كان المال وامتلاكه من أهم ما عنيت به المصادر التاريخية في مختلف الحضارات، وذلك لأنه عصب الحياة وبه تسير عجلة الحضارة بقوة دافعة نحو الكمال، وهو ما جعل الفئات التي تمتلكه هي صاحبة الكلمة العليا.

لذلك كانت فئة التجار في المجتمعات الإنسانية وعلاقتها بالسلطة والقوة السياسية ذات تشابك وتداخل، عنوانه الرئيسي تبادل المصلحة والحصول على النفوذ وربما الأمان لهذه الفئات.

ولا شك كانت فئة التجار في تاريخ المجتمعات الإسلامية ليست بدعًا عن هذه الحقيقة التاريخية التي لا ريب فيها.

تفسير علاقة التجار بالسلطة عند ابن خلدون

ربما لن نجد أفضل من العلامة عبد الرحمن بن خلدون مؤسس علم الاجتماع المتوفى في 808 هـ / 1406 م من تشريح هذه العلاقة وتفسيرها على الوجه الأكمل، وذلك في مقدمته الشهيرة.

حيث فصّل ابن خلدون العلاقة بين الثروة والسلطة في عدة فصول منها أن الجاه مفيد للمال، وفي ذلك يوضح العلاقة بين المال والسلطة بشكل عام في قوله: «نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه. والسّبب في ذلك أنّ صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرّب بها إليه في سبيل التّزلّف والحاجة إلى جاهه».

وينتقل ابن خلدون من العام إلى الخاص، ليزيد من شرح العلاقة المباشرة من استفادة التجار من علاقتهم بأهل الدولة، فيقول:

إذا توفر المال لدى التاجر فحصلت له ثورة تعينه على الاتصال بأهل الدولة، فعل ذلك من أجل الظهور والشهرة.

ويبدو أن العلاقة ليست عابرة لدى من يمتلك المال، حيث يريد الحفاظ عليها حتى تصير جزءًا من حياته ومصيره، فتصير له خلقًا وطبيعة، وهذا ما يوضحه ابن خلدون حيث فسر ذلك بقوله:

خلق التجار تميل إلى المكايسة و المماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض أخلاق التجار.

بل يزيد من نكأ الجرح وتشريحه باتهام هذه الفئة المرتزقة من التجار أو ما يمكن القول بوصفه إنهم عيال السلطة بقوله: «خلق التجار نازلة عن الرؤساء وبعيدة عن المروءة».

وعلى أي حال؛ فإن ابن خلدون كان يرى أن «الدولة هي السوق الأعظم للتجارة» وهي مقولة تتلخص في فلسفة المصالح والتشابك في العلاقة ما بين التجار والسلطة بين الشد والجذب وغالبًا التحالف وبعض التخاصم أيضًا.

وهنا يمكن أن يكون فلسفة ابن خلدون السابقة الذكر، بابًا نستخدمه لفهم العلاقة أكثر فأكثر في الأمثلة التاريخية التي نوردها لاحقًا:

1. الدين مقابل النفوذ ومزيد من الأموال

كانت الدولة الفاطمية في أوج قوتها تسيطر على طرق التجارة الخارجية في البحر المتوسط والأحمر، وتؤمن طرق الحصول على ذهب لانتعاش العملة وذلك في سني عمر الدولة الفاطمية في مصر.

إلا أن منذ عهد المستنصر بالله الطويل الذي استمر نحو ستين عامًا من 427هــ / 487 هــ – 1036 / 1094 م كان تغيًرا في بنية الدولة الفاطمية التي بدا الضعف والشيخوخة ظاهرين عليها.

هنا يبدأ التجار الذين استفادوا حينًا من الدهر من هذا الانتعاش الاقتصادي، بالحفاظ على أموالهم من بطش السلطة الفاطمية الذي حاولت الحصول على المال بشتى الطرق لإنقاذها من الأزمات الاقتصادية المستمرة.

حيث حاولت الطبقة الوسطى من التجار التي كان أغلبها من غير المسلمين الحفاظ على أموالهم من المصادرات، وذلك بالتخلي عن دينهم والانخراط أكثر في منظومة الدولة، فدانوا بالمذهب الإسماعيلي الشيعي (مذهب الدولة) لكي يفوزوا بالمناصب العليا، وبالتالي يحافظون على ثروتهم وزيادة قوة تجارتهم وهو الهدف الرئيسي.

2. تحالف السلطة مع البرجوازية التجارية

فطن السلاجقة مبكرًا على يد فيلسوفهم السياسي وأعظم وزرائهم على الإطلاق نظام الملك الطوسي ت ٤٨٥هـ / 1092م أن التحالف مع البرجوازية التجارية أو طبقة التجار في الدولة به منافع جمة، وهذا خير من الصدام بلا شك.

لذلك عقدوا حلفًا ضمنيًا مع التجار هذا بالرغم من سياستهم الاحتكارية والإقطاعية للسيطرة على كل شىء، حيث كان نظام الملك وهو الأب الروحي لنظام الإقطاع السلجوقي يعطي القادة العسكريين وكبار الأعيان وأمراء الدولة أراضي زراعية ليضمن الولاء والطاعة وتقديم الخدمات العسكرية الجليلة للدولة.

هنا تتجلى عبقريته بالتحالف مع التجار لضمان المورد المالي للدولة في ساعات الحرج العسكري، وهم وجدوا ضالتهم للحفاظ على النفوذ، حتى شكلوا برجوازية تجارية مرموقة بتعبير الدكتور محمود إسماعيل في موسوعته سوسيولوجيا الفكر الإسلامي.

على أي حال تحالف التجار كان هدفه زيادة النفوذ وحمايته من بطش متوقع من القادة العسكريين في أي وقت، لذلك لجأوا إلى عملية إقراض واسعة للسلطة الحاكمة.

نجد مثالًا أن تاجرًا مرموقًا يدعى ابن علان أقرض وزارة نظام الملك مائة ألف دينار ذهبي لإنقاذه من ضائقة مالية قد تلوح في الأفق. وهذا ما لجأ إليه تاجر يهودي كان واسع الدهاء، حيث تقرب بماله الوفير من نظام الملك الوزير الأعظم ليكون مستشارًا ماليًا له، فأقرضه مبلغًا كبيرًا من المال لم تذكره المصادر.

كذلك أعيان وتجار كان لهم دور في أقاليم محلية ضمن الدولة السلجوقية، مثل أبو طاهر ابن الأسبقي قام بنفس الدور من التمويل والإقراض، وأبو طالب بن كسيرات وكان مستشارًا ماليًا ومن كبار الممولين لحاكم الموصل في شمال العراق المدعو شمس الدولة جكرمش، بل متحكمًا في أمور الإقليم كافة، كما يحكي لنا ابن الأثير.

هذه الشريحة الاجتماعية قامت أيضًا بدور وساطة مالية كبيرة في الإنشاءات العسكرية التي أقامها السلاجقة في وقت السلم مثل التحصينات والدفاعات الحدودية، وتزويد الجند بما يلزم في النقاط الحدودية من مؤن وعتاد، وكان ذلك بالاتفاق مع السلطة مقابل ربح عظيم، ويبدو أن هذا هو مقابل إقراض السلطة، وبالتالي ما أقرضته من قبل أصبح في خزائن التجار بأكثر من ضعفه.

3. تجار يتحكمون في دفة السياسة

كانت أدوات التجار هو التحكم في دفة السياسة في أوقات الضعف، وهو ما حدث بالفعل غير مرة في التاريخ.

ولعل هذا يظهر جليًا في دمشق خلال الحروب الصليبية التي كانت تعصف بالشام، وتحديدًا في وقت كانت دمشق تحاول فيه الحفاظ على كيانها.

يحدثنا ابن الأثير، أن تجار دمشق تدخلوا في سير الأحداث، وتواصلوا سرًا مع الملك العادل نور الدين محمود ابن زنكي ت 569هـ / 1174م  ليحتل دمشق وينتزعها من من آل بوري حكامها وتدخل في ملكه، وذلك مقابل الحفاظ على مكانتهم التجارية وعدم دفع الضرائب وتخفيفها.

بالفعل قام نور الدين بذلك الأمر ونفذ وعده متبعًا سياسة مالية معتدلة تجاه جميع التجار الدمشقيين سواء المسلمون أو النصارى واليهود، ليكون ذلك تحالفًا ضمنيًا يساعد على انتعاش حالة حاضرة ملكه الاقتصادية في مواجهة حصار الصليبيين الخانق لبلاد الشام.

وهكذا كان للتجار دورًا سياسيا كبيرًا في افتتاح دمشق وإنهاء حكم دولة آل بوري لصالح قوة دولة نور الدين محمود، لضمان استمرار مكانتهم وتفوقهم الاجتماعي فى دمشق.

4. التجارة والجاسوسية: تحالف المماليك مع آبائهم الروحيون

ربما ارتبط سلاطين وأمراء المماليك – مجهولو النسب – عاطفيًا مع تجار العبيد والرقيق الذين كان لهم الدور في بيعهم ووصلهم لما هو فيه من الجاه والسلطان.

تبدو هذه الفكرة شديدة السذاجة، إلا أن إشارات تؤكد العلاقة الطيبة بين تجار الرقيق وسلاطين المماليك الجراكسة، ليس فقط أن هؤلاء التجار كانوا يزودون الأمراء المماليك بالعبيد والجلبان الذين ينخرطون في سلك الجندية، ولكن كانت لهم وظائف أعلى.

حيث استغل المماليك تجار الرقيق وتحالفوا معهم بما لهم من علاقات طيبة، في تعيينهم جواسيس وعيون على الأعداء، وذلك لأن التجار كانوا أسهل في الحركة والذهاب إلى مناطق بعينها والاطلاع على الأخبار.

بل ربما يصل الأمر إلى شيخ تجار العبيد ليكون سفيرًا لمهام حساسة يطلبها سلاطين المماليك. هذا جعل بلا شك هذه الفئة تصل للثراء الفاحش، وهو ما تحدثنا عنه المصادر في هذا العصر.

وبشكل عام كانت فئة التجار وقود الدولة المملوكية سواء كانت البرجية والبحرية، بحيث أمدت الدولة بالموظفين والسفراء الذين حصلوا على نفوذ لم يحدث من قبل، مستغلين قوة ازدهار التجارة واحتياج السلاطين لهم خاصة لتمويل مشاريعهم الداخلية والخارجية.

وكانت وصول هذه الفئة لمفاصل الدولة بهذه الطريقة من الذكاء بمكان، بحيث مكّن التجار أكثر – ومنهم المثقفين بالطبع – الحصول على مكانة في وسط القادة المماليك الذين جهلوا اللغة العربية وآدابها. علاوة على الثراء الفاحش للبيوتات التجارية في مصر والشام، الذي استمر للحكم العثماني للبلاد.  

5. وزراء بعقلية تجار لإرضاء السادة الحكام

ربما يكون هناك تداخل في العلاقة بين التجارة والسلطة، أيهما يفيد الآخر، هل السلطة هي من تفيد التجارة أم العكس، ولكن نجد أن المال هو من يحدد العلاقة بلا شك.

ننتقل إلى الأندلس، وتحديدًا في القرن الخامس الهجري حيث ملوك الطوائف، ومنها مملكة غرناطة وحاكمها باديس بن حبوس، الذي كان بربريًا لا يفهم كثيرًا من شؤون المال والاقتصاد.

لكن لحسن طالعه، عين التاجر اليهودي يوسف بن نغرالة شؤون الوزارة في سابقة لم تحدث في الأندلس، وقد كان توفيق الأخير كفيلًا بحسن الاختيار، حيث قام ابن نغرالة بضبط مالية المملكة، بخاصة في جباية الضرائب، وهو ما أنعش خزينة الدولة بأكثر من 100 ألف دينار من جباية أراضي وادي آش بالقرب من غرناطة نفسها.

هذه الكفاءة المالية أعجبت باديس، وتمسك أكثر بابن النغريلة اليهودي بالرغم من سخط أشياخ الدولة على الوزير اليهودي بل وسخط العامة ضده بسبب المؤامرات ومحاباة اليهود في المملكة وهو ما انتهى به الحال إلى الاغتيال على يد العامة إبان ثورة عارمة ضده.

المراجع
  1. ابن خلدون المقدمة.
  2. ابن الأثير الكامل في التاريخ، ج 8
  3. د. محمود إسماعيل، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، طور الانهيار.
  4. آشتور: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط في العصور الوسطى.
  5. –       فاطمة بو عمامة: اليهود في المغرب الإسلامي خلال القرنين السابع والثامن هجري.
  6. إمحمد بن عبود: جوانب من الواقع الأندلسي في القرن الخامس الهجري.