تلاطمت الأمواج محدثة جلبة عالية. كانت الآلهة تقوم بتقليب محيطات السماء ممسكة بجبل مندرة كما لو كان ملعقة. تطاير الرذاذ وسقطت نقطة من هذا الرحيق على الأرض فإذا بنبتة ساحرة تشق طريقها نحو الوجود. هكذا تصف الهندوسية قصة ظهور القنب على الأرض. النبات الذي أطلق عليه اسم «النصر» عندما هزم الشياطين الشريرة التي حاولت الحصول عليه.

اعتبره الكهنة البراهمة سلم إلى التنوير الروحي بينما نظر إليه عموم المسلمين على أنه السبب في ضلال الصوفية. عرفت البشرية نبات القنب من قرون وقرون فنتج عن ذلك إن اختلفت الثقافات والمجتمعات في نظرتها إليه وإلى الحالة التي يتسبب بها. أما الباحثون فقد دأبوا على محاولة فهم لماذا الميكانيكية الدقيقة لتأثير هذا النبات على الإنسان.

والآن لأول مرة، تمكن العلماء من تصوير المستقبل receptor الذي يمكن القنب من التأثير في المخ البشري تصويرا دقيقا يظهره حتى تفاصيله البلورية.


خلفية عصبية

في القرن الثامن عشر، قام جون بابتست لامارك بالتمييز بين سلالتي القنب الأوروبي Cannabis sativa والهندي Cannabis indica. كانت –ولا تزال- هاتان السلالتان هما الأكثر استخداما وشيوعا لمختلف ضروب الاستهلاك الطبي والترفيهي، بل والديني في الطقوس الدينية الآسيوية، رغم اكتشاف سلالة ثالثة ثانوية. يحتوي نبات القنب بمختلف سلالاته –مع اختلاف النسب – على مواد كيميائية تعرف باسم phytocannabinoids وهي تعد المقابل النباتي لمواد كيميائية يفرزها جسم الإنسان طبيعيا تسمى Endocannabinoids ضمن ما يسمى بالنواقل العصبية neurotransmitters.

عادة ما تحتفظ الخلايا العصبية بهذه النواقل العصبية في جيوب صغيرة تعرف باسم الحويصلات التشابكية الصغيرة SSVs. عند وصول نبضة كهربائية كافية لنهاية عصب الخلية العصبية Axon، تلتحم هذه الحويصلات بالجدار وتطلق ما في جعبتها من نواقل عصبية إلى الفراغ الذي يتوسط نهاية هذه الخلية وبداية الخلية التالية. ما ان تنطلق النواقل العصبية إلى الفراغ التشابكي synaptic gap حتى ترتبط هي الأخرى بمواد كيميائية توجد على الخلية العصبية التالية. تسمى هذه المواد باسم Receptors أو المستقبلات. ما أن تتحد النواقل العصبية بها حتى تسري النبضة في الخلية العصبية الجديدة وهكذا يستمر سريانها حتى تصل للعضو المراد التأثير فيه. للكانبينويدات صفة مميزة عن بقية النواقل العصبية المعتادة، حيث يأتي اتجاه عملها معاكسا للاتجاه المعتاد فيتم إفراز الكانيبنويد من الخلية ليقوم بالارتباط بالمستقبلات على الخلية السابقة له.

تتسابق الكانبينويدات البشرية –أشهرها النواقل العصبية anandamide و 2-AG- مع الكانبينويدات النباتية -أشهرها delta-9-THC و cannabidiol- على الارتباط بالمستقبلات الموجودة في الخلية العصبية البشرية، لتتمكن من التأثير على المخ وإحداث الأعراض المعروفة من شعور بالسعادة وتقليل القلق. تنتمي مستقبلات الكانبينويدات إلى عائلة المستقبلات المقترنة ببروتين ج. ما أن يرتبط الكانابينويد بالمستقبل حتى تتم إثارة البروتين ج المقترن به والقادر على التأثير في العديد والعديد من العمليات الحيوية والعصبية وبهذا تنشأ فعالية الكانبينويد أو نبات القنب. من مستقبلات عائلة الكانبينويدات تلك ينبع الإنجاز الذي حققه باحثو معهد ihuman الصيني بالاشتراك مع عدة معاهد وجامعات صينية وأمريكية.


الصورة الأولى عن قرب

يعتبر المستقبل الأهم والأكثر شيوعا للكانبينويدات في جسم الإنسان وبخاصة جهازه العصبي المركزي هو المستقبل CB1. ينشأ النشاط العصبي لمادة تيترا هيدروكانابينول THC في الحشيش من اتحادها مع هذا المستقبل الذي تمكن الباحثون أخيرا من تحديد هيكله البلوري. تحقق ذلك بواسطة ربطه بمادة تساعد على تثبيته تسمى AM6538 صانعة معه «متراكب» يسهل كثيرا من دراسة المستقبل وتكوينه وكيفية ارتباطه بالمادة المقابلة له antagonist أي ارتباط المستقبل بالناقل العصبي.

يمثل فهم التكوين البلوري للمستقبل الأهم للكانبينويدات في جسم الإنسان CB1 علامة فارقة في الطرق نحو فهم ما لهذا النبات وما عليه

صممت مادة AM6538 خصيصا لهذه الدراسة. بنيت المادة على أساس جزيء معقد اّخر اشتهر بارتباطه بالمستقبل CB1 يسمى ريمونابانت Rimonabant ومن ثم تم عزل المتراكب للحصول على أول صورة ثلاثية الأبعاد. التقطت هذه الصورة بواسطة الميكروسكوب الإلكتروني مبينة المواقع المختلفة pockets التي يمكن لجزيئات عديدة الارتباط بالمستقبل بواسطتها. تنبع أهمية ذلك من حقيقة احتواء القنب على عدد كبير من المركبات –غير THC- التي قد ترتبط بالمستقبل متسببة في تأثيرات جانبية تؤثر على فعالية THC نفسه. الأمر الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار إذا ما تم استخدام القنب كمادة علاجية.

كانت مادة THC قد تم اكتشافها وعزلها منذ ستينيات القرن الماضي إلا أن أواخر الثمانينات والتسعينيات أثمرت عن اكتشافات متتابعة في هذا المضمار. فها هو المستقبل CB1 يكتشف ويليه اكتشاف المستقبل CB2 وأخيرا اكتشاف مواد مقابلة لمادة THC ينتجها الجسم طبيعيا وهي أناداميد و1-اراكيدونويل جليسرول المعروف اختصارا باسم 2-AG.

يمثل فهم التكوين البلوري للمستقبل الأهم للكانبينويدات في جسم الإنسان CB1 علامة فارقة في الطرق نحو فهم ما لهذا النبات وما عليه في خضم حملة موسعة لتقنين استخدامه الطبي. يذكر أن استخدام الكانبينويدات أظهر فعالية فيما يخص علاج زيادة الوزن، التدخين، وتقليل الشعور بالغثيان لدى مرضى الإيدز إلا أن اّثارا ضارة أيضا قد تم إسنادها لها من الاكتئاب إلى زيادة أعراض انفصام الشخصية.

كان رحيقا من محيطات السماء أو نبتة شيطانية، سيستمر العلم في محاولات إماطة اللثام عن كل ما في أعماق أوراق القنب الخضراء وكل ما في أعماقنا نحن من تشابهات بيننا وبينه. في النهاية، تحتاج الإنسانية للكثير من التفاهم والتخلص من الأفكار الجامدة لتفهم إمكانات ومساوئ هذا النبات فهما عميقا علميا محايدا بطبيعته.

المراجع
  1. Crystal Structure of the Human Cannabinoid Receptor CB1- Cell
  2. This Is the First Atomic-Level Image of the Weed Receptors in Your Brain – Motherboard
  3. Principles of Neural Science (4th edition) – Eric Kandel, James Schwartz, Thomas Jessell