ربما لا نعرف بشكل جازم مم نشأ الارتباط المعقد بين الطعم «الحلو» ووجود السكر في أذهان البشرية، إلا أن هذه الفكرة قد تردد صداها في كل الثقافات وشتى اللغات. لكن، حمل العلم في النصف الثاني من القرن العشرين في طياته أفكارًا مغايرة للفكرة المسلم بها في هذا المضمار، إذ اتضح أن بعض «السكريات» لا تتسبب في طعم «حلو» على الإطلاق بل وبعضها كان طعمه يميل للمرارة.

يفتقر هذا الجزء من العلم الحيوي إلى مقاييس موثوق بها كما في باقي العلوم الطبيعية أو الحيوية. فنجد أن قياس «الطعم» هو عملية تحتاج إجراء اختبار معياري لمجموعات من الناس، والحكم بواسطة المتوسط بناءً على خبرتهم، التي قد يشوبها الكثير من الخلل غير المقصود والاختلافات الطبيعية بين البشر وبعضهم البعض.

لم يزل فهم ماهية «الإحساس بالطعم الحلو sweetness» يخضع للتكهنات والتفسيرات الأكثر احتمالاً -دون تأكد- رغم اكتشاف مستقبلات/بروتينات حلمات التذوق المسئولة عن الإحساس بالطعم، ووجود بعد السيناريوهات التي تأمل أن تفسر الحدث كانعكاس للتصميم الجزيئي للمركب. إلا أن الأمر سيظل تحت التطوير حتى يصبح بالإمكان قياس هذه «الحلاوة» بصورة يمكن الوثوق بها.

وفي خضم الحراك العلمي نحو السيطرة على تفشي الأمراض الناجمة عن زيادة معدلات السكر في الأنظمة الغذائية للبشر يومًا بعد يوم، كان من اللازم محاولة استغلال وجود فارق بين كون المادة «سكرية» وكونها «حلوة المذاق» من أجل تصميم مواد لا تحمل سعرات حرارية عالية ولكنها تجعل الطعام مقبولاً. كيف حدث ذلك؟ بالصدفة البحتة.


خير من ألف ميعاد

http://gty.im/73847513

يخبرونك دائما أن تحترس من إراقة سوائل المعمل أو من ملامستها لجلدك مباشرة لما قد تسببه المواد الكيميائية في المعمل من أضرار مباشرة أو طويلة المدى. لكن النصيحة الكبرى تظل أن «تذوق محتويات أي قنينة أو زجاجة أو لعق الجلد بعد تلامسه مع مادة كيميائية هو أكبر الخطايا في المعمل الكيميائي».

ولم لا؟، إن مثل هذا التصرف قد يودي بحياة الباحث إذا كان سامًا وقد يصيبه بمرض خبيث على المدى الطويل، ولا تعوزنا الحكايات عن مثل هذه الوقائع المظلمة في تاريخ الكيمياء. لكن إن كان هناك من سيشكر الصدفة على جعله يقترف مثل هذه الخطيئة، فهو قسطنطين فاهلبيرج.

كان الروسي فاهلبيرج يعمل في معمل أبحاث تابع لجامعة جونز هوبكينز تحت إشراف أستاذه إيرا ريمسين على السكريات والمركبات العضوية المختلفة. أثناء عمله، انسكبت قارورة تحتوي على مركب كيميائي قد قام بتحضيره عدة مرات في السابق دون أن يتذوقه يدعى O-Benzoic sulfimide.

عند تناوله للعشاء، سيجد فاهلبيرج أن طعمًا حلوًا للغاية يسيطر على كل ما تلمسه يداه مما جعله يلاحظ أن طبقه مسكرة تغمر جلده. كانت تلك هي الصدفة التي أدت لاكتشاف الساكارين، أول المحليات الصناعية sweeteners في التاريخ، والتي أدت لظهور ما يعرف باسم «المحليات غير السكرية non-sugar sweeteners».

كما نرى، فإن الساكارين لا يعد سكرًا، إلا أنه قادر على تنشيط حلمات التذوق بنفس طريقة السكر وبدون التأثير الجانبي من السعرات الحرارية رغم أنه له تأثيره الجانبي الخاص في صورة طعم معدني خفيف بعد تناوله. نظرًا لغياب مقياس واضح لقياس «مدى سكرية» مادة ما، فقد تم الاصطلاح على أن معدل حلاوة السكروز sucrose سيمثل الوحدة unit؛ يعني هذا أنه إذا كان الساكارين قد تم قياس حلاوة طعمه فوصلت إلى 300-400 فإن ذلك يعني ان طعمه حلو بمقدار 300-400 ضعف حلاوة السكروز. لكن الطريق لن يلبث حتى يصبح شائكًا.


الدواء فيه سم قاتل

ظهر بحث يظهر الساكارين على أنه مادة مسرطنة فانتابت جموع البشر حالة من الذعر، عززتها اعتقاداتهم بأن كل ما هو مصنع معمليًا مضر. أصيبت فئران المعمل بالسرطان بعد تناولها لجرعات من الساكارين، وطالبت الجمعيات ووسائل الإعلام بمنع السم من أن يتم تداوله. بالطبع لم يهتم أحد بأن الجرعات المستخدمة في التجربة كانت ضخمة بشكل يفوق أي استعمال واقعي للمادة حتى أدى الأمر لظاهرة تحليلية بسيطة تسمى الترسيب بسبب التشبع.

لكل مذيب القدرة على إذابة كم معين من مادة مذابة معينة بحيث إذا زادت المادة المذابة عن حد معين فإنها لا تذوب وتترسب في القاع منفصلة عن المحلول. كان هذا بالضبط ما أحدثته الجرعات المهولة غير الواقعية من الساكارين في جسم الفئران المسكينة. عندما زاد الساكارين عن الحد، ترسب الساكارين على أغشية مثانة الفئران مسببًا التهابها ثم ارتفاع احتمالية السرطان لأسباب فيزيائية بحتة لا تمت للكيمياء أو هوية المادة ذاتها بصلة. كان إدراك هذه النقطة كفيلاً برفع المنع عن تداول المادة وإعادة الاعتراف بكونها آمنة، إلا أن النظرة المليئة بالريبة لن تبرح مكانها في أذهان الناس. سيتكرر الأمر مع الأسبرتام.


مزيد من الإهمال، مزيد من الاكتشاف

كانت دهشة جيمس شلاتر ضخمة عندما لعق طرف إصبعه بحكم العادة عند تقليب الأوراق فلاحظ طعمًا حلوًا جدًا لا يعلم مصدره. وإذا كان الطعم آتيًا من أي من أطعمته فإنه قد قام بغسل يديه مما يجعل سبب الطعم أكثر إثارة للاهتمام. كان التفسير الوحيد هو أن الطعم أتى من إراقته لمادة كيميائية نتيجة لتجربة قد قام بها في الليلة السابقة عندما مزج حمض الأسبرتيك مع حمض أميني يدعى فينيل ألانين.

تأكد شلاتر من ظنونه عندما تذوق السائل الموجود في القارورة وأذاقه لزميله. كان ما حدث هو أن التفاعل أدى لتكوين مادة الأسبرتام، والتي ستولد الكثير من الجدل لاحقًا. كان العامل الأساسي لاستبدال الساكارين بالأسبرتام هو عدم وجود الطعم المعدني بعد تناوله. ولأن الأمر بدا أكثر كمالاً مما يجب، فإن نظريات المؤامرة ما لبثت أن انتشرت بين المفزوعين من الكيمياء بالفطرة.

«لا تتناول الأسبرتام فهو يحتوي على الميثانول السام للغاية»، كانت هذه هي التهمة التي وصم بها المركب. ينحل الأسبرتام في الجسم مكونًا مادة الميثانول أو الكحول الميثيلي. إلا أن ما يغيب عن الأذهان هو أن الكمية المذكورة صغيرة للغاية لدرجة تصل إلى كونها أقل من أن تسبب مشكلة، بل إن الجسم البشري يتعامل بطبيعته مع كميات من الميثانول يصنعها بنفسه ويتلقاها من الخضروات والفاكهة دون أية أضرار.

بينت الحادثتان –الساكارين والأسبرتام- أهمية التفاصيل الغائبة عن وعي الجمهور، خاصة التفاصيل التي تتحدث عن «النسب والأرقام». قد يتختلف أو ينعكس معنى معلومة ما تمامًا عند إضافة أو غياب الأرقام أو حتى وحدات القياس المستخدمة في إجراء تجربة ما؛ مما يجعل الحقيقة تكمن في مثل هذه التفاصيل الدقيقة، والتي لا يلقي لها الجمهور بالاً.

مجمل القول هو أن العديد من الكوابيس التي تؤرق البشر وتشعرهم بالغربة عن التطور العلمي ومنجزاته وتطبيقاته لا تنشأ عن قيم التقدم أو الحداثة بحد ذاتها، ولا من كون الصناعات المعبرة عن الغرور البشري هي مجرد مرآة لطمع وجشع الأغنياء، بل تنشأ فقط عن غياب المعرفة؛ عن الجهل.

المراجع
  1. General Organic and Biochemistry (2nd edition) – Ira Blei, George Odian
  2. Food, the chemistry of its components (4th edition) – T. P. Coultate
  3. Sweeteners and Sugar Alternatives in Food Technology (2nd edition) – Kay O'donnell, Malcolm Kearsley