط .. وبعض الفشل

الخوف أعظمُ من أسبابِهِ نكّدًا، كما يقول الشاعر تميم البرغوثي. الخوف من التعرض للضغط، ومن الفشل في تجاوزه، من أقوى أسباب الضغط العصبي والنفسي، ويلقي بنا في حلقة مفرغة من الضغط كالدوَّامة. قد يبدو عنوان تلك الفقرة متناقضًا مع موضوعنا، لكن لا تعارض مطلقًا، بل هو في صميمه. لأنه لا مفر من التعرض للضغط، فلننظرْ لبعضه بإيجابية كوسيلة تساعدنا أحيانًا على إنجاز بعض المهام المتأخرة، ومضاعفة الجهد لفترة محدودة. لكن لا نحوَّل حياتنا إلى سلسلة متصلة من الضغط النفسي والعصبي، ولا نحارب على عدة جبهات ضاغطة في نفس الوقت.

بالنسبة للفشل – ودون دعايات التنمية البشرية المستفزة – فلا مفر من أن نفشل في تحقيق ما نريد، ومراتٍ عديدة. مجرد التصالح مع الفكرة، سيرفع عنا ضغوط المثالية اللامنطقية، وهواجس الكمال ما وراء الطبيعي، وفوق البشري. نحتاج أمام معضلة النجاح والفشل إلى تعامل متوازن بين التحديق لأعلى، والنظر لأسفل، لكيْلا تبتلعنا دوامة الإحساس بالفشل والتقصير – جلد الذات القاتلة.

الحياة الروحية والاجتماعية … المبدأ والمنتهى

قد تبدو نقطةً بلاغية إنشائية، لكنها الأصل والصورة. الْتَهَمَ العمل، والطموح، وهواجس وضغوط الحاضر والمستقبل، الأخضرَ واليابس من طاقاتنا النفسية والبدنية والشعورية. نحتاج بشدة إلى شحن الرصيد المقدس من الروحانيات، ومن الاندماج مع الأهل وخاصة الأصدقاء في صنوف الجد واللهو خارج إطار العمل ومسئولياته. وفي هذا المقام، لابد من تنويه خاص بالسفر، وكسر الأنماط المتكررة في حياتنا من حينٍ لآخر.


الرياضة: أدومُه وإن قَل

نصف ساعة يوميًا من المشي الحثيث أو الجري الخفيف، 4-5 أيام أسبوعيًا، هو الحد الأدنى، والذي لن يُهدِّئ فحسب من الشعور بالضغط العصبي، إنما سيُبعدُنا أكثر عن الإصابة بأمراض السِّمنة، وارتفاع ضغط الدم، والسكر، والشرايين التاجية للقلب. بالطبع هناك نتائج أفضل كثيرًا إذا واظَبْنا على مجهودٍ رياضيٍّ أقوى للقلب وللعضلات، كالسباحة، والكرة، أو تمارين اللياقة البدنية المعروفة شعبيا بـ ” السويدي ” … الخ. حبذا إن احترفْتَ رياضةً ما، فالشعور بالإنجاز الذي توفِّره الرياضة من أهم الروافع النفسية، مع الحذر الشديد من ضغط الطموح للإنجاز. لا تنسَ القاعدة الذهبية .. خير الرياضة، القليل الدائم.


الطعام … لأن المعدة بيت الداء والدواء

ستتوقع أننا سننصح هنا بتبني نظامٍ غذائي صحي لإنقاص الوزن، لأن السمنة ومضاعفاتها تمثل عبئًا نفسيًا وصحيًا كبيرًا، أو قد يشطح بك الخيال، فتتصور سندعو لإطلاق العنان للاستمتاع بمباهج الطعام ولذّّاته، لتخفيف الشعور بالضغط. رغم انحيازنا العقلي للنصيحة الأولى، والقلبي للنصيحة الثانية، فإننا هنا نريد وجهًا آخر لقصة الطعام.

سنعرفك على أطعمة تقلل الضغط النفسي وآثاره، دون أن تسبب لنا آثارًا جانبية ظاهرة أو خفية، تشكل علينا في ذاتها ضغوطًا جديدة. حساء الشوفان الدافيء – بجانب قيمته الغذائية العالية – له تأثير مهديء للمخ، ويزيد إفراز السيروتونين – هرمون السعادة كما يدللُـهُ البعض – ويقلل نسبيًا من هرمونات الضغط كالأدرينالين والكورتيزون. البرتقال والجوافة وغيرهما من الفواكه الغنية بفيتامين سي، تقلل هرمونات التوتر، وتساعد ضغط الدم في الانتظام. السكريات عمومًا تزيد إفراز السيروتونين، لمَ لا نحصل على قدرٍ معتدل منها،خاصة في النصف الأول من اليوم لضمان حرق سعراتها؟

الأطعمة الغنية بعنصر الماغنسيوم كالسبانخ والخضروات الورقية عمومًا، وسمك السالمون، تقلِّل حدة رد فعل الجسم أثناء الضغط العصبي، وما يصاحبه من شعور بالإجهاد. الأوميجا 3 المتوافرة بأسماك التونة والسالمون، تقلل أيضًا من حدة استجابة الجسم للضغط العصبي. شرب الشاي بقدرٍ متعدل 2-4 أكواب صغيرة يوميًا، يساعد أيضًا في كبح جماح الشعور بالضغط.

يساهم شرب اللبن – خاصة قبل النوم – في إراحة الأعصاب، وتهيئة المخ لنومٍ أكثر هناءً. المكسرات كالفستق واللوز، غنية بالدهون المفيدة غير المشبعة، وبالفيتامينات المفيدة كفيتامين ب و هـ.، لكن احذر من الإفراط فيها، لأن أسعارها وسعراتها قد تسبب لك الكثير من الضغط النفسي والعصبي. من اللطائف، أن مضغ الخضروات الصلبة كالخيار والجزر يساهم في إفراغ طاقة الانفعال العصبي، بالإضافة إلى ذخيرة هائلة من الفيتامينات والسوائل، وبكلفة صفرية من السعرات.

وقبل كل ما سبق، تجنُّب الوجبات الثقيلة خاصة في العشاء، وتوزيع الطعام جيدًا على مدار اليوم، فهذان محورا الارتكاز في دور الطعام الإيجابي في التخفيف من الضغط العصبي.


النوم: الراحة المفقودة

البيضة قبل الدجاجة، أم الدجاجة قبل البيضة؟الضغط العصبي والنفسي هو ما أفسد علينا نومنا، أم أن اضطرابات النوم، والسهر طوعًا أو كرهًا، هو ما سبب حملًا ثقيلًا على أعصابنا وأنفسنا؟ الحقيقة أنها حلقة مفرغة تصاعدية، ولابد من كسرها. لكن كيف هذا؟

النوم المنتظم لـ 6-8 ساعات ليلًا، له فوائد لا تعد ولا تحصى، تبدأ بإعطاء الفرصة للجهاز الباراسمبثاوي بأخذ زمام المبادرة لربع أو ثلث أعمارنا، ليريح الدماغ والقلب والعضلات، ويجدد النشاط، مرورًا بالاستيقاظ المبكر وما يصحبه من بهجة أن أمامنا يومُ طويل للقيام بمهامنا، وانتهاءً بإراحة أعصابنا، والمحيطين بنا من عملية الاستيقاظ المتعثر، وما يتبعها من التوتر بشأن اللحاق بالعمل في الموعد.

إن استطعت ألا تقوم بعمل يحرمك من النوم المنتظم الوافي، فافعل. إذا كنت مثلي مصابًا بالطب – أو غيره من المهن التي لا تحترم الحق الآدمي الأساسي في النوم – فحارب لكي تكسر تلك الحلقة المفرغة، وأكثِرْ من الأيامٍ التي تستطيع فيها النوم والاستيقاظ دون أن تكون مجبرًا على ضبط المُنبِّه.

في الساعة الأخيرة قبل النوم، حاول الاسترخاء، وتجنب القيام بأي عمل ذهني أو بدني، وحاول التهرب من مولد الأفكار السرمدي الذي لا يكف عن الدوران داخل جمجمتك.

اقرأ أيضًا: الطبيب «هشام الوالي»: قربان جديد على مذبح الطب المصري


الطبيب؟

في مسببات الأمراض النفسية جمعاء، هنا واحدٌ مشترَك، رغم تعدد نظريات التفسير .. إنه الضغوط العصبية. إذا بدأ الإحساس بالضغط العصبي والنفسي يؤثر سلبًا على فعاليَّتك العملية والاجتماعية .. الخ، وشعورك تجاه نفسك ومحيطك، أو يسبب لك أعراضًا جسمانية – نفسية كنوبات الهلع، والتوتر الخارج عن السيطرة، واضطرابات حادة في عادات النوم والطعام بالزيادة أو بالنقصان.. الخ، أو أعراضًا جسمانية كآلام الصدر، وضيق التنفس .. الخ. لا تتأخر في طلب المشورة الطبية. كلما تحرَّكت مبكرًا، توافرت احتمالات أكبر للحل الجذري، واحتمالات أقل لحدوث المضاعفات.