هناك سباق عالمي مشتعل لبدء تطبيق تقنية 5G والتي تُعتبر نقلة نوعية في الشبكات اللا سلكية، فهي تعد بالكثير، ويبدو أننا على أعتاب مرحلة جديدة كليًا في استخدام الإنترنت اللا سلكي ستؤثر على طريقة حياة البشر نفسها.

لقد وفرت لنا شبكات 1G القدرة على استخدام أول هواتف خلوية في التواصل الصوتي اللا سلكي، وجاءت شبكات 2G لتحسن تلك التجربة الصوتية وتضيف إلى ذلك إرسال واستقبال الرسائل النصية، بينما شبكات 3G منحتنا القدرة على الاتصال بالإنترنت من هواتفنا، ثم أتت شبكات 4G لتوفر سرعة أكبر للاتصال بالإنترنت.

ولكن مع اقتراب شبكات 4G للوصول إلى أقصى إمكاناتها، تأتي شبكات 5G لتوفر سعة أكبر لاحتواء أجهزة أكثر مع الزيادة المطردة في أعداد المستخدمين والأجهزة المتصلة بالإنترنت، وستقدم سرعة أفضل بكثير.


شبكات 5G ستفتح أفقًا جديدًا

ربما تعتقد أن ما سأتحدث عنه هو ضرب من الجنون أو الخيال العلمي، ولكن ما تعد به شبكات الجيل الخامس يعتبر نقلة نوعية في تفاعلنا مع التكنولوجيا حولنا، وفي استخدامها وتطبيقنا لها. فمع المزايا التالية سيمكن اقتحام مجالات وتطوير إمكانات لم تكن متاحة من قبل.

1. سرعة خارقة

لن تكون سرعة شبكات الجيل الخامس مجرد زيادة طفيفة على سرعة شبكات الجيل الرابع، بل نحن نتحدث هنا عن سرعة خارقة تصل إلى ما بين 100-250 ضعف السرعات الحالية! فهي تعد بسرعة تصل إلى 20 جيجابت في الثانية. هذه السرعة ستمكنك من تشغيل ما يقرب من 400 فيلم أونلاين بجودة 8K في وقت واحد!

2. معدل تأخير شبه منعدم

المميز هنا هو معدل التأخير (وهو مقدار التأخير بين إرسال واستقبال المعلومات)، والذي سيبلغ في شبكات 5G حوالي 1 ملي ثانية أو أقل، مقارنة بحوالي 70 ملي ثانية في شبكات 4G.

ولو جئنا للحق، فإن 70 ملي ثانية هو معدل جيد جدًا؛ لأن وقت رد الفعل البشري حوالي 200-300 ملي ثانية بالأساس. بينما في شبكات الجيل الخامس ستكون الاستجابة فورية تقريبًا.

3. عدد أجهزة أكبر في حيز جغرافي أقل

إن شبكات الجيل الخامس لن تعتمد على نفس الموجات التي اعتمدت عليها الأجيال السابقة والتي كانت موجات طويلة، بل ستعمل على موجات قصيرة، هذه الموجات ستحتاج إلى محولات صغيرة بينها مئات الأمتار فقط.

وهذا إن كان أحد عيوب شبكات الـ 5G إلا أنه أيضًا يعني استيعاب أجهزة أكثر بسبب هذا العدد الكبير من المحولات، فالبنية التحتية لشبكات الـ 4G الحالية تستوعب حوالي مليون جهاز متصل بالشبكة في نطاق 500 كيلومتر مربع، بينما البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس ستستوعب حوالي مليون جهاز متصل في نطاق 1 كيلومتر مربع!


التحديات التقنية

في سبيل تحقيق تلك المزايا، ولكيلا نطلق على شبكة الجيل الخامس أنها مجرد «شبكة جيل رابع أسرع» فإنها ستعتمد على تقنيات جديدة كليًا لتغير شكل الاتصال الحالي بالإنترنت، وهذا ما جعل أمامها تحديات صعبة، وحسب مجلة IEEE Spectrum التابعة لـمعهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات بالولايات المتحدة الأمريكية؛فإن العلماء قد توصلوا إلى حلول لتلك التحديات.

موجات راديو جديدة

إن الإنترنت اللا سلكي يُبَث عن طريق نفس موجات الراديو منذ البداية وحتى شبكة 4G، ازدياد عدد المستخدمين والأجهزة يجعل الخدمة تتأثر لأن السعة كما هي في المقابل، فيحدث بطء وعدم استقرار في الخدمة. ولحل هذه المشكلة تقرر استخدام موجات راديو جديدة تمامًا Millimeter Waves تستطيع استيعاب عدد أكبر بكثير من المستخدمين الجدد، مما يؤثر بالإيجاب على وصول السرعة كاملة واستقرار الخدمة.

الموجات القديمة كانت أقل من 6 جيجاهرتز، والموجات الجديدة ستكون ما بين 30 إلى 300 جيجاهرتز. ولكن الأمر ليس بتلك البساطة، لأن الموجات الجديدة لديها بعض القيود التي تتحدى الاعتماد عليها، فهي قصيرة جدًا، ولا تستطيع اختراق جدران البنايات أو الموانع الصلبة الأخرى، وتتأثر جودتها بالمرور خلال النباتات والمطر.

الخلايا الصغيرة

وللتغلب على تلك العواقب، ستعتمد شبكات الجيل الخامس على تكنولوجيا جديدة تدعى الخلايا الصغيرة Small Cells، وهي عبارة عن محطات صغيرة تتطلب أقل قدر من الطاقة للعمل، ويمكن توزيعها بمسافة تبلغ 250 مترًا بين كل محطة وأخرى داخل المدن، وعن طريق إقامة آلاف المحطات في كل مدينة سيمكن توفير اتصال مستقر بشبكة الـ 5G في أي مكان.

لا شك أن الأمر سيحتاج إلى مجهود كبير لإعداد بنية تحتية بتلك الضخامة، ولكن لحسن الحظ فإن تلك الخلايا الصغيرة تبلغ من الصغر بحيث يمكن وضعها فوق أعمدة الإنارة وأسطح البنايات.

محطات رئيسة أكبر

لن يقتصر الأمر على إمداد المحطات الرئيسة الحالية بآلاف المحطات الصغيرة المساعدة، بل هي أيضًا سيتم إحلالها وتركيب محطات أحدث ذات سعة أكبر.

فالمحطات الحالية المستخدمة في شبكات 4G تحتوي على 12 منفذًا للهوائيات المسؤولة عن الإرسال والاستقبال، بينما محطات شبكات 5G والتي تدعى Massive MIMO ستدعم حتى ما يقرب من مئة منفذ! وهذا ما يعني أن المحطة الرئيسة يمكنها إرسال واستقبال عدد إشارات أكبر من مستخدمين أكثر في نفس اللحظة.

تنظيم الإشارات

عندما يزداد عدد الإشارات في المحطة الواحدة، سيكون الأمر عرضة لتداخلها واعتراضها لبعضهم البعض، ولهذا ستتبنى الأبراج نظامًا جديدًا لتنظيم الإشارات يسمى Beamforming. ففي المحطات الرئيسة الكبرى ستقوم خوارزميات معالجة الإشارات برسم أفضل طريق انتقال عبر الهواء لكل مستخدم.

وسيمكنها توجيه الإشارة في حزمة مركزة تشير فقط في اتجاه المستخدم، بدلاً من البث في اتجاهات عديدة في وقت واحد. ويمكن لهذا النهج أن يعزز فرص الإشارة للوصول في حالة سليمة ويقلل التداخل بين الإشارات.

إرسال واستقبال في نفس اللحظة

تعتمد حاليًا المحطات الرئيسة والهواتف المحمولة على أجهزة الإرسال والاستقبال التي يجب أن تتناوب في حالة إرسال واستقبال المعلومات عبر نفس التردد. فمثلًا تنتظر إشارة الاستقبال حتى ينتهي انتقال إشارة الإرسال، ثم تبدأ هي الأخرى في الانتقال، أو تعمل على ترددات مختلفة إذا أراد المستخدم إرسال واستقبال المعلومات في الوقت نفسه.

مع شبكات 5G ستتمكن المحطة من إرسال واستقبال البيانات في الوقت نفسه، وعلى نفس التردد. هذه التقنية تعرف باسم Full Duplex، فتخيل على سبيل المثال أنك تقوم بمناقشة مع صديق ما، وأنتما الاثنان تتكلمان في الوقت نفسه ورغم ذلك يفهم كلٌ منكما الآخر بسهولة، مما يعني أن مدة المناقشة ستقل إلى النصف تقريبًا وسيمكنكما بدء مناقشة أخرى والاستفادة من هذا الوقت.


بعض التطبيقات الممكنة لاستغلال شبكات الجيل الخامس

مع تلك المزايا سنتمكن في المستقبل القريب من طرق أبواب جديدة لتقنيات رائعة وتطبيقات مفيدة.

انتشار أوسع لإنترنت الأشياء IoT

استيعاب عدد أكبر من الأجهزة يعني انتشارًا أوسع لاستخدام الأجهزة الذكية وزيادة الاعتماد عليها، فيمكن لكل شخص اقتناء ثلاجته الذكية وموقده الذكي وجرس بابه الذكي ومصباحه الذكي… إلخ. وعلى مستوى الأعمال والصناعات ستتصل المزيد من الآلات والمعدات بالشبكة.

اتصال الأشياء بالإنترنت عن طريق شبكات 5G سيضمن سهولة التحكم فيها عن بُعد، وخصوصًا مع استقرار الخدمة وسرعتها في إرسال واستقبال المعلومات والأوامر.

عمليات جراحية عن بُعد

مع هذا القدر الضئيل جدًا من معدل التأخير يمكن القيام بأعمال دقيقة للغاية عن بُعد بنسب خطأ شبه معدومة. ويأتي على رأس تلك الأعمال العمليات الجراحية!

يمكن إجراء العمليات الجراحية من الجانب الآخر من العالم، حيث يتم التحكم في روبوتات الجراحة باستجابة فورية بواسطة جراحين خبراء عن بُعد، وبمساعدة جراحين خبراء آخرين في غرفة العمليات أيضًا، وكل هذا في وقت واحد.

فسيمكننا وقتها إنقاذ الأرواح في المواقف التي يكون فيها الوقت والمسافة هما الفرق بين الحياة والموت.

الألعاب الأونلاين

ستقول وداعًا للهزائم المشينة في PUBG وFortnite التي يتسبب فيها معدل التأخير المرتفع وبطء الإنترنت وضعف الشبكة، وستجد أن تجربة الألعاب الأونلاين أصبحت كما لم تكن قد جربتها من قبل.

ستشتعل المنافسة لتصبح على أشدها، والفائز سيكون هو المُستحق الفعلي للفوز، ولن يفوز مجددًا بسبب سوء اتصال اللاعبين الآخرين بالإنترنت.

الواقع الممتد

مصطلح الواقع الممتد XR يضم كلاً من الواقع الافتراضي VR والواقع المدمج AR والواقع المختلط MR. وكما أوضح تقرير كوالكوم الصادر في أكتوبر 2018، يتطلب تطوير الواقع الممتد شبكة أرخص وأكثر رحابة، مع معدل تأخير أقل، ومزيد من الثبات.

فالواقع الممتد يحتاج إلى الكثير من البيانات المراد معالجتها، وإذا كنت تريد أن تغذي البيانات عن بُعد، فيمكن أن يكون هذا ضغطًا على الشبكة الحالية، ولكن مع شبكات 5G فإن هذا لن يكون مشكلة على الإطلاق.

ويمكنك تخيل كيف يمكن مثلًا لمهندس الصيانة أن يقوم بإرشاد العاملين في المصنع لإصلاح خلل ما في إحدى الآلات في حالة طارئة لا تحتمل التأجيل حتى يأتي المهندس بنفسه، فساعتها سيرى تفاصيل الآلة بأفضل جودة وأوضح صورة بدون تقطيع أو تأخير وسيمكنه إرشادهم للإصلاح بسهولة، وهذا الفيديو لنظارة الواقع المختلط Microsoft HoloLens 2 سيقرب لك الأمر.

شبكة السيارات ذاتية القيادة

دعك من التطبيق الحالي للسيارات ذاتية القيادة، فهي مذهلة وبدأت في الانتشار، ولكن ما هي أبرز عيوبها؟ عامل الأمان بالطبع، إذ إن الخطأ البشري من الآخرين هو ما يجعل تجربتها محدودة حتى الآن لأن هناك بعض الحالات غير ممكنة التوقع ستتصرف فيها السيارة بناءً على برمجتها السابقة سواء كان هذا التصرف هو الأصح أم لا في هذه الحالة بالذات.

ولكن نحن هنا نتحدث عن شبكة من السيارات ذاتية القيادة، جميعها ترسل البيانات بين بعضها البعض، وتتواصل مع إشارات المرور، وأجهزة استشعار الطريق، وما إلى ذلك. تخيل ما إذا كانت سيارتك تتفاعل وتوصل تحركاتها إلى مئات السيارات من حولها، وكل ذلك في غضون 1 ملي ثانية!

بهذا لن يمكن فقط أن ننهي حوادث السيارات، بل يمكننا إنهاء الازدحام المروري تمامًا. مئات السيارات ذاتية القيادة ستتجه بسرعة إلى وجهتها دون أي خطر من أن تتصادم، لأنها تعلم تمامًا أين هي في الوقت الفعلي، وتتفاعل مع العالم من حولها.

وبالطبع هناك الكثير والكثير من الاستخدامات الأخرى التي سيوفرها لنا هذا الفتح الجديد في عالم التقنية والاتصالات والإنترنت. ولكن هل الأمور مشرقة إلى هذا الحد، أم أن هناك جوانب أخرى مظلمة وخطيرة لمثل هذه التقنية ولا يسلط أحد عليها الضوء؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم.