كانت تستمع لآيات من القرآن الكريم، فنظر طفلها الصغير للغاية لصورة القارئ على الشاشة المضيئة، وأشار إليه ببراءة، ثم فاجأها بسؤال لم تتوقعه: «هل هذا هو الله؟ أنت قلت لي إن القرآن كلام الله لنا». ارتبكت ولم تستطع الإجابة في لحظتها، فقد كان هذا مفاجئًا لها، كيف أضاف طفلها أبعادًا وصوتًا وصورة في خياله للفظ الله الذي ذكرته أمامه؟ لقد اعتقدت أنه فقط يتلقى ما تقوله مسلَّمًا به، هذا جعلها تعيد التفكير في نظرتها لطفلها وكيف يستقبل حديثها عما لا يراه بعينيه، ماذا يعتقد عن الله؟ من هم الملائكة؟ وما شكلهم؟


الله والطفل وجان بياجيه

يحدد جان بياجيه Jean Piaget التطور المعرفي للأطفال في أربع مراحل:

1. المرحلة الحسحركية Sensorimotor stage من الولادة حتى انتهاء السنة الثانية:

وهذه المرحلة هي التي تنمو وتكتمل فيها حواس الطفل وتتطور حركته، وتعد مرحلة تهيئة للبنية المعرفية للسنوات اللاحقة، والإنجاز الرئيسي للطفل في هذه المرحلة هو مفهوم بقاء المادة، أي أن ما يختفي من أمام عينه لا زال موجودًا، ولكنه لا يراه، فإذا خبأت كرة داخل صندوق فسيبحث عنها بداخله.

2. مرحلة ما قبل العمليات Pre-operational stage من 3 إلى 7 أعوام:

في هذه المرحلة يبدأ عند الطفل التفكير الرمزي، ويميل عقله إلى التفكير المنطقي، ويظهر لديه مهارات كالتصنيف والمقارنة والتمييز بين الجمادات وغيرها، ويمكنه أن يفهم معنى أن ترمز لشيء مادي بما يوازيه من رمز، كالأرقام والمفهوم الكمي الموازي لكل رمز.

3. مرحلة التفكير المادي Concrete operational stage من 8 إلى 11 عامًا:

يعتبر بياجيه هذه المرحلة نقطة تحول رئيسية في التطور المعرفي للطفل، ففيها يمكنه أن ينمي معرفة ما داخل رأسه دون الحاجة لتمثيل مادي أو فيزيائي، ويكون مستوعبًا لمفاهيم بقاء الكتلة والحجم حتى إن اختلف مظهرها الخارجي، والمفاهيم الزمنية، فيستطيع التفرقة بين الماضي والحاضر والمستقبل.

4. مرحلة التفكير المجرد Formal operational stage بعد عمر 11 عامًا:

في هذه المرحلة تتطور القدرة على التفكير في المفاهيم المجردة، واختبار الفرضيات والنظريات، ويظهر التفكير النقدي ومقارنة الأشياء ببعضها على كل الأوجه واختيار الأنسب بينها، ومن خلال البيئة من حوله يكوّن الطفل قاعدة فكرية خاصة به من أفكار وآراء ومعتقدات.

بياجيه يقول إن النمو عملية متتابعة ومنظمة، من مرحلة تليها الأخرى، واكتمال كل مرحلة جزء لا يتجزأ من المراحل التي تليها، ذلك يجعل سؤال الطفل عن إذا ما كان قارئ القرآن هو الله سؤالًا منطقيًّا في طور مرحلة نموه المعرفي، ولكن واقع الأمر أن الأطفال ما قبل مرحلة التفكير المجرد يتعلمون ما يعايشون، وهم يرونك تمارس طقوسك وفروضك الدينية ويستطيعون أن يشعروا بإيمانك بالفعل، فليس بالضرورة أن تهمل الجانب الروحاني لطفلك لعلمك أنه لن يستوعب الغيبيات الآن، ولكن هناك ما يمكنك فعله لتساعده على التطور الروحاني، وهناك دراسات تؤكد أهمية التربية الروحية للأطفال. ولكن إن كنت لا تعرف كيف توازن بين غرس ما تؤمن به في طفلك وبين كيفية استقباله له، فإليك هذه الأفكار.


الاتصال بالطبيعة

كان إبراهيم يتأمل ويتفكر ليلًا من هو الله؟ فلما رأى كوكبًا لامعًا في السماء قال ها قد وجدت الله، فلما خفي عن ناظره تراجع، ثم رأى القمر، فقال إنه ربي، وعندما غاب القمر تراجع، ثم رأى ضياء الشمس، فقال هذا ربي، فهذه أكبر، فلما غربت تبرأ من عبادته لها، وإن كان هذا تفكر إبراهيم لنفسه أو هو فقط قول ليدعو قومه لمعرفة الله، فإنه قد وجد إلهه خالق الكواكب والقمر والشمس بعقله وقلبه وروحه، وبالتأمل في ملكوت السماوات والأرض.

عجائب وسحر الطبيعة والاتصال بها لهو خير سبيل لتنمية الروح، الأطفال الذين يرتبطون بالطبيعة ويتفاعلون معها أكثر سعادة وصحة وإبداعًا، فلنبطئ وتيرتنا قليلًا ونقف مع أبنائنا لنتأمل تلألؤ الشمس الرائعة في صمت، ونشتم الورود ونلمسها بأيدينا لنشعر بجمالها داخل قلوبنا، تلك اللحظات لا ينبغي دائمًا أن ندفعها دفعًا لتتحول لدرس علمي للأطفال، نحن نمر كل يوم على عشرات المعجزات التي لا تحتاج شرحًا، ولكننا لا نراها في عجلتنا.


لا تجاوب أسئلة طفلك، ولكن ابحث معه عن إجابة

لا يتوقف الأطفال عن الأسئلة، لما وماذا وكيف ولماذا أي شيء وكل شيء، أحيانا يكون هذا مزعجًا لنا، ولكن هكذا ينمو عقلهم وينضجون روحانيًّا، يمكننا أن نضع تحت أقدامهم إجابة جاهزة لكل سؤال، ولكنها ستكون إجابات قاصرة على رؤيتنا نحن فقط للأشياء، ولكن يمكننا أيضًا أن نعطيهم مفاتيح البحث، فنساعدهم في تحسين جودة أسئلتهم، وبذلك سيفتح أمامهم ألف جواب لكل سؤال، وكل جواب منها سيثير في أنفسهم ألف سؤال آخر، هذا سيجعل عقولهم وقلوبهم تسع كل الكون بتناقضاته، وييسر لهم الإبحار فيه بك الثقة، عندما يسألنا الأطفال فإنهم لا يحتاجون إجابتنا، ولكنهم يحتاجون إلى تعاطفنا مع حيرتهم، وأن نعلمهم كيف يصطادون بدلًا من إعطائهم سمكة.


الشعور بالأمان والسلام

عندما نشعر بالأمان والسلام تنخفض في أجسادنا هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول والأدرينالين، في هذه الحالة المستقرة تبدأ قشرة الفص الجبهي في العمل بكامل طاقتها، مما يسمح للأطفال بالمشاركة الكاملة في اللعب والنمو دونما معوقات نفسية، والدخول في علاقات اجتماعية سوية وآمنة، بجانب القدرة على التحكم والفهم والتعبير عن مشاعرهم بدقة، وبناء ثقتهم في أنفسهم، أن يشعر أحيانًا الأطفال بالخوف لهو أمر طبيعي، بل إنه ضروري ليحافظ على سلامتهم، ولكن لا ينبغي أن يكون إحساس الخوف مصدره الآباء عندما يهددون أطفالهم ويصرخون في وجوههم أو يتركونهم يتعرضون للإهانات من مدرب أو معلم بدعوى التعليم والتفوق، بل عليهم أن يكونوا أهلًا للثقة التي يضعها أبناؤهم فيهم، أنهم مصدر الحماية والأمان.


الخيارات الأخلاقية مكلفة

يحتاج الأطفال لفهم أن الوصول لكل شيء ذي قيمة يتطلب جهدًا كبيرًا،كما العمل الطيب والخيارات الأخلاقية، يلزمها تزكية للنفس ومقاومة للشهوات، ولكنهم في الوقت نفسه أيضًا يحتاجون لأن يثقوا في أنهم قادرون على إنجاز هكذا مهمة صعبة، ولكي تتحقق هذه المعادلة يجب أن تتاح لهم الفرصة ليختبروا بأنفسهم قدرًا مناسبًا لبعض التحديات في حياتهم، فلا نفرط في تدليل أبنائنا، فيصبحوا اتكاليين ماديًّا ونفسيًّا، ولا نبالغ في رفع أيدينا عنهم فيتجرعون الفشل مرارًا وتكرارًا، ويفقدون الثقة في أنفسهم وفي العالم من حولهم.


الامتنان للنعم

نادرًا ما يقدر الأطفال ما لديهم من نعم، فهم دائمًا يتطلعون للمزيد والمزيد، ولكن اكتسابهم للامتنان لوجودها في حياتهم لن يأتي بالتوبيخ وإشعارهم بالذنب، ولكنه يأتي بامتناننا نحن لهم لما يقدمونه لنا من متعة ومعنى لحياتنا، يأتي من امتناننا للبيئة من حولنا بحفاظنا عليها، يأتي بممارساتنا اليومية لتعديد نعم الله وفضله علينا وشكرنا وحمدنا له على رزقه كله، يأتي من شكرنا لكل من يساعدنا ويجعل حياتنا أيسر، فالامتنان والشكر يحولان ما «لدينا» إلى ما «يكفينا»، والأطفال يتعلمون ما يشاهدونه ويختبرونه، وليس ما يوعظون به.

أرواح الأطفال الصغار طاهرة وقلوبهم نقية، أفضل ما يمكننا فعله لهم هو حفظ ذلك النقاء والطهر من التلوث المحيط بنا قدر إمكاننا.. وأن نحاول التعلم منهم.