واجتمعت عليه الأولاد الصغار في البيت الذي حبسوه فيه يقولون:
باشا يا باشا يا عين القملة!

مِنقال لك تعمل دي العملة!

باشا يا باشا يا عين الصيرة!

من قالك تدبّر دي التدبيرة!.

سادت لسنوات طوال ولا تزال أكاذيب عدة عن مصر في العصر العثماني، أولها أن العثمانيين احتلوا مصر. فمنذ القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي ظلت مصر تحت نير الاحتلال التركي البغيض، في عصر الظلمات السحيق، تركلها أقدام المماليك تارة والعثمانيين أخرى، حتى خلّصها المحرر العظيم نابليون حين جاء وأنشأ الديوان، وقدّم المطبعة، ونشر روح التنوير الفرنساوية على الأمة المصرية المظلومة!.


هل حكم المصريون أنفسهم؟!

وفات هؤلاء العباقرة أن المصريين قبل العصر العثماني لم يحكموا أنفسهم أصلاً، بل لم يدافعوا عن أنفسهم بإنشاء التنظيمات المسلحة الصغيرة فضلاً عن تكوين جيش قومي منظم، فقد سبق العثمانيين المماليكُ الجراكسة والمماليكُ الأتراك، والأيوبيون الأكراد، والفاطميون المغاربة، والإخشيديون والطولونيون الأتراك، ومن قبلهم العباسيون والأمويون والصحابة من الجنس العربي، ثم من قبل ذلك الرومان البيزنطيون والإغريق اليونان، والفرس، وهلم جرا حتى نصل إلى الفراعين منذ أكثر من ألفي عام!.

لم يكن المصريون أو غيرهم من شعوب العالم الإسلامي بالتحديد قبل ظهور الدولة القومية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يعرفون ماهية القطرية أو القومية، وقد شفى بندكت أندرسون غليلنا، حين تحدث عن «الجماعات المتخيلة» وتأملاته الرصينة في أصل القومية وانتشارها في العالم، وأنها كانت تجليًا من آثار الرأسمالية التي اتجهت إلى نشر الكتب باللغات المحلية في أوروبا، فرسّخت الوعي القومي على المستوى الفكري، بجوار الدوافع السياسية والعسكرية والجغرافية الأخرى التي ساهمت في هذا الترسيخ، وبهذا تكون القومية منتجًا أوروبيًا في المقام الأول، وتم فرضه عسكريًا في عصر الكولونيالية البغيض على شعوب العالم الإسلامي.

إذن لم يكن همّ المصريين أن يعرفوا من يحكمهم بقدر ما أهمهم حفاظ هذه الحكومات على الأمن والحقوق وإقامة ناموس العدل والشريعة، واحترام طبقة العلماء، وبقاء الحدود منسابة بين أقطار العالم الإسلامي، ولا نقول إن كل تلك الأنظمة كانت خالية من الظلم، لكننا نقر بأنها احترمت النظام العام الذي اعتادت عليه شعوب مصر والشام والحجاز.


العثمانيون البؤساء!

على أن العثمانيين الذين دخلوا القاهرة ظافرين على يد السلطان سليم شاه في عام 923هـ/1517م، والذي قطع رؤوس الرؤوس من المماليك الجراكسة، وجرت أنهار دمائهم مع النيل تحت أقدامه في بولاق، سرعان ما أضحوا بمرور الزمن أقلية ضعيفة لا تسكن إلا في القلعة، فرضوا من المصريين أن يخطبوا ويدعوا للسلطان العثماني، وأن يعطوا الخراج المستحق عليهم كل عام وفقطـ، فلم يكن للوالي العثماني أي قيمة أو قوة أمام بقايا المماليك الذين سرعان ما استردوا عافيتهم، وصاروا شيوخ البلد، وعادت «ريمة لعادتها القديمة»؛ حيث صارت مصر بين ولاة العثمانيين الضعفاء، وشيوخ البلد من المماليك الأقوياء، وعامة أهل مصر من الشيوخ والعلماء والقضاة وأهل الحِرف والفلاحين.

ويكفيك أن ترجع للجبرتي لترى حال هؤلاء الولاة العثمانيين المساكين، إذ كلما كان يغضب عليهم المماليك في مصر لا يجدون أمامهم إلا طريقيْن، إما القتل أو الاستبدال، بل وتهكُّم المصريين في نهاية المطاف، فأحدهم رجب باشا أرسلته الآستانة واليًا على مصر في القرن السابع عشر الميلادي، وأمرته أن يقتل الوالي السابق، وبعدما فعل ما أمر به، فوجئ أنه لم يعجب المماليك، فأنزلوه من القلعة، واجتمعت عليه الأولاد الصغار في البيت الذي حبسوه فيه يقولون:

باشا يا باشا يا عين القملة!

مِنقال لك تعمل دي العملة!

باشا يا باشا يا عين الصيرة!

من قالك تدبّر دي التدبيرة!

ولم يكتف المماليك بهذا، بل أخذوا منه ماله ومتعلقاته و«سافر رجب باشا من حيث أتى، بعدما دفع المائة وعشرين كيسًا من الذهب التي أخذها من دار الضرب»، هكذا ببساطة رجع الرجل من حيث أتى، فهل هذه قوة والٍ مستبد عثماني «خرسيس»؟!.

ويؤكد حالة الضعف التي اتسم بها هؤلاء الولاة العثمانيون عدد من الرحالة والمستشرقين الذين مرّوا بمصر في القرن السابع عشر، فمثلا يقول الرحالة فانسليب واصفًا ما شاهده في مصر سنة 1673م من استئثار المماليك بالحكم:

«إن كلمة البكوات في الديوان كانت نافذة بحيث لم يكن الباشا يُخالف لهم أمرًا، وكانوا يملكون عزله!».

ويقول المستشرق مارسيل:


المصريون والمماليك: وجهًا لوجه!

«انحصر تاريخ مصر في منتصف القرن السابع عشر إلى آخره في تعاقب الباشاوات على ولايتها فتولاها 22 واليًا، لم يكن لهم شأن يُذكر في حكومتها!».

كانت القوة في يد المماليك إذن، فهل رضخ عامة أهل مصر لاستبدادهم وتسلطهم؟، وهذا سؤال أجاب عنه الجبرتي العظيم في تاريخه حين ساق حوادث عدة تؤكد عدم تهاون العامة مع هؤلاء الظلمة، لكن العامة جعلوا العلماء في مقدمة الصفوف، خاصة علماء الأزهر وساداته. فمثلاً حين نهب حسين بيك بيت أحمد سالم الجزار «حتى مصاغ النساء والفراش ورجع والناس تنظر إليه»؛ «ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك، وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول، والتفَّ عليهم جماعة كثيرة من العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير فوافقهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: أنا معكم فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت. وقال لهم الشيخ الدردير: في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم، وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداءً أو ينصرنا الله عليهم، فلما كان بعد المغرب حضر سليم أغا مستحفظان ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال، وقالوا للشيخ: اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون. واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا، وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيم بك وأرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك فقال: في الجواب كلنا نهّابون أنت تنهب ومراد بك ينهب وأنا أنهب كذلك. وانفض المجلس وبردت القضية». كان ذلك في العام 1201هـ الموافق لسنة 1786م.

ومن قبل ذلك بعامين سنة 1199هـ الموافق لسنة 1784م، «ثار فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر، وقفلوا أبواب الجامع ومنعوا منه الصلوات. وكان ذلك يوم الجمعة فلم يُصَلّ فيه ذلك اليوم، وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له، ومسجد المشهد الحسيني، وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق، ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره، وتبعهم في ذلك الجعيدية وأراذل السوقة. وسبب ذلك؛ قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة، واستمروا على ذلك إلى بعد العشاء، فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية، وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلم معهم ووعدهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم، فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد».

كانت العامة في العصر العثماني قادرة على رد حقوقها من المماليك والعثمانيين، يقف أمامهم في ذلك شيوخ الأزهر كما ساق الجبرتي في تاريخه. على أننا يجب أن نسأل أولئك الذين زوّروا التاريخ وصوّروا المصريين بؤساء في ذلك العصر عن أغراضهم من خلف هذا التزوير الفج، لكن ثمة مسألة أهم من هذه الجدلية القديمة بين كُتاب التاريخ المزورين وغيرهم، وهي: كيف كانت الحالة الثقافية والفكرية للمصريين في العصر العثماني؟، وهذا سؤال موضوعنا القادم إن شاء الله، لنرى: هل كانوا فعلًا في عصور الظلام والاستبداد والتخلف؟.